أما قبل
"لتنم المدينة اليوم مبكرا، ولتغلق الدكاكين أبوابها عصرا، ولتَخلُ الطرقات من وقع الأقدام، ولتجمع النساء أرديتها المعلقة بحبال الأمل قبل أن تجف، وليلتحف أهل المدينة لحاف الخوف، وليستدعوا من يستطيع أن يوقف ارتعاشات أفئدتهم، واصطكاك أسنانهم، ولا تنسوا في غمرة الذعر أطفالكم، عليكم أن تقبروا أحلامهم البسيطة فلا يبين لهم صوت أو يسمع لهم ضحكة بريئة وإن ترددت بصدورهم.
المدينة اليوم في هم عظيم وكرب مقيم، عاد أبو الأظى ثانية للظهور، الخفر تتعقبه، ربما يحدث تراشق نيراني أو تطيش الأعيرة النيرانية فلا تفرق بين أحد، عليكم أن تكونوا موتى بخاطركم، بدلا من أن تصبحوا موتى رغما عنكم".
على ضفاف بحيرة عظيمة، تنام مدينة صغيرة أهلها طيبون، يسعون لأرزاقهم، قلوبهم ملأى بأمل بعيد، لا يعكر صفوهم سوى شبح أبو الأظى الذي لا يعرفه أحد، ولا وقع بصر أحد عليه، كل حدث عظيم وراءه أبو الأظى، كل جريمة قتل وراءها أبو الأظى، الشبح الذى يهدد الحياة دون هوادة هو أبو الأظى.
نُسِجت حوله الحكايات، عزف الراوي على ربابته حكايته، اللص، القاتل، المتمرد، الخارج عن القانون، وصاحب القلب الذى قُضَّ من حديد فلا يعرف للرحمة طعما ولا للرأفة طريقا.
مقهى زرزور
كان المقهى العتيق لأهل المدينة يقبع على شاطئ البحيرة، بعيدا عن العمران، غرست أعمدته على مساحة واسعة؛ قوائم خشبية من أخشاب الكافور، معروشة بسِدَدٍ كانت تصنع يدويا من غاب البحيرة، يحاط بسدد أخرى مصنوعة من الخوص وبه عدة أرائك على أجنابه، وعدة كراس خشبية مقاعدها من الخوص المنسوج.
بواجهة الخلاء الوحيد بالمقهى يقف صبيا خلف نصبة من بناء متعرج يصنع المشروبات، ويكرِّس الجوزة. ومكان زرزور لا يتغير بجانبها.
سكان المدينة -وقتئذ- لم يعرفوا الكهرباء بعد، إنما كانت الإنارة تصدر عن مسراج يشبه الفانوس ذو إطار حديدي يبيت بأخدوده الزجاج، له باب بأحد الجوانب، ينام بداخله مصباح "لمبة" يقاد بالكيروسين، يعلق بمنتصف المقهى، ينير بالكاد مسافة متر مربع، كانت ذبول فتيلته إشارة للتشطيب، تستطيع أن تكتشف سبب إقامته بعيدا على الشاطئ ساعة تقتحم أنفك رائحة الدخان المتشبعة بالحشيش عندما يهب عليك نسيم البحر إن دعتك نفسك للسير بالقرب من المقهى.
المقهى لرواده السلوى والراحة، ينشدون بين أجنابه المزاج، يعقدون بمجلسهم على كراسيه المشدودة قاعدتها من الخوص صفقاتهم.
أبوابه لا تغلق، يستقبل في الصباح مع صياح الديكة الصيادين الذين يبحرون مع أول ضوء، يعرجون عليه للتزود بالأنفاس الساخنة، والحصول على الزُّوادة من المعسل الذى يصنعه المعلم زرزور بيديه من التبغ المخلوط بالعسل الأسود، الوقت الوحيد الذى تستطيع رؤيته وهو يدندن محبورا عندما يمسك بمقصِّه عيدان التبغ ليقطعها أجزاء صغيرة ناعمه، ثم يصب فوقها العسل بمقدار ويأخذ في عجنهما وهو يغني، ثم يبدأ في تقسيم ما عجنه إلى أجزاء حسب عيار معلوم بورق السوليفان، قبل أن يتداعى عليه الصيادون ليتزودوا به.
يقول الراوي:
إن أبو الأظى ولد بدون قلب، لا يعرف أحد كيف يعيش، يتنفس كالأحياء، يتحدث كالشيطان، منذ ولادته لا يعرف معنى الرحمة، لا يشعر بردا أو حرا، جسده الصلب هو الدرع الذي يحتمي وراءه، أول ضحاياه أبوه، ما يزال جذع الشجرة العجفاء بجوار المنزل المهجور بأطراف المدينة يُسمَع أنينها ليلا وهي تبكي ما حدث، قيَّد أبو الأظى أباه إليها، شد وثاقه جيدا، تركه ليلتين يستنطقه، يريد إقرارا أنه من ولد آدم، وليس من نسل الشياطين، لم تردعه دموع أبيه، لم يرحم شيبته، أقسم له أبوه بوكيد الأيمان أنه ابنه من صلبه، وأمه صالحة، ولا صحة لزعم كاذب لاكه المرجفون. كانت نار القسوة بداخله مستعرة، صُمَّت أذنيه فلم يسمع حديثه، وران على قلبه حجر من الصلب لم يلن عند بكاء أبيه، قال له:
- لماذا تفعل بي ما تفعل، ألست أباك الذى أنجبك؟ ألست من ربَّيتك حتى دبت العافية بساعديك؟ ألا أستحق الرحمة عند هرمي؟
قال أبو الأظى:
- لا أشعر بأبوتك، كنتُ دائما أشك أنك أبي واليوم عرفت الحقيقة كلها، البلدة لا حديث لها سوى عن صفقتك المريبة مع الشيطان، بعتني صغيرا إلى الجان من أجل ماذا لا أعلم!
لم يحدث يا بني، هذه خلقتك التي خلقك بها ربك، أترفض أن تكون قويا؟ أترفض أن تكون مرهوب الجانب؟ أترفض أن تأخذ بحقي ممن أهدر كرامتي طيلة عمري؟
- عمن تتحدث؟
- أتحدث عن الجمل؟ نعم الجمل الذي ارتميت بأحضانه، ونفث فيك من روحه القذرة حتى يحول بيني وبينك؟
- إنني لم أر منه إلا كل خير، تحاول الوقيعة بيني وبينه.
- بل الوقيعة هي ما يحاول غرسها بيني وبينك بعدما عرفت حقيقته القذرة.
- أي حقيقة تلك؟
حقيقة تجارته، إنه هو من قتل أمك، ويحاول اليوم قتلي بيدك، ابحث عن الحقيقة يا بني ولا تحمل وزر موتي، ابحث عن الحقيقة إن مت، الجمل هو الشبح الخفي، هو أبو الأظى الحقيقي ولست أنت، يتحرك في الظلام دون أن يراه أحد، أنت مجرد فزاعة لإرهاب الناس، ألا ترى أن كل حادثة ورائها أبو الأظى، ألم تكن وراء موت ضابط النقطة؟ ألم تكن وراء إغراق مركب الريس عوكل؟ ألم يشيع أنك قتلت أمك بيدك حتى لا يلحقك عارها؟.
- اسكت اسكت يا أبي إنني لم أفعل شيئا من ذلك.
- إذن ما أقوله هو الصدق أنت مجرد أداة، يفعل بك ما يعجز هو عن فعله، ابحث يا ولدي عن الحقيقة بدلا من أن تلوث يدك بدمي.
قالها الرجل وفاضت روحه، بعد أن حمل ابنه وزر موته، لكنه أقسم على الانتقام من الجميع.
كان المستمعون غارقين في سماع حكايا أبو الأظى التي لا تنتهي، ينتظرون الراوي كل ليلة ليستمعوا بقلوب واجفة لسيرة الشبح الذى لا يعرفون عنه شيئا، ولا يتصورونه، والراوي يجيد التفنن في الحكايا، يضيف لها دائما ما تميل معه رؤوس المستمعين طربا.
أصبح أبو الأظى كائنا هولاميا يتشكل بألف وجه، حد أنهم كانوا يخشون أن يكون جالسا بين ظهرانيهم يستمع للحكايا بمقهى زرزور عندما تغيب الشمس ويسدل الليل لباس السواد. فكانوا يتلفتون بين الفينة والأخرى، ويكتم كل واحد عن جاره ما يشعر به، زاد شغفهم بحكاياته يوما بعد يوم، كان يدفعهم شعور قوى أن يصدقوا الحكايا فصدقوها.
* * *
كان الشيخ صالح بلحيته الرزية، وجلبابه الناصح البياض يزيد من استغفاره وهو يمسك بمسبحته كلما علت صيحات الإعجاب والاستحسان كلما جوَّد الراوي، وأتى بالجديد الذي يزيد بهتانا كل مرة. ورغم مرور السنين، وتغير وجه البلدة إلا أن قهوة زرزور احتفظت بطابعها القديم، فكان يهوي إليها، ولا عجب أن يتعلق بها وهي من شهدت أحداثا جساما، وكانت ملتقاه بصديق عمره.
صالح الآن بسن الثلاثين من عمره، شاب دبت الفتوة بساعديه، لا يبدو- شكلا- من طبقة الفقراء المعدمين الذين تمتلئ بهم مدينته القابعة بعيدا عن العمران، كانت دائما سماته الجسدية محط الاندهاش ممن حوله، شعره الأشقر، بياض بشرته، عيناه الزرقاوان كلها سمات غريبة على مدينة أهلها فقراء، جهلاء، ضربت شمس البحيرة وجوههم فصبغتها بالاسمرار، عصفت بهم الأيام فطبعت أفئدتهم بتصديق الأساطير التي تروى، وبرغم أنه لم يكمل تعليمه الذى توقف عند حفظ القرآن بالكُتَّاب، إلا أنه كان متفتحا، ذا رأى صائب، لا يقدم على شيء دون تفكير، ما دعا الكثيرون أن يتعاملوا معه بحرص شديد، خشية من مجادلته التي تؤكد جهلهم بحقيقة الأمور.
ورغم التقدم الذى بدأ حسيسا على أهل المدينة؛ وظهر في دخول الكهرباء والمياه النظيفة لبيوت الخاصة منهم، إلا أنهم ما يزالون يعتقدون فيما يروى لهم من أساطير، كأنهم اعتادوا على صم آذانهم، وكم أفواههم، كما اعتاد من قبلهم على تصديق الإشاعات التي كان يطلقها الجمل كمخدر حتى يعمي أبصارهم عن حقيقة ما يفعل.
صالح ليس من هؤلاء الدراويش الذين يستملحون سرد القصص الوهمية، لم تنطلي عليه الحكايا المدلسة عن صديق عمره الذى يعرفه جيدا، لقد خبره لعدة سنين، حتى اختفى، هو الذى يعلم حقيقته، تعجب من هؤلاء الذين لم يصدقوا حديثه عندما دافع عنه حتى يئس من المحاولة، وبات يطوي بقلبه الحقيقة. لم يعد يتناولها إلا بينه وبين نفسه، فبينما كان الرواة يلوكون حكاياهم، كان هو يهيم مع نفسه يجتر ما علق بذهنه منذ كان صغيرا. ويستدعى الأحداث لتتراءى أمام ناظريه كأنها حدثت منذ قليل.
ترك صالح العنان لمخيلته دون لجام يكبحها، كان بحاجة لأن ينفصل بروحه عن المرجفين وطالبي حدوتة ما قبل النوم، حتى وإن ترك جسده بينهم، توحد عقله وروحه وحلَّق بعيدا يستدعي أصل الحكاية ليتزود بها إن تطلب الأمر لمواجهة الادعاءات الكاذبة، فالطريق طويل وشاق، وطالب الحقيقة دائما في كد ونصب، ربما جاء اليوم وانكشف عنها الغطاء.
* * *