Darebhar

Share to Social Media

٢
إذًا كانت مي فتاة شديدة التكبر والغرور وسريعة الانفعال؛ فأخي أنس على النقيض منها تمامًا!
أنس شاب طيب القلب، هادئ ورقيق كنسمات الصيف، يمتص غضب وانفعال من حوله بصبرٍ، كما أن مجرد الحديث معه يجعل الشخص شديد العصبية شديد الهدوء، ورغم أنه يمتلك من المقومات ما يجعله يتفاخر على الكثيرين، إلا أنه متواضع للغاية، ويتعامل مع الجميع بحبٍ واحترامٍ، الفقير قبل الغني، والضعيف قبل القوي.
ويمكن القول بأن مقومات التفاخر من الأشياء القليلة جدًا المشتركة بين أنس ومي؛ فمي فتاة شديدة الجمال، ذكية، قوية الملاحظة، لها حضور اجتماعي طاغٍ، تجذب الأنظار إليها في أي مكانٍ تتواجد به، كما أن انتماءها لأسرةٍ غنية إلى جانب امتلاكها شركة استثمارية كبرى في دبي، جعلها أيقونة حية للموضة، وهو الأمر الذي جعلها بدوره فتاة أحلامٍ للكثير من الرجال، حتى أولئك الذين ليس لديهم من الإمكانات ما يؤهلهم للارتباط بها، أو حتى مجرد الحديث معها!
باختصار، يمكن القول بأن عنجهية مي لها مبررات قوية لا يمكن تجاهلها!
أنس أيضًا شاب وسيم، ذو طلة مهيبة، شديد الذكاء، نجح خلال سنواتٍ قليلة بعد تخرجه من الجامعة من إقامة شركة خاصة ناجحة في القاهرة، أصبح لها صيتها واسع الانتشار، ورغم أن أسرتنا غنية تمامًا كأسرة مي، إلا أن أنس بدأ مشروعه هذا من الصفر في مجالٍ بعيدٍ كل البعد عن مجال عمل والدنا، ورغم ذلك لم يكن أنس مولعًا بارتداء العلامات التجارية المعروفة، أو امتلاك الأشياء باهظة الثمن؛ كان يرتدي من الملابس ما يناسبه فقط حتى ولو لم يكن غاليًا، وكان يقتني من الأشياء ما يحقق له الراحة حتى ولو كان بمقدوره اقتناء الهواتف الأغلى، والسيارات الفارهة، كما أن تواضعه جعله قليل الحديث عن إمكاناته المادية؛ حتى لا يُشعر الآخرين بعلو مكانته عن مكانتهم.
وقد يرى البعض أمرًا في شخصية أنس إيجابيًا، ويراه الآخرون سلبيًا؛ وهو عدم اهتمام أنس بنفسه إذا تطلبت الظروف اهتمامه بمن حوله، وهو ما حدث بالفعل في فترة ما قبل حفل زفافي بأسابيع قليلة؛ حيث صب أنس كل اهتمامه بي وبترتيبات زواجي، وتغافل على سبيل المثال عن الذهاب لطبيب الأسنان لعلاج ضرسه المكسور، وعن الاعتناء بمظهره، وحتى عن إصلاح سيارته التي كان يقضي بها المشاوير الخاصة بترتيبات زواجي، والتي سافر بها فجر يوم الجمعة السابق ليوم حفل زفافي إلى شرم الشيخ لملاقاة مي.
وحدث ما تتوقعون تمامًا؛ تعطلت السيارة في منتصف الطريق الطويل بين القاهرة وشرم الشيخ.
خرج أنس من السيارة في موقع بالطريق ليس به سوى الجبال والرمال والبحر، وحاول عبثًا أن يصلح العطل الذي أوقف السيارة فلم ينجح، ولم يجنِ من ذلك سوى اتساخ يديه وملابسه، وفي النهاية اضطر أنس لاستكمال الطريق داخل سيارته المعطلة مسحوبًا بسيارة ضخمة لنقل المواد الغذائية، وكان ذلك سبيله الوحيد للحاق بموعد وصول مي إلى مطار شرم الشيخ.
وما إن وصل أنس إلى شرم الشيخ حتى حل سيارته عن السيارة الضخمة ووضعها بجراج الفندق، وقفز مسرعًا داخل سيارة أجرة للذهاب إلى المطار، يحدوه أمل الوصول هناك قبل أن تخرج مي من المطار ولا تجده في انتظارها.
وتحقق له ما يريد؛ فبمجرد وصوله إلى المطار تم الإعلان عن وصول رحلة مي، وظل أنس ينظر بشغفٍ إلى ركاب الطائرة وهم يتجهون إلى خارج المطار بعد إنهاء الإجراءات المعتادة، حتى وقعت عيناه على مي لأول مرة بعد أشهر من الدردشة عن بعد عبر وسائل التواصل المختلفة؛ اتسعت ابتسامة أنس وهو يتجه إلى تلك الفتاة الساحرة شديدة الجمال، والتي أنهت لتوها الإجراءات وسحبت حقيبتها ووقفت تتلفت يمينًا ويسارًا؛ بحثًا عن هذا الشاب الوسيم الذي واعدته عبر الإنترنت.
ولم ينتبه أنس، من فرط سعادته، إلى أن اللقاء الأول لن يكون متكافئًا؛ فمي تزينت وتأنقت تمامًا لهذا اللقاء، بينما يتجه هو نحوها وهو أشعث أغبر متعرق، ويداه وملابسه متسخة.
وما إن اقترب أنس من مي حتى اكتسى وجهه بسعادةٍ غامرة، وزادت نبضات قلبه وهو يقول بابتسامةٍ واسعة وصوتٍ حنون:
- صباح الخير.
وكما هو متوقع، نظرت إليه مي بسرعة دون أن تتعرف عليه، وعادت تنظر يمينًا ويسارًا وهي ترد ببرودٍ:
- صباح النور.
لم يهتم أنس بعدم تعرف مي عليه من الوهلة الأولى، فقال لها برقةٍ:
- حمد الله على سلامتك يا مي.
وللحظةٍ لم تدرك مي أن الشخص الواقف إلى جوارها خاطبها باسمها، فردت ببرودٍ دون أن تنظر إليه:
- الله يسلمك.
وتنبهت فجأةً لاسمها الذي نطق به هذا الرجل؛ فنظرت إليه ببطءٍ، ثم أخذت تدقق النظر، وظهرت الدهشة على ملامحها وهي تسأل ببطءٍ:
- أنس؟
ابتسم أنس ولم يرد، فتبدلت ملامح مي إلى الانزعاج وهي تقول:
- أنت أنس؟!
لاحظ أنس انزعاج مي؛ فابتسم ابتسامةً واسعةً وهو يجيب:
- أيوه يا مي أنا أنس، رحلتك كانت كويسة؟
وفي هذه الأثناء، كانت مي تتجول ببصرها في هيئة أنس كاملةً، ثم لاحظت أمرًا لم تتحقق منه وهو يبتسم، فابتسمت حتى ظهرت نواجزها، وكان رد فعل أنس أنه رد على ابتسامتها بابتسامةٍ أوسع؛ فتحولت ملامح مي مجددًا للانزعاج وهي تقول بعصبيةٍ:
- وكمان ضرسك مكسور؟!
أغلق أنس فمه بسرعةٍ، وحاول تجاوز الموقف قائلًا:
- خليني أخد منك الشنطة، متتعبيش نفسك.
صرخت مي في وجهه:
- أنت بتعمل إيه؟! إياك تحط إيدك القذرة دي على حاجتي! أنت فاهم؟!
نظر أنس إلى يديه مرتبكًا وهو يقول:
- أنا هفهّمك، أصل...
قاطعته مي بدفعةٍ قويةٍ في صدره وهي تقول بانفعالٍ:
- أنا مش عايزة أفهم حاجة! وسّع من قدامي!
ربما كانت مي على حق؛ فمظهر أنس لم يكن لطيفًا على الإطلاق!

سارت مي بعصبيةٍ داخل المطار وهي تهمهم بكلماتٍ غير مسموعة، فتابعها أنس قائلًا:
- مي، استني، أنتِ رايحة فين؟
لم ترد عليه مي وتابعت سيرها نحو مكتب حجز التذاكر، ثم أدركها أنس عند المكتب وهي تقول للموظفة الأنيقة:
- عايزة تذكرة للقاهرة دلوقت حالًا!
- تحت أمرك يا فندم.
اندهش أنس، وتحدث إلى الموظفة قائلًا:
- استني لو سمحتي.
توقفت الموظفة عن الطرق على لوحة المفاتيح التي أمامها، فيما نظر أنس إلى مي وسأل ببراءةٍ:
- فيه إيه يا مي؟
استمعت مي لسؤاله وهي تدق بكعب حذائها الأرض بعصبية، وأطلقت زفيرًا قويًا قبل أن تتحدث لموظفة حجز التذاكر بعصبيةٍ:
- فين التذكرة؟!

أجابت الموظفة بهدوءٍ:
- للأسف يا فندم، مفيش أماكن فاضية على طيارة القاهرة اللي هتقوم كمان ساعتين، لكن فيه أماكن على طيارة شركة تانية هتطلع كمان سبع ساعات.
انفعلت مي وهي تقول:
- سبع ساعات؟! أنا لو مسافرة دبي تاني مش هاخد الوقت دا كله بالترانزيت، فضي لي مكان في الرحلة اللي كمان ساعتين.
نظر أنس والموظفة إلى مي باستغرابٍ قبل أن ترد الموظفة:
- مقدرش يا فندم، الحجوزات كلها متأكدة ومفيش حد اعتذر عن الرحلة.
- يعني إيه؟!
- يعني أول مكان متاح على طيارة للقاهرة مش هيكون قبل سبع ساعات زي ما قلت لحضرتك.
قالت مي بحدةٍ:
- عايزة طيارة خاصة للقاهرة دلوقت حالًا!
سكتت الموظفة وهي تنظر لمي بتعجبٍ، فيما حدثها أنس قائلاً:
- مي ممكن لحظة بس نتكلم سوا؟
صرخت مي في وجه الموظفة بعصبيةٍ:
- عايزة طيارة خاصة!
ردت الموظفة بارتباكٍ شديد:
- مش هينفع يا فندم؛ لأن...

انفعلت مي بشدة وهي تقول بصوتٍ عالٍ:
- هو كل حاجة مش هينفع مش هينفع! أوف!
أمسكت مي بحقيبتها وغادرت مكتب حجز التذاكر؛ فنظرت الموظفة إلى أنس بقلقٍ وهي ترفع كتفيها لأعلى، فطمأنها أنس قائلًا:
- متقلقيش، مفيش حاجة .. مفيش حاجة.
ثم تحرك أنس للحاق بمي التي خرجت من المطار، ووقفت أمام بابه وهي شديدة الانفعال، وما إن وصل إليها أنس حتى سألها:
- مي ممكن أفهم أنتِ عصبية كدا ليه؟
نظرت إليه مي وهي تجيب بحدةٍ:
- ممكن حضرتك تروح تجيب عربيتك حالًا وتوصلني لمحطة الأوتوبيس؟!
قال أنس بتلقائيةٍ:
- معيش عربية.
انفعلت مي وهي تصرخ في وجهه:
- كمان مفيش عربية؟!
- أصل...
ولم يكمل أنس عبارته، حيث اتجهت مي إلى سيارةٍ أجرة وطلبت من قائدها التحرك إلى محطة الأوتوبيس؛ فحاول أنس إثناءها عن ذلك.
- مي، لو سمحتِ اسمعيني.
تجاهلته مي وهي تقول لقائد السيارة بحدةٍ:
- أنت مستني إيه؟! اتحرك على محطة الأوتوبيس.
بدأت السيارة في التحرك؛ فاضطر أنس لاستقلال سيارة أجرة ثانية بسرعة قائلًا:
- ورا العربية اللي هناك دي يا أسطى لو سمحت.
وأثناء الملاحقة، نظر أنس إلى يديه وملابسه قبل أن يبدو على وجهه الامتعاض، ثم تابع بنظره السيارة التي تتواجد بها مي، وتعجب عندما وجدها تقف في منتصف الطريق وتهبط منها مي قبل أن تغلق بابها بعنفٍ؛ فطلب أنس من قائد السيارة التي تقله التوقف عند مي، وخرج منها قبل أن تنطلق وتترك أنس ومي بمفردهما على جانب الطريق.
- مي، ممكن أفهم أنتِ عايزة تسافري القاهرة ليه؟
نظرت إليه مي قبل أن تقول بعصبيةٍ:
- اتفاقنا لاغي يا أستاذ أنس، أنا مش هفضل معاك هنا.
سألها أنس بتلقائيةٍ:
- ليه بس؟
أجابت مي بانفعالٍ شديد:
- عايز تعرف ليه بس؟! علشان حضرتك كداب وغشاش ومخادع!
تعجب أنس من رد مي ولم ينطق؛ فتابعت وعلى وجهها علامات اشمئزازٍ:
- إيه شكلك دا؟! هدومك متوسخة وأقرع وضروسك مخلعة! بقى بذمتك أنت الشاب الوسيم اللي شفت صورته! وفضلت أكلمه كذا شهر على فيسبوك؟! مستحيل طبعًا! ضارب صورة فوتوشوب بتضحك بيها على البنات؟! عيب عليك يا أخي! منظر مدير شركة دا ولا واحد رد سجون؟!
تفهم أنس أسباب انفعال مي، فتحدث إليها بهدوءٍ قائلًا:
- صدقيني يا مي، أنا مكدبتش عليكِ، كل اللي أنتِ شيفاه دا له أسبابه وأنا ممكن أشرحها لك.
- أنا مش هسمع حاجة، خلص الكلام، أنا هسافر مصر أقضي أسبوع الإجازة مع أهلي بدل ما أقضيه مع واحد كداب ومنافق زيك!
قال أنس ببراءةٍ:
- طيب وحجز الفندق؟ أنا حاجز لك...
قاطعته بعصبيةٍ:
- وأنا المفروض أصدق إن واحد زيك حاجز لي أسبوع في فندق خمس نجوم؟! أنت كبيرك تقعد متداري في عشة في الصحرا وسط الجمال والبهايم علشان تهرب من البوليس!
رد أنس بهدوءٍ:
- طيب ممكن أقترح عليكِ حاجة؟
أشاحت مي بوجهها عنه ويعم جسدها انفعالٌ شديدٌ؛ فتابع أنس بابتسامةٍ رقيقة:
- أنتِ لسه جاية من سفر طويل وطيارتين، إيه رأيك لو تيجي معايا وتتأكدي بنفسك إن فيه حجز باسمك لمدة أسبوع في الفندق اللي قلت لك عليه؟ ولو طلعت كداب في النقطة دي هوصلك بنفسي لمحطة الأوتوبيس علشان ترجعي القاهرة!
استمعت إليه مي بعصبيةٍ دون أن تعلق؛ فواصل حديثه مبتسمًا:
- ولو عليا أنا يا ستي بلاش تعتبريني الشخص اللي فيه بينك وبينه مشروع ارتباط لو دا هيريّحك، اعتبريني صديق شكله وحش شوية هتقضي معاه أسبوع هنا علشان تغيّري جو، ولو إني واثق إنك هتغيّري رأيك فيا لما تشوفيني من غير الهدوم الوسخة وشعري المنكوش، وهترجعي تثقي فيا لما نتكلم أكتر مع بعض.
نظرت إليه مي وهي تقول بحدةٍ:
- أنا هاجي معاك الفندق وعلى الله ميطلعش نفس الفندق اللي قلت لي عليه، لكن الأسبوع اللي هقضيه هنا مش عايزة أشوف فيه وشك ولا أسمع صوتك نهائي! ماشي؟!
تنهد أنس بيأسٍ وهو يقول:
- حاضر.
أمرته مي بعنجهية:
- اتفضل وقف لنا تاكسي.
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.