إلى الذين أصابتهم نعمة الشك
في منتصف الرحلة.
المبنى المجهول
عام 2081
يجلس نجم على كرسيٍ من معدنٍ باردٍ لا يسخن بحرارة جسده، أمامه لوحٌ زجاجيٌ شفاف يرى من خلاله مكتبًا متواضعًا، رائحة العطن تملأ الغرفة كأن سربُا من الفئران تغوَّط في كل ركنٍ، ربما يبدو هذا التشبيه مبالغًا غير أنه حقيقي، فصوتهم ينطلق من كل الأرجاء متجمعًا في وسط الغرفة تمامًا حيث يجلس نجم، كان قد أتم عامه الثلاثين قبل أسابيعٍ، لكن ملامح وجهه توحي أنه كهلٌ يحتضر، تملأ التجاعيد وجهه وكأنها ثعابين تزحف، عيناه حمراوان كجمرتين من النيران تجاهدان حتى لا يخفتا، رقبته محنيةً للأمام من شدة الإرهاق، تتدلي يداه من جانبي الكرسي وقد خارت قوتهما، قدماه ممددةٌ إلى الأمام محاولةً أن تمنح ساقيه بعض الاسترخاء، يرتعش جسده عله يشعر بالدفء، أصوات أنفاسه تنافس أصوات الجرذان في البروز، أصواتٌ تمنحك إيحاءً أن صاحبها يجاهد حتى يظل على قيد الحياة، هل الأمر يستحق هذا العناء؟ لما لا يستسلم لإرهاقه ويستريح للأبد؟ يمكنه بسهولة أن يريح رئتيه من العناء ويذهب إلى سلامٍ أبدي، تبدو الفكرة مريحةً لنجم، لكن يبدو أنه نسيَ شيئًا..، زوجته! عليه أن يجدها، لا يمكنه أن يسمح للأناركيين أن يقتلوها، عليه أن يقنع البوليس السري أنه ليس جاسوسًا للأناركيين، ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟ إنه على نفس الكرسي في هذه الغرفة الضيقة منذ وقتٍ طويلٍ، يحاول أن يتذكر المدة التي قضاها، لكن إرهاقه أقوي من أن يسمح لذاكرته بالعمل، يكفي أنها نبهته لسببٍ جدير بأن يحيا لأجله، إنها زوجته المرأة التي أحبها، وهام بها حتى أخذها الأوغاد منه، إمَّا أن يجدها أو يموت.
بينما يغرق نجم في أفكاره، يصدر الزجاج الشفاف أمامه صوت طقطقةٍ يتحول بها إلى مرايا تعكس صورته البائسة الهزيلة، ينظر إلى الزجاج، يرثي حاله بصمتٍ وشفقة، يصدر صوتًا مموهًا تحيطه خرفشة من الجانب الآخر للزجاج.
– سيد نجم، أهلًا بك معنا، أتمنى أن تكون الإقامة أعجبتك.
يرد نجم بوهنٍ يجعله يستغرب صوته:
– أين أنا؟ أريد أن أخرج، لقد اختطف الأناركيون زوجتي، يجب أن تساعدوني.
– ساعدنا أنت أولًا.
– ماذا تريدون مني؟
– ما طبيعة علاقتك بالأناركيين؟
– أنا؟
– ماذا تعرف عنهم؟
– ما يعرفه الجميع.
– نحن لسنا في برنامجٍ حواري، كفاك من هذه الإجابات الدبلوماسية، أريد تفصيلًا.
– إنهم ضد النظام، يؤمنون بالانتخاب الطبيعي، في نظرهم أنه لا حاجة لنا في البحث عن حلٍ، فمن الأفضل أن ندع الطبيعة تقرر من يبقى.
– يبدو أنك مقتنعٌ بذلك.
– هل تعلم من أنا؟ لقد عملت في البحث عن حلٍ طيلة حياتي، أنا مهندس..
– أنا أعلم كل شيءٍ عن ماضيك، الأمر هو أننا لاحظنا أن كثيرًا من الأشخاص يتبعون الاتحاد، لكنهم تمردوا بعد ذلك، هؤلاء الأوغاد لهم قدرة عالية على الإقناع، يهددون النظام، يشيعون الفوضى، يظنون أنهم سينتصرون، سحقًا لهم!
– أنا المجني عليه هنا، عليكم أن تساعدوني، لا أن تحبسوني هكذا.
– لماذا خطفوا زوجتك دون الجميع؟ لا شك أن لك تعامل سابق معهم.
– لا يمكنك أن تفكر بهذه الطريقة.
– غير مسموحٍ لك بتوجيهي.
– لكن...
قبل أن يكمل نجم جملته أصدر الزجاج نفس صوت الطقطقة وتحول شفافًا من جديد، ينظر بإمعانٍ، ويبدو المكتب خاويًا، أين ذهب الرجل الذي يحدثه؟ هل كان هذا وهما!
يحاول نجم أن يتذكر الثمانية والأربعون ساعة السابقة، لكن لا شيء يأتي على باله، لا يوجد حتى بابٌ للغرفة القابع فيها، كيف تسني لهم أن يُدخلوه في غرفةٍ بلا أبواب.
تأتي من وسط الظلام أضواء الماضي مبددةً غموض اللحظة الحالية، يبدو أنه مرَّ بأحداثٍ جِسام جعلته ينسي الكثير، لكن كل شيءٍ صار واضحًا الآن، إنه ذلك اليوم الممطر الذي وصل أمام باب منزله الخامسة عصرًا، لقد كان يومًا مرهقًا، لكنه ليس كالإرهاق الذي يشعر به، في تلك اللحظة كان كل ما يشغل تفكيره هو أن يدلف إلى غرفته ويخلع خوذته الزجاجية، اللعنة على هذه الفيروسات التي غيرت وجه الحياة أكثر مما فعلت الحروب العالمية، لقد أعلنت تلك الكائنات التمرد. كان الرخاء الزائد الذي يقلق البشرية في الماضي حلمًا الآن، قضى الملاعين الميكروسكوبيون على الملل الذي تولد لدى الإنسان المعاصر بعد توفر كل شيءٍ له، كان هم البشرية في أزمانٍ يشعر المرء أنها بعيدةٌ هو نفاد الموارد ودمار الكوكب، لكن بعد خمسين عامًا من غزوهم المجهري أبيدت دولٌ بأكملها، أبيدت معظم البشرية وما تبقى في خطرٍ لا ينتهي، استعادت الأرض عافيتها، لكن البشر على شفا الانقراض، الصراع البدائي من أجل البقاء عاد من جديد، سدت هذه الأوبئة الفراغ الوجودي، يبدو أن الخطر المهدد للوجود هو نفسه الضروري ليبقى هذا الوجود، توحدت الحكومات، زالت الحدود، صار العالم يحكمه اتحادٌ واحد يحقق النظام، ويحتوي الأزمة، تكونت فرقٌ بحثية يستخدمون آخر ما توصل له العلم في جميع المجالات، لم يعد الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية مُهمًا، لَقَّبَ الفلاسفة والفنانون هذه الفترة بـ(ما بعد الانهيار).
ما إن دخل نجم منزله حتى لاحظ أن كل شيءٍ في غير موضعه، أخرجت الأرائك أحشاءها في غرفة المعيشة، تحطمت جميع الأجهزة الكهربائية، نادى نجم بعلو صوته على زوجته:
– ليا، ليا.
كان الرد الذي تلقاه هو صدى صوته، ركض نحو غرفة نومه، لكن حالها كان أسوأ من غرفة المعيشة، رأى فيها شخصًا يقلب في أمتعته، شعر بالغضب يتملكه فانقضَّ على الشخص لكنه لم يشعر بالجسد الملثم الذي يقترب من خلفه ببطءٍ وهدوء، لم يسمع صوت الجهاز الذي أصدر صوتًا زنانا أو حتى تلامس الجهاز الكهربائي بجسده، اختفى كل شيء، ثم ها هو الآن جالسٌ على كرسيٍ في غرفةٍ لا يعلم كيف دخلها.
كان كل شيءٍ ثابتًا لمدةٍ طويلة، متي سيخرجه هؤلاء الأوغاد من هنا، لقد ذاق به ذرعًا كل هذا الهراء، يصرخ بشدة:
– أيها الملاعين، أخرجوني من هنا، ليت الأناركيين ينتصرون عليكم حتى تشعروا بما أنا فيه الآن، عسى أن يخطفوا زوجاتكم، وييتموا أطفالكم، ليتهم يحطمون كل مجدٍ تحصلتم عليه، في وكل رتبةٍ وصلتم إليها بخدائعكم.
يبدو أن ما قاله كان كافيًا ليجعل المحركات الموجودة حول الغرفة تعمل، لقد سمع أصوات الجرذان تصرخ بشدة، أصوات عظام تُسحق، ميزت أذناه صرير التروس، شعر بالجاذبية تسحبه لأسفل، هذا معناه -كما تعلم من الفيزياء- أن الغرفة ليست إلَّا مِصعدًا ينطلق إلى أعلى.
توقفت الغرفة مرةً واحدة، وقع نجم من على كرسيه، الأجسام المتحركة تفضل دائمًا أن تظل هكذا، سطع ضوءٌ شديد من سقف الغرفة فأعماه مؤقتًا، كانت الغرفة شديدة الحرارة، احمرَّ جلده حتى احترق، ما إن استطاعت عيناه أن ترى من جديد، كان أمامه زجاجٌ شفاف يطل على مكتبٍ أكثر فخامةً من سابقِهِ، ينظر نجم حوله، إنها الغرفة نفسها التي كان فيها، لكن بابها يظهر لأول مرة، يركض ناحية الباب، رأى ضوءًا أحمر في أعلاه، فأدرك أنه مغلقٌ إليكترونيًا، لكن هذا لم يمنعه من محاولةِ دفعِهِ بيده، ثم بكامل جسده.
تذكر في هذه اللحظة أنه جائعٌ، لم يدخل شيءٌ جوفه منذ أيام، فخارت قواه، وسقط على الأرض، احتضنت أطرافه جزعه كأنه طفلٌ في رحم أمه، هل هذه اللحظة التي يستسلم فيها ويودع الحياة ويأمل أن يقابل زوجته في عالمٍ آخر؟
في أحلك لحظات اليأس يأتي الأمل من حيث لا نتوقع، بينما كان نجم يستعد ليلفظ أنفاسه الأخيرة فهو المهندس المرموق النابغ الذي لم يعتد مثل هذا الإرهاق أو الإهانة، سمع صوت طقطقة حول الزجاج الشفاف أمامه إلى مرآةٍ من جديد، ما إن حدث هذا حتى همهم نجم دون وعيٍ منه:
– أنا، أنا لم أقصد أن أذكركم بسوءٍ، لطالما كنت مواليًا، بحثي هو ما يعطي الأمل للناس، أنتم تستعملونه في دعايتكم من أجل التأييد، ولا يمكن أن أكون خائنًا.
يخرج من الزجاج صوتٌ آخر غير الذي سمعه نجم مسبقًا.
– سيد نجم، لا تقلق، يمكنك أن ترحل عمَّا قريب، لقد انتهت تحرياتنا عنك ولم نجد ما يثير الشبهات، سنتحفظ عليك في منزلك تحت المراقبة لأنك في خطر، لن يمكنك الخروج أو الذهاب إلى العمل.
قام نجم من على الأرض وجلس على الكرسي حتى يناقش الكلام الذي سمعه توًا.
– ماذا يعني هذا، وأين زوجتي؟
– إن المسألة شديدة الحساسية ولها أبعاد لا يمكنك تصورها، نحن نبذل قصارى جهدنا.
– هل تظنون أني سأنام ليلًا وزوجتي ليست بجواري، إنها في خطرٍ، وأنتَ تنصحني بعدم القلق!
– الأمر متروكٌ لك، إمَّا أن تبقى في هذه الغرفة أو تعود لمنزلك حتى نعيد زوجتك إليك، أمامك مطلق الاختيار.
– وعملي؟
– لن تستطيع الخروج من المنزل، لكن يمكنك الإشراف على فريقك.
– ماذا يعني هذا، إنك تخرب حياتي.
– هذه تدابيرٌ أمنية مزعجة لكنها ضرورية، تذكر أنها مؤقتة.
– ماذا حدث لزوجتي؟
– مازلنا نبحث.
– وإلى ماذا وصلتم؟
– ليس لك شأن بهذا، عُد إلى منزلك ومارس عملك، كن مواطنًا صالحًا وثق أن الاتحاد لن يخذلك.
أراد نجم أن يقول شيئًا، لكن سبقه صوت الطقطقة الذي أعاد الزجاج لحالته الشفافة، وكالعادة المكتب فارغٌ غير أن هناك بقايا سيجارة حديثة على المطفأة الموضوعة على المكتب، هذا ما استغرقته المحادثة، مدة تدخين سيجارة واحدة!
ماذا على نجم أن يفعل؟ هل يعود إلى منزله وكأن شيئًا لم يكن؟ عقله لا يستطيع أن يتقبل ذلك، بل هو من الأساس لا يستطيع أن يستوعب فكرة أنه بمجرد دخوله إلى المنزل سيجده فارغًا، كان كلما وقع في ضائقةٍ ذهب إلى ليا وشكا لها همومه، فلمن يذهب الآن؟
تحول اللون الأحمر إلى أخضر في أعلى الباب الحديدي الموجود خلفه، اقترب منه نجم ودفعه بهدوءٍ. صدمته الرياح القادمة من المنفذ الذي فتحه توًا، صدمته لكنها أنعشته، وشعر بأنه يحلق وقد كان بالفعل كذلك، المنظر أمامه مرعبٌ، يبدو أنه على سطح بنايةٍ أوشكت أن تعانق السحاب، الشمس ساطعةٌ لكنه اعتاد على سطوعٍ أبشع من هذا في الغرفة التي خرج منها توًا.
تحدث إلى نفسه قائلًا:
– والآن ماذا بعد؟
***
ضواحي العاصمة
السادسة صباحًا
اللون الأصفر في كل مكان، تأتي الرياح محملةً بالرمال من كل حدبٍ وصوب، وسط الكثبان الرملية المنتشرة توجد عشةٌ صفراء بدائية، عيدان من البوص الجاف تراصت فصنعت الحوائط والأسقف، لا شيء ليجذب انتباه أي مخلوقٍ سوى ذبابةٍ زرقاء اللون ظهرت لتوها من العدم تروم في الأجواء بحثًا عن فاكهةٍ متعفنة تتغذى عليها، أو بقايا حيوانٍ نافقٍ نال الجميع نصيبه منه: الغربان وديدان الأرض، ثم تأتي هذه الذبابة لتمارس دورها الطبيعي في إزالة العفن، عملٌ مقرف لكنه ضروري، من سوء حظ الذبابة أنها لم تجد لا هذا ولا ذاك، طارت بيأسٍ وسط الرياح حتى دخلت العشة التي لم تكن أقل فراغًا من الصحراء خارجها، اشتدت الرياح فعصفت بجسدها الضئيل وألقتها في علبة صفيحٍ صدِئة في أحد أركان العشة، وجدت الذبابة نفسها تنسحب بفعل ضغطٍ سلبي تحت الأرض فيما يبدو كأنه نظام تهويةٍ لمخبأٍ في الأسفل.
ضلت الذبابة طريقها في الظلام حتى وجدت نفسها تُلقىَ من فتحة في السقف، وتسقط مباشرةً في فمِ رجلٍ يتثاءب.
قبل خمس دقائق
يجلس رجلٌ ضخمُ الجثة على كرسيٍ لا يناسب حجمه إطلاقًا، يبدو عليه النعاس الشديد، بشرته سمراء، عيناه أغلبها أبيض حتى لا تكاد ترى بؤبؤيهما فتحسبه أعمى، له كفان ضخمان يجعلانك لا تتمنى أن تتلقى لكمةً منه، يرتدي (فانلة) بيضاء تظهر الوشوم التي غطت كتفه وذراعه، بل حتى الجزء البارز من صدره.
أمام هذا العملاق باب زنزانةٍ حديدي تصدُر من خلفه أصوات طرقٍ عنيف، وصياح امرأةٍ باكية، يجلس الرجل ولا يعير أي من هذا انتباه، ينظر إلى ساعته كل دقيقةٍ كأنه في انتظار حدثٍ مهم، من الحين إلى الآخر تصيبه غفوةٌ يستيقظ منها على ذبابةٍ تقف على أنفه، فيهشها ثم يعاود النوم، لكنها لا تلبث أن تعود، فتوقظه مجددًا، يحدث نفسه مهمهمًا:
– اللعنة على هذه الحشرات، تركنا الأرض لها فتبعتنا تحتها، لما لا تأتي فيروسات تبيدها هي الأخرى؟
يهدأ قليلًا ثم يستعد أن ينام، لكنها تعبر بجوار أذنه مصدرةً طنينًا جعله يفقد أعصابه، فقام من على كرسيه وأخذ يطاردها.
يأتي من خلفه صوتٌ حازمٌ ممزوجٌ بالسخرية قائلًا:
– لقد كنت أنوي معاقبتك إن وجدتك نائمًا أثناء المناوبة، لكن يبدو أن هذه الذبابة أنقذتك مني.
يلتفت الضخم بسرعةٍ لا تتناسب مع حجم جسده، ثم يقف منتبهًا أمام شخصٍ ضئيل الجثة، يرتدي وشاحًا أسودًا، تغطي عينه اليمني ضمادةٌ سوداء مرسومٌ عليها باللون الأحمر شعار الأناركية (حرف A داخل دائرة)، عيناه الأخرى مرعبة، حمراءٌ قانية، غائرةٌ إلى الداخل بالكاد يبدو منها أي شيء.
– كيف حال السجينة يا صادق؟
– ترفض أن تتناول شيئًا منذ أن أتت.
– لا يهم، طالما أنها ما زالت على قيد الحياة.
– لكنها لا تتوقف عن الصياح.
– سوف تفعل، دعها للوقت، وأعلمني عندما يحدث.
– عُلِمَ وينفذ.
يرحل الرجل بنفس الهدوء الذي ظهر به، يعود صادق للجلوس على الكرسي الذي آلم مؤخرته السميكة.
اطمأنَّ قلبه وأرجع رأسه إلى الحائط، فسقطت ذبابةٌ زرقاء مباشرةً إلى فمه.