صالح هو الابن الوحيد لفريدة الدَّاية التي ولد بدر على يديها، في ليلة شاتية، توطدت العلاقة بينها وبين هند زوجة صبيح النجار. فريدة لم تنقطع عن زيارة هند، تتابع المولود الصغير، وما كان وراءها من دافع سوى الخوف على المولود الذى رأت فيه بعين الخبرة أنه مختلف عن الأطفال الذين قامت بتوليدهم، لم يخف على عينيها الخبيرتين بشئون الأطفال تلك الطفرة المختلفة التي تسم الطفل الوليد، الحجم والقوة،كانا الباعث على اهتمامها، ومحاولة تبصير الأم بما قد يقابلها من مشكلات وأولها الحسد، فمنذ لامست يداها جسد الطفل شعرت أنها تلامس كتلة من قوة تقاومها، حتى بعد استنشاقه هواء الحرية، كان مختلفا، تولد الأطفال مغمضة العينين، ببِنْيَة تشبه العجينة الطيعة، غير أنها لاحظت عينيه المشرعتين كأنه يريد التحدث بشيء، والجسد الغض أشد صلابة من أجساد الأطفال حديثي الولادة، شعرت داخلها أن اختلافا بيِّنا بينه وبين من استقبلتهم قبلا، ومن ثم رأت تبصير الأم بذلك.
الحديث الذى يدور بينهما دائما عن الطفل وما يتمتع به، حتى خشيت الأم أن يكون ذلك نوعا من الحسد خابيا، بينما قطعت فريدة حبل الشك الذى بدا بنظرات الأم عندما قالت: انتبهي لي يا هند، ولا تأخذك وساوسك بعيدا، إن طفلك هذا حالة فريدة لم تمر علىَّ قبلا، ولتعلمي أن خوفي عليه هو ما يجعلني أطمئن عليه دائما، وقد أغيب عنك بعد ذلك. يجب أن أنبهك لشيء، إن ابنك هذا قد يكون لك هدية من السماء تعوضك ضنك الحياة وشقائها وقد يكون الشقاء بعينه الذى تتمنين معه لو لم يولد، فانتبهي لذلك، وحافظي عليه، لا تدعيه لهوى نفسه فيتلقفه من يوجهه لمصالحه التي قد تكون منافية لهواك وهوى والده.
كانت الكلمات تشق صدر الأم كسكين حاد، ما دعاها -بعد ذلك- للملاحظة، وإغلاق الباب عليها وعلى طفلها، إلا أن استمرار ذلك كان ضربا من المستحيل.
انقطعت فريدة عن زيارة هند شيئا فشيئا، لكن العلاقة بينهما تواصلت مرة أخرى، بعدما التحق بدر بكتاب الشيخ عطيَّة.
تميز بدر بنجابته في حفظ القرآن والتي لا يضارعها سوى نجابة صالح ولد فريدة، الذى كان هو الآخر يتميز بقوة جسده على صغره، وبرغم ما أبدى بدر من تسلط على زملائه جعلتهم ينفرون منه، إلا أنه كان يتوقف أمام صالح دون أن يناوءه، فقلوب الصغار تعرف هي الأخرى الحب الطاهر الشفاف، ربطتهما علاقة حب وصداقة مختلفة، كان فيها صالح في كثير من الأحيان صمام الأمان لتهور بدر الغير مبرر، وكم من مرات كبح تهوره، ومنعه عن نفسه الآبقة كثيرا بهدوئه ورويته.
حين انقطع بدر عن الكتاب، لم ينقطع عن صديقه الذى نما بينهما الحب كلما نما جسداهما، كان التلاقي بينهما يغسل كلاهما من عفن التهور، كأن صالح أصبح كالمهدئ لفوران نفس بدر الذى لا يتحكم في فوران جسده عندما يدعوه دائما إلى أذى غيره، كان بدر عند لقائه بصالح يهدأ نفسا، ويصبح إنسانا آخر غير الذى يعرفه أهل البلدة.
فذات مرة كعادتهما؛ جلس بدر إلى صديقه بمقهى زرزور يقص عليه ما فعله اليوم بالمباراة التي شهدها الجمل، وكيف أعجب به الجمل وبقوته، مخبرا أنه سيتولاه برعايته. جاء حديثه مخلوطا بإعجابه بالرجل وبما يقوم به تجاه شباب البلدة، بينما كان صالح شارد الذهن، ينظر بعيدا تجاه البحيرة، كأنه يتابع حركة الطيور المهاجرة التي تحلق أسرابها كأنها أعلام مرفرفة، أبدى بدر ضيقه لإهمال صديقه له، حد أنه توقف عن الحديث ولم يطلب صالح المواصلة، ما تأكد معه انشغاله، فزاد حنقه، لكنه لم يمل مناداة صديقه الذى اتهمه أن حديثه لا يعجبه ومن ثم كان انصرافه عن سماعه. طمأنصالحصديقه أنه يسمعه جيدا؛ والحق أن ما بدا من انصرافه ما كان سوى إغراقه في التفكير بما يقول بدر، ربما تختلف زاوية رؤيته للأمر، ومن ثم كان صمته حتى لا يغضب صاحبه.
استشعر بدر أن بالأمر شيئا، ربما يتخوف صالح من أمر ما، لذا طلب إليه رأيه فيما قال. بدا استشعار بدر صحيحا عندما أخبره صديقه أنه بالفعل يتخوف من أفعال الجمل، بخاصة أن الطبع غلاب على أصحابه، وتاريخ الجمل ينطبق عليه المثل " إن الحدأة لا تلقي بالكتاكيت"
اعتدل صالح وولى وجهه ناحية صديقه معربا أن الآتي من الأهمية بمكان وما يرى إلا أنه يرمي لشيء من وراء ذلك. كان رأي بدر أنهما لا يملكان أن يحاسبا أحدا على نيته فهذا موكول لخالقهم. نبه صالح أن عليه الحذر، بخاصة إن داخله الشك بناء على معطيات سابقة.
داخَل بدر الشك في حديث صاحبه الذى قرأ ما بين سطوره فارتاب أنه يريده الانقطاع عن الجمل بيد أن صالح لم يعطه الفرصة لاستنتاج خاطئ عندما أخبره في ثنايا حديثه أن عليه فقط النصيحة على الأقل في تلك المرحلة وأوصاه بالحذر وألا يأخذه معسول كلامه، فهو -أي الجمل- يجيد وضع السم بالعسل. غير أن بدرا كان يراه غير ذلك.
لف الصمت ثانية الصديقين بينما راح نظر صالح صوب رجل بدا منكبا على تدخين. "الجوزة" وسعاله لم ينقطع.
كان الرجل أشبه بهيكل عظمي، ضعيف البنية، نحيف الجسد، يميزه شاربه الكث الذى يكاد طرفاه أن يلامسا ذقنه، ثلاثيني العمر بينما بدا كهلا، بظهره انحناءة واضحة.دهش صالح لإصرار الرجل على التدخين رغم سعاله المتواصل كاتصال رص الحجارة التي لم تنقطع واحدة تلو الأخرى. كان بدر يتابع دهشة صديقه، ولما طال تغيبه عنه قال:
- هذا الريس عوكل ألا تعرفه؟
- كأني أراه لأول مرة.
- هو من رواد المقهى، ولكنه يتغيب عنه أياما عندما تسوء حالته النفسية، يقال إنه ...
أشار بدر بيده إشارة يفهم منها أنه مجنون، تصادف أن رفع عوكل فمه عن غابة الجوزة فرأى إشارة بدر، فألقى ما بيده أرضا مغاضبا وقد جحظت عيناه اللتان اكتستا بالاحمرار، وقام متجها لبدر وأخذ بتلابيبه وهو يقول:
- ماذا تعني بإشارتك هذه، أتقصد أنني مجنون؟ أنا لست بمجنون، ولكنني سأريك كيف يكون الجنون.
وأخذ يهز بدر وما يزال ممسكا به وهو يزوم كأنه موتور بالفعل. كان بوسع بدر أن يلكمه فيرديه أرضا، ولكنه لم يفعل، شفقة لحاله، قام الجالسون يفضون النزاع قبل أن يتطور إلى مشاجرة سيخسر فيها عوكل وهم يقولون:
- لا عليك يا بدر أنت تعرف الريس عوكل ربما فهم شيئا بطريق الخطأ.
أجلس الحاضرون الريس عوكل وتباروا لتهدئته، كان بدر مبتسما، مقدرا للخطأ الذى وقع فيه.
طلب بدر إلى الريس عوكل هو الآخر الجلوس، نادى على زرزور ليحضر مشروبا ساخنا، وبلغة هادئة حاول أن يزيل ما علق بذهن الرجل وألقى في روعه أنه يشير إليه لاحتياجه في طلب هو الأقدر عليه.
لهذه اللحظة لم يكن بدر يعرف ما سيقوله، كل ما أراده هو تهدئة الرجل ومحاولة محو الشعور الذى تلبسه، حتى سأله عوكل عن طلبه. شعر بدر بحرج، تبادل وصالح النظرات، فبدر أراد أن يخرج من موقفه المحرج فأوقع نفسه بموقف أكثر حرجا، بحث بداخله عن هذه الحاجة التي يطلبها، ولما طال الصمت وعاود عوكل السؤال عن مطلبه خطر بعقله خاطر فرآه يطلب إلى عوكل استئجار مركبه، وقد علم أنه يؤجره لمن يريد.
لم يصدق عوكل ما يسمع، فبدر ليس له شأن بالصيد، فلماذا يؤجره؟. قطع بدر على الريس عوكل تشككه وأخبره أنه يريده ليوم واحد وسينقده فيه ما يطلب، وقبل أن يعود الدهش ثانية واصل أنه وصديقه يريدان زيارة جزيرة تونا. اشترط الريس عوكل أن يقود الرحلة بنفسه، فليس أقدر عليها منه، وله باع طويل في ركوب البحر، برغم انقطاعه عنه منذ زمن، لكنها خدمة سيؤديها للصديقين طالما يجهلان الإبحار. اتفقا على الموعد في الصباح ووعد بدر أنه سيعد العدة لذلك.
كانت دهشة صالح عظيمة عقدت لسانه ظنا أن الحديث مجرد تطييبا لخاطر عوكل، وسوف ينتهي إلى لا شيء، أما أن يصل إلى اتفاق فهذا يحتاج إلى تفسير!
عاد عوكل لمجلسه فسأل صالح:
- ما هذا الكلام الذى سمعت، هل أنت جاد؟
- لم أكن جادا، ولم يخطر ببالي قط، لكن هذا ما جادت به قريحتي لتهدئة الرجل، ورب ضارة نافعة.
- ولماذا أقحمتني في ذلك؟
- رأيت احتياجك لمثل هذه الرحلة، ربما غسلت قلبك من وساوسه.
مع الشروق، كان المركب الشراعي معدا للقيام برحلة إلى جزيرة تونا، تقع الجزيرة على مسافة قريبة من البلدة، لا تتعدى الساعة عندما تساعد الرياح شراع المركب على دفعه، يقال إنها واحدة من تلك الجزر التي تخلفت عن زلزال وقع منذ مئات السنين، عندما كانت البحيرة أرضا خصبة يشقها عدة روافد للنيل، ساعدت على خصوبة تربتها، فكثرت حول الروافد الحدائق الغناء، وجذبت حولها الكثير، كانت تلك الروافد تصب بالبحر، انخفضت الأرض نتيجة زلزال قوي، فغمرت مياه البحر الأماكن المنخفضة على مساحة أكثر من سبعمائة وخمسين فدانا، ولم يتبق إلا عدة جزر مرتفعة تحيطها المياه، شهدت بالماضي حضارات رائعة، ومن رحمة الطبيعة أن أبقت عدة بواغيز تصل مياه البحر بالبحيرة تغسلها من الرواسب وتدفع عبرها أنواعا من الأسماك تغذي بها البحيرة في حالتي المد والجزر، كانت جزيرة تونا واحدة من تلك الجزر.
كان أهالي البلدة في مناسبات مختلفة يجدون بها مكانا يلهون به، ويغتسلون من عناء العمل والفقر، ويجد الأطفال على شاطئها مرتعا للعب واللهو، الجزيرة الآن صماء، مقفرة، تتناثر بها بعض الحجارة العتيقة كبيرة الحجم، شاع حولها كثير من الأساطير، ولكن شاطئها ما يزال مرتعا للصغار والكبار، ومتنفسا لهم.
قام الصديقان بجولة بالجزيرة، وقضيا وقتهما بالصيد، وإعداد الطعام من الأسماك الطازجة، أما عوكل فقضى وقته يدخن الجوزة حتى بدا امتقاع وجهه وعدم اتزانه.مالت الشمس، وذهبت خيوطها، وبدا الغروب وشيكا، وحان وقت العودة، كان الحادي بحالة سيئة تنبئ عن عدم قدرته على قيادة مركبه بكفاءة، والعودة بمن عليه سالمين، حاول الصديقان إفاقته، فصبا الماء على رأسه صبا، وهو يصيح لا تخافا سنعود سالمين، معكم الريس عوكل. رأيا ألا مفر من تسلمه قيادة المركب، وجلسا متوجسين.
انطلقت المركب تشق عباب البحيرة، تفرد شراعها فيمتلئ بالهواء الذى يدفعها بسرعة شديدة، وعوكل يمسك بدفتها ورأسه هواء، وحدث أن زادت الريح من سرعتها، وبدا اهتزاز الدفة بيد عوكل الذى لم يفق بعد، فتأرجحت المركب، ومع سرعة الريح، وعدم اتزان خط السير، علت الأمواج بمقدمها، وتسربت المياه بداخلها، حاول الصديقان بسرعة رفع المياه من باطنها غير أنها في لحظة مالت على أحد جوانبها لتقذف بالجميع داخل البحيرة، كان عوكل بحالة لا يستطيع معها السباحة، نادى الصديقان للبحث عن عوكل الذى ابتلعته المياه، وقبل أن يلفظ أنفاسه استطاع بدر انتشاله من العمق، وعاد به سابحا يحمله تارة ويتبادله صالح معه تارة أخرى.
نجا عوكل والصديقان، بينما رقد المركب بقاع البحيرة لا يبين منه سوى ساريه وبعض شراع ممزقة. لمدة تناول أهل البلدة ما حدث، بينما يتضاحك الصديقان كلما مرت بهما ذكراها.
ومع تطور تلك العلاقة وجنوح بدر في تفكيره، وفى محاولة لاستكناه صالح لما يعتمل داخل بدر سأله صالح ذات مرة: لماذا ينزع دائما للشر، ونفسه التي يراها الآن هي نفس سوية مطمئنة؟
كانت إجاباته طبيعية؛ فهو لا يعرف لماذا تنزع نفسه للشر، يتلبسه شعور كأن شيطانا يدفعه لفعل ما يفعل دون إرادة وأقسم أن مجهودا لا يتكبده، وقلبه كما يعرفه ليس حديدا بل يتأثر بمن حوله، فكثيرا ما يلوم نفسه عندما يخلو لها يوبخها، لكنه لم يخف لذة ما يستشعرها عندما يرى نظرات الخوف تملأ الأعين، إن إحساس التفرد له بنفسه ذائقة مستملحة، حاول كثيرا أن يكبحها لكنها تفور رغما عنه.
سأل صالح عن الهدف من وراء ذلك؟ فما زاد بدر عن حديثه الفائت؛ إنه التفرد. فوسط الفقر والضعة تختلف النظرة لأصحاب السطوة والمال، وما دامت الأيدي خالية من المال فلتكن القوة هي الحصن الذى نأتنس به.
رأى صالح أن حديث بدر يشير بقوة إلى الجمل والعتر، متغافلا عن أن القوة التي يقصدها إنما هي سلاح ذو حدين قد تصيب أول ما تصيب صاحبها بخاصة إذا دعمت بمال يقويها.
وعد بدر صديقه لمَّا رأى تخوفه أنه لن يجور على حق أحد، وسيحاول ألا يظلم أحد، فيكفي المظلومون ما يطوِّق أعناقهم، فهو وإن كان يبحث من وراء القوة عن السطوة فهي السطوة التي لا تظلم ولا تجور.
حاول صالح أن يوضح له أمرا قد يغيب عنه فقال: هذا كلام صعب تحقيقه، القوة والسطوة لهما طريق واحد، إن مشيت به وطئت بأقدامك الفقراء وذوي الحاجة وإن كان رغما عنك، فهذه تشبه الحرب التي سترى في يوم لها ضحايا ليس لهم بها صلة، ولا يغنيك الندم عن حمل ذنبهم. تستطيع أن تحقق ما تصبو إليه من سطوة وتفرد دون أن ترتاد طريقا معوجا.
كان بدر يرى أن هذا طريق طويل قد تكون نهايته على غير ما يشتهى. طالبه صالح بالمحاولة، أخبره أنه سيتركها له، فهو أهل لها، لديه القوة والعقل المتزن والنفس المطمئنة، أما القوة والسطوة والتهور والنفس الآبقة فهي له وعليه توجيهها. قال صالح بتحدٍ:
- لكنك ستخسر في النهاية.
- بل أنت من سيخسر وأستطيع مراهنتك على ذلك.
- ليس لي في المراهنة.
- ليكن، لكننا سنتقابل ذات يوم، وساعتها سنرى.
كانت جلستهما هذه الأخيرة التي فتح كلاهما صدره للآخر قبل أن يلتحق بدر بكتيبة الجمل، لكنهما لم ينقطعا كليا، كل منهما كان يضع الآخر نصب عينيه، يتقابلا من آن لآخر وإن تباعد هذا اللقاء.
* * *
عندما تميل الشمس إلى المغيب، وتنسحب أشعتها القوية، وتستبدل ثوب العافية بثوب ذهبي يلمع وراء الأفق، وترى الشفق الأحمر يفتح ذراعيه ليحتضن تلك الأشعة التي ذابت داخله، تستطيع أن ترى قوارب معدودة تلقى مراسيها على شاطئ البلدة المنعزلة وقد تعبت مجاديفها، وأصاب أصحابها الوهن، ترى أقدامهم الحافية، وأجسادهم العفية وقد انحنت وهم يحاربون لجَرِّ قواربهم المتعبة على رمال الشاطئ، بداخلها بعض صناديق تحوى ما أفاء الله به عليهم من أسماك طازجة.
دقائق وتُطرَح غلالة من سواد على أهل البلدة، فتبدو المنازل التي تشبه الأكواخ كأنها مشاهد القبور، إلا من بعض المسارج التي أعدها أصحابها ذات ضوء خافت، تترنح ذبالتها كأنها في النزع الأخير، طويل هو الليل الذى يخلو من وسائل الترفيه، ما هي إلا ساعات قليلة تُعَد فيها بعض أوان من فول أو عدس، ريثما يلتقم الرجال المتعبون بعض طعام ويغلبهم النعاس بعدها، ثم يأوون إلى فراشهم ينشدون الراحة لأجسادهم التي أتعبها العمل طيلة النهار، يحاولون القبض على أذيال النوم قبل أن يعلو صياح الديكة لبدء يوم جديد.
الأطفال يأوون إلى فرشهم باكرا بعدما أضناهم اللعب نهارا، وتعاد الكرة يوميا دون كلل أو تزمر.
حين يغفو الجميع، تسهر الأنفاس الساخنة على شاطئ البحيرة بمقهى زرزور، تدور هناك غابة الجوزة على أفواه السكارى، من تعطل عن العمل، ومن لم يجده، قد تتغير الأوجه، وتتبدل الشخوص حسب الأحوال، إلا من وجهين ظلا ردحا من الزمن لا يتغير مكانهما بزاوية معتمة داخل المقهى، انفصلا عمن حولهما، لم يجد رواد المقهى ضرورة لمحادثتهما، كانت رائحة أخلاقهما يمجها الجميع.
كانت الليلة من ليالي يناير شديدة البرد، صفرت فيها الريح كعواء ذئاب جائعة، كادت تقتلع البيوت الفقيرة التي تقام على أعمدةلا تثبتها إلا دعوات القلوب المتعلقة برحمة ربها، الظلمة بالخارج موحشة، زاد من وحشتها الفضاء الشاسع، وخلوها من صنف البشر، لسعة الصقيع تكاد تشق الجلود لتصيب العظام بوخزاتمتتالية لا تستطيع معها أن تقوم الأجساد من رقدتها، تدثر الجميع بأرديتهم الثقيلة وبعض ألحفة بالية، أغلقت المنافذ التي قد يسرب منها البرد بالأثواب الخرقة ظنا منهم أنها ستحمي قاطنيها من جحيم وخزات الشتاء، بدت البلدة كأنها قبور دُفِن بها أصحابها أحياء، أطفأت المسارج أو كادت، سكنت الحناجر إلا بيت المعلم صبيح النجار الذى كانت تئن به زوجته تارة، ويشق صراخها حوائط الصمت تارة أخرى.
بدت الولادة متعسرة، الطفل يأبى الخروج إلا على يد الست فريدة الداية، صرخات الزوجة تتوالى، وحيرة الريس صبيح تزداد، يلهج بالدعاء أحيانا، ويتذرع بالصبر أخرى، وعينا زوجته الذابلتان تسألانه دون أن تنطقا: أين فريدة؟ أين الداية تريحني من الضربات التي تشق ظهري، كان يصرخ فيها: الصبر يا هند، قالت ستأتي، وهى على وصول، استعيني بالله.
صرخت كأن روحها تفارقها، طرقات متوالية، أسرع معها الريس صبيح يفتح باب عشته.
- تأخرت يا فريدة!
- عاقني المطر.
- تكاد هند أن تموت.
- أين الماء الساخن؟
- سأحضره حالا.
ولجت الغرفة بسرعة، تبعها صبيح بوعاء ماء، دقائق كأنها دهر، ازداد الصراخ متتابعا، سكت للحظة، بكاء مختلف لطفل غرير، تراقصت فرائص الريس صبيح فرحا، أدمعت عيناه، تحركت شفتاه بكلمات الحمد، خرجت فريدة بالبشرى.
- طفل كالبدر، ماذا ستسميه؟
- لقد سميتِهِ يا وجه الخير، سأسميه بدرا.
كانت طعوم السعادة والحبور تحفر لها مجرى بجوانحه، آن الأوان لتكتحل عيناه برؤية وليد له من صلبه قبل المغادرة وقد سلم بالمقدور، غير أن النفس التي تتحرق شوقا لم يتوقف دعاؤها أن يمن الله عليها بطفل يكون الظهر والسند، عشر سنوات من الأمل القاصي، فعل فيها ما يستطيع، وها هي إرادة الله تحقق له ما تمنى.
دس بعض نقود بيد فريدة وهرول للداخل لتلبية نداء الصغير الذى لم يتوقف عن البكاء، حمله بين يديه محبورا، قربه لصدره برفق، رفع الأذان بأذنه اليمنى أعقبه الإقامة باليسرى، وسَّده ذراع زوجته المطروح بجانبها، طبع قبلة دافئة على جبين زوجته وأتبعها بقوله:
- الحمد لله على سلامتك، ومرحبا بابننا بدر.
استحسنت هند الاسم وأردفت بصوت ضعيف:
- اسم جميل، وأراه على مسمى، انظر إلى خلقته، كأنه البدر في ليلة تمامه.
بدا وجه الطفل على صغره آية في الجمال، كان في عينيهما هدية غالية ومصالحة بعدما حرما الإنجاب لسنوات، غير أن العين لا تخطئ تفرده في الحجم الذى بدا مغايرا لحجم طفل عمره دقائق، وكثرة حراكه كأنه يريد أن ينفك من قيد لا يستشعره سواه.
انشغل الزوجان بطفلهما يحاولان صب كل ما تعلماه وما حواه صدريهما من خبرات، كان نمو الطفل بينهما متسارعا، فريدة أول من نبهت لاختلاف طفلهما عن أمثاله أو كانت تظن ذلك، خشيا عليه العيون التي تتلصص عبر ثقوب الحسد، فحجباه كثيرا، طوقاه بطوق الخوف، إلا أن الطفل الذى بدأ حبوه أعرب عن تذمره، فجاس بالكوخ يستطلع ما بجوفه، ينتهز أي فرصة لانشغال الأم ويعبث بالأجناب، حتى كانت حادثته الأولى.
انشغلت الأم -يومها- بترتيب كوخها، وتشميس فرشها ومخادعها بالخارج، عبث الطفل بزجاجة موضوعة بجانب الحائط، رفعها إلى فمه، تجرع جرعات قليلة منها، انتبهت الأم عند عودتها، مسحت المكان بعينيها الفزعتين بحثا عن طفلها، أطلقت صرخة مدوية عندما وقعت عيناها على الطفل الجالس يعبث بالزجاجة بعدما أغرق الكيروسين ملابسه وهى تقول: الجاز.
الزجاجة بها بعض الكيروسين الذى يستخدم في ملء المسارج والمواقد، للحظة تيبست قدماها وعجزت عن التفكير، لم تكن بعد متأكدة أن شيئا من الكيروسين وصل جوف الطفل من عدمه، لكنها بدافع الأمومة انكبت تمسك بالطفل، وتربت على ظهرة بقوة محسوبة، ولما لم يُجْد ذلك لاستقياء الطفل، دست أصبعها بفمه تحاول جاهدة، وهى تفوه بكلمات غير مفهومه.
دخل صبيح ليرى المشهد جليا، الزوجة جالسة أرضا تتمتم، الطفل بحجرها، تحاول استفزاز جوفه لطرد ما تسرب إليه، بفزع سألها، أخبرته مصيبتها، دون أن يفكر التقط بيضة بيده، حطمتها يده القوية، أخذ يسرسبها قطرات بفمه، كانت النتيجة مفرحة، لهجا بالحمد مرات.
انشغل الرجل بالحركة الدائبة التي كانت عنوانا للطفل الصغير، رأى صبيح أن إفراطه بالحراك غير طبيعي في مثل سنه، خشي أن يكون بالأمر شيئًا، ظلت الشكوك تتنازعه، بات في صمت يخشى على طفله، بيد أنه كتم تخوفه عن زوجته.
رأى المعلم صبيح ذات مرة أرض البلدة تنبت ألسنة كأنصال المُدْى كلما غدا أو راح، يشعر بها كلما خطا للأمام خطوة، تلوك الألسنة شيئا غير باد، كان شعوره أن ما تتناوله الألسنة يخصه، لكنه لا يعرف كنهه تفصيلا، وعندما يحاول بعض مرة الالتفات تختفي الأصوات وتبتلع الأرض تلك الألسنة فتبدو كأنها تغوص بوحلة قذرة، كان كلما تقدم تزداد همهماتها منه، فيدب الخوف بقلبه، يرى نفسه يسرع الخطأ فتسرع هي الأخرى حتى وجد نفسه يعدو مرتعبا، كلما عدا تتطاول الألسنة خلفه، يحاول أن يرى متجها يسير إليه فيتخبط في الظلام الذى يمتد أمامه، حاول جاهدا أن يطلق صراخه المكتوم داخله فيذوب عزمه ويظل الصوت يتردد داخله ولا يخرج، انفتح أمامه -فجأة- طريق ظن فيه النجاة من الألسنة التي تلهج وراءه، دخل في حرمه، خيل إليه أنه يرى في آخره شخصا، دب في قلبه شعور أنه يعرفه جيدا، لكن تفاصيله شائهة أمام عينيه، شد من عزمه وأطلق ساقيه بكل قوته يريد الاقتراب منه، ليطلب إليه الحماية، بدت المسافة قريبة بينهما، وعندما ظن أنه وصل، رأى الشخص الذى أمامه يفتح له ذراعيه يريد احتضانه، عندما شعر بانقطاع أنفاسه -حال وصوله- قذف بنفسه لتتلقفه اليدان المفرودتان إلا أنهما تخلَّا عن احتضانه ليجد نفسه يهوي إلى قرار سحيق، فينتفض فزعا من نومه يستعيذ.
ظل الحلم يعاوده أياما حد أنه كان يخشى ساعة أن يضع جنبيه لفراشه حتى لا يعاوده الحلم ثانية.
حاول مرارا أن يحادث زوجته بما يرى، لكنه كان يحجم قبل أن ينطق به خشية أن ينتقل إليها إحساس الخوف الذى تلبسه، خاصة عندما ظن أن ما يراه شيئا يتعلق بطفلهما الذى كان بمثابة الروح لجسديهما، وما كان تفسيره هذا قائم على بينة، لكنها شدة الخوف على الطفل، فالحلم الذى كان يعاود زيارته له من وقت لآخر لم يعلن عن نفسه سوى بعد أن رزقا بالطفل، وكان يكثر من معاودته عندما يحدث شيئا ما للطفل أو شيئا يتعلق به، ومن ثم ربط صبيح بين الحدثين دون جهد لتفسير حلمه الذى طوى عليه نفسه، خشى البحث له عن تفسير لدى الراسخين من أهل العلم بتفسير الأحلام.
كان صبيح يظن أن الزوجة بعيدة عما ألم به، وأن انشغالها بطفلها وبيتها قطع حبل الإحساس به، فسألته غير مرة عما يشغله، قاسمته مرارا أن يفتح صدره ويخرج ما خفى به، غير أن كلمات الاطمئنان كانت سفيرا بينهما، وما يزال بقلبه خوف ووجل.
دبت شجرة "الفيكس" التي غرسها صبيح أمام كوخهجذورها بالأرض، وبدا اشتداد عودها، واكب يوم غرسها يوم ولادة طفله، كان الرجل يطمح عند غرسها أن تظللهم من هجير الصيف، ويجد ولده تحت ظلها مرتعا آمنا، رآها اليوم قد نمت، وباتت فروعها مورقة، وارفة، تنطلق بقوة متزامنة مع نمو طفله الذى وصل عمره الخامسة، كان يرى أن الشجرة تشبه ولده في كل شيء، القوة والنداوة وحسن الهيئة، بل في النمو المطرد والقوة التي لا تتناسب مع عمرهما الزمني، أصبح بدر الآن يطلب الانفلات من حضن أبويه، يريد الانطلاق ليستطلع العالم الذى لا يعلم عنه شيئا بعيدا عن الكوخ وعن الصبية المعدودين الذين لا تتغير صورتهم أمام عينيه صباح مساء، وبدأ الريس صبيح يستاء من ولده الذى يشق عصا الطاعة يريد مصاحبته أينما ذهب.
بات خوف صبيح على ولده يدعوه لاحتجازه بجانب شجرته الوارفة، لكنه الآن أصبح لا يطاق، ما دعاه لإلحاقه بكتاب الشيخ عطية ليحفظ القرآن، كانت فكرة مستحسنة، انتظم فيها بدر، أظهر نجابة على صغره تعجب لها الشيخ عطية، أمل أن يكون ذكاء بدر قاطرة تحمله لتضعه بمصاف الشيوخ الموهوبين، غير أن ذكاءه هذا قد وجهه ناحية أخرى للإيقاع بزملائه بالكتاب، فكثرت منه الشكوى، بدا تمرده على كل شيء واضحا حتى على شيخه نفسه، تقدم خطوة لتطال يده زملاءه بالإيذاء والمشاجرات المستمرة، وقد أحس بسطوته وقوة ساعديه، مما تسبب في انقطاع الكثيرين عن الانتظام بالكتاب، ما حدا بالشيخ لطرده بعدما كاد أن يتسبب في قطع عيشه.
حار الأب في سلوك ولده، وطاقته التي لا تكاد تهمد، يعبث بكل شيء تطاله يده حتى يتحطم بين أصابعه، كان الأب يتعجب من القوة المفرطة التي يتمتع بها الطفل لكنه لا يبديها لأحد خشية الحسد، لم يجد الأب علاجا لهذه القوة إلا أن يرهقها بالعمل حتى تهدأ، وهو يعلم أن الأطفال جميعهم تشملهم تلك الطاقة، وقرر اصطحابه معه بعمله في النجارة.
كان المعلم صبيح نجارا تخصص في صناعة قوارب الصيد، يقوم على صناعتها بالقرب من الشاطئ، كانت مهمة شاقة -آن إذ- لم تعرف بعد الماكينة صناعتها، كل شيء يصنع يدويا، بداية من قطع الأشجار وتهذيبها وشقها بمناشير ضخمة، وبمقاسات معينة يعلمها القائمون عليها، إلى أن تنتصب هياكلها فيتولى المعلم صبيح سد أجنابها وإنهاء تصميمها وهي قائمة على أوتاد خشبية ترفعها عن الأرض.
اليوم الأول لاصطحاب الصبي الذى بلغ السادسة بالكاد، كان الشاطئ القريب من محل العمل هو ما أخذ الصبي بروعته، بقواربه المشرعة أشرعتها كالرايات البيض الخفَّاقة، وهدوء صفحة مياه بحيرته الآسر، وطيور النورس التي تتشكل أسرابها عالية، فهذه أول مرة يدنو منه فيصبح قاب قوسين، ورغم أن أهل البلدة أغلبهم يمتهنون الصيد، ويصطحبون أطفالهم منذ نعومة أظفارهم إلى التدريب على مهنة آبائهم وأجدادهم، إلا أن بدرا كان محروما من ذلك لسببين، الأول: أن الأب ليس من طائفة الصيادين والثاني: الخوف الشديد على الولد من مغبة الاقتراب من البحر وليس له خبرة به، ومن ثم كانت رؤية البحر والاقتراب منه عالما مجهولا يريد اكتشافه والتعرف عليه.
كلما حاول الصبي الاقتراب منعه والده، يحاول ثانية فلا يجد إلا نهرا وزجرا من أبيه الذى تأثر عمله بوجود هذا الطفل الآبق.
في جولة أخيرة لصبيح معولده هدده بأنه سيقيده إلى الوتد الذى يحمل القارب الذى يعمل به، وزاد من إخافته وألقى بجانبه الحبل الذى سيستخدمه لقيده إن أقدم على الذهاب ثانية تجاه البحيرة، وجم الصبي يفكر، ظن صبيح أن -أي بدر- امتثل لأوامره، عاد لعمله مطمئنا بالجانب الآخر من القارب، بينما انشغل عقل الطفل بشيء آخر يريد العبث به بمحيط اعتقاله، أمسك الصبى بالحبل، عقده إلى الوتد الذى يرفع القارب عن الأرض، كان صبيح بين الفينة والأخرى يختلس النظر إلى ولده، ترتسم على وجهه ابتسامة عند رؤية الصبى بعبث بالحبل بعدما عقده بالوتد، حاول الطفل شد الحبل بعد عقده، اتسعت ابتسامة الأب من فعله، لحظات وشعر المعلم صبيح بميل القارب ناحية ولده، يا للهول! لقد استطاع الصبى أن يحرك الوتد من مكانه ما نتج عنه تخلخلا أدى إلى ميل القارب ليهوي فوق جسد الصبي، لم يسمع صوت استغاثة للطفل، بينما انخلع قلب صبيح وصرخ: ولدي.. ولدي، انطلق للناحية الأخرى يصرخ النجدة يا رجال، كان الطفل أسفل القارب صامتا، ظن صبيح أنه لفظ أنفاسه، تجمع الرجال لرفع القارب عن الطفل، أسند الرجال القارب مرة أخرى بوتد أشد وأقوى، بينما قام الصبى ينفض عن ثوبه ما علق به من أتربة!
الاندهاش هو سيد الموقف، نظر الرجال لبعضهم البعض وهم لا يصدقون ما حدث، كان الأب ساعتها يبحث عن إصابات بجسد الصبي، أمره بالسير فمشى، سأله إن كان يشعر بشيء أوجعه فنفى، ترك المعلم صبيح محل عمله واتجه بولده ناحية كوخه تتنازعه الحيرة.
ما إن أغلق كوخه عليه، ووسط دهشة أصابت زوجته، خلع عن الصبي ثيابه حتى تعرى تماما، قلب النظر في جميع أجزاء جسده بحثا عن إصابات أو كدمات بكل منطقة ظاهرة أو مستترة لم يجد، حمد الله كثيرا، ثم قص على زوجته ما فعله الصبى به في يوم لم يرَ مثله.
حار الأب في هذه الطاقة التي لا تريد الغروب عن ولده، كذب مشاعره مرارا، كان يرى دون شك أن ولده ليس طبيعيا، ليست القوة التي تعرب عن نفسها تساوي عمره، إنها تفوقها بأعوام، ومن ثم احتجزه ثانية عن العيون خوفا ووجلا، كانت مشاغباته في نطاق الكوخ وما حوله، حتى ضج به وبأفعاله، يحطم كل شيء يقع تحت يده، يعتدي على أقرانه دون سبب معقول، وعند سؤاله لا يستطيع أن يعلل قوته المفرطة ظنا منه أنها شيء طبيعي، حتى إذا أتعب الأب التفكير آوى إلى شجرته التي غرسها على أعتاب كوخه يتأملها بعجب، كانت هي الأخرى تنمو متسارعة، فكثرت فروعها واشتد عودها كأنها من نبت الشياطين، وبات هم الوالد مقيما لا يعلم إلى أين سينتهي به.