Darebhar

Share to Social Media

الطفل تاجر المخدرات
الأبراج: هي مباني أسمنتية يصل ارتفاع كلٍ منها إلى مائتي طابق، أسطوانية الشكل، كل دورٍ فيها عبارة عن حلقةٍ دائرية أوسطها فارغ، يتشكل الفراغ في منتصف الحديقة العملاقة، فيها شلالات صناعية ونباتات من شتى الأنواع تضفي على المبنى القميء بعض الحيوية والجمال، كما أنها تجدد الهواء وتعوض الساكنين عن إحساس السجن والأسر.
ينطلق جرس إنذارٍ من أحد المحال التجارية في الحي القابع في الدور الثمانين من البرج السابع، هناك حريقٌ ينتشر.
طفلٌ لم يتجاوز الثانية عشر يركض مُحدثًا الفوضى في كل مكان، وراءه سيلٌ يلهث من الشرطة، يرتدون زيًا رسميًا قبيحًا، لون رمادي باهت يغطي أجسادهم، معظمهم بدناء لا يقدرون على الركض، يضع أحدهم يده على جنبه من الألم، وآخرٌ يتوقف لشدٍ أصاب عضلات قدمه فيجلس على الأرض، بينما يتعثر آخر نتيجة عائقٍ ظهر أمامه فجأةً، ولم يكن هذا العائق سوى زميله الذي أصابته نوبةٌ قلبية مفاجأة أثناء عملية المطاردة.
يمكنك دائمًا أن تعرف مستوى الرخاء والسلام في أي مكانٍ من مستوى كفاءة الشرطة المسئولة عن أمنه، العلاقة في هذه الحالة عكسية، الأماكن التي تتطلب مجهودًا للحفاظ على النظام بها تتطلب دائمًا أشخاصًا أشدَّاء يتمتعون بقدرٍ عالٍ من الذكاء، فأوقاتُ الشدة تصنع صناديد، أمَّا في هذا العصر وبعد أن انتهى تمرد الحركات الأناركية وأصبح ما تبقى منهم قبائل شبه بدائية تعيش خارج الأبراج، لم يعد هناك أي تهديدٍ، صار عمل الشرطة تحرير مخالفاتٍ مرورية لسيارةٍ ركنت في المكان الخطأ، ويا ليت هذا يحدث كثيرًا، المواطنون في الأبراج وديعون، فئة المشاكسين اختفت تقريبًا، لذلك زاد وزن أفراد الشرطة وصاروا غير أكفَّاء.
ولذلك أيضًا هاجت الصحف، وتحدثت القنوات الإخبارية عن هذه الحادثة كثيرًا، ما استدعى تدخلًا عاجلًا من الحكومة النظامية.
***
منزلٌ في الطابق الستين
السادسة مساءً
في غرفة نومٍ بيضاء الحوائط، أثاثها رماديٍ داكن، قسمت مرآةٌ مشروخةٌ على الجدار وجهَ الطفلِ لنصفينِ، كان ممدًا جسده مسترخيًا على فراشه، منتشيًا بفعل الفوضى التي أحدثها صباحًا، ذقنه مدببة مرداء، عظام وجنتيه بارزتين، حاجباه ملتصقان، بإشارةٍ من يده أضاء الجدار أمامه فصار شاشةً تعرض إحدى قنوات الأخبار، الشريط يشير التاريخ إلى الشهر السادس من عام 2125، استمع إلى المذيع الذي يتلو النشرة بلا أي حماس:
– اجتمع مستشارو الأبراج الخمسة عشر في قمةٍ طارئةٍ؛ لمناقشة الهجمات المتعددة التي نفذها البربريين مؤخرًا على مزارع الاتحاد، هذا وقد أكد المتحدث الإعلامي أن الموقف تحت السيطرة.
انتقل المذيع إلى تقريرٍ آخر، فتابعه الصبي باهتمامٍ شديد.
– في موقفٍ غريبٍ من نوعِه حدث حريقٌ في الطابق الثمانون، تمكنت القوات من السيطرة عليه دون خسائر، هرب الفاعل و لا تزال دوافعه مجهولة، هذا وقد أكد شهود عِيان أنه طفلٌ ملثمٌ، لا تزال تحريات الشرطة جاريةً، ننوه على أن الرقيب أنيس قد فارق الحياة بعد مطاردةٍ جسورة.
ظهرت على الشاشة صورة الشرطي البدين ذاته الذي أصابته نوبةٌ قلبية أثناء المطاردة.
يتابع المذيع:
– لم يعتد الناس على أي شغبٍ داخل الأبراج، فمنذ تأسيسها والسلام يعم العالم، أفعال الشغب هذه لا يتصف بها مواطنون متحضرون.
همهم الصبي مستهزئًا:
– لو توقف هؤلاء الأغبياء عن تناول (الدونتس) بكمياتٍ كبيرة لتمكنوا من القبض عليَّ بسهولة، أنا لست سريعًا، هم فقط الذين اعتادوا الجلوس، فنسوا كيف يكون الركض.
أغلق الصبي مغتاظًا التلفاز بإشارةٍ من يده، ثم عاود نظره إلى وجهه في المرآة.
طُرِقَ الباب بعنفٍ، انتفض الصبي بفزعٍ من الفراش، ظنَّ لوهلةٍ أن الشرطة تعقبته، بيد أنها لم تكن أبدًا لتطرق! لكانت هشمت الباب، فاطمئن قلبه وسار في هدوءٍ حتى وصل إلى الباب، قبل أن يفتح أخرج هاتفه من جيبِه فرأى وجه الطارق، ولم يكن سوى أحد زبائنه المعتادين الذين يبيع لهم المخدرات، تحدث في الهاتف فخرج الصوت من المكبر الموضوع خارج المنزل:
– هل تعلمت أن تطرق الأبواب هكذا؟
– أريدك.
– هل تريدني أم تريد بعضًا من مِلح الفضاء؟
– أعطني كيسًا وسأرحل بسلام.
يصيح الصبي في الرجل رغم فارق السن بينهما:
– ألم أقل لك ألف مرةً أني لا أبيع هنا، وكيف عرفت مكاني؟
يتردد الرجل، ثم يقول متوسلًا:
– هذه آخر مرة، أعدك.
– دائمًا وعود.
يغلق الصبي سماعة هاتفه، ثم يقول لنفسه:
– الشيء الوحيد الذي يفعله المدمنون أكثر من تعاطيهم هو إعطائهم وعود بائسة مثلهم ومثل حياتهم اللعينة.
وارب الباب وأخرج رأسه، أمامه رجلٌ كان يسميه بـ(الخمسيني الأدرم).
لم يأتِ الرجل وحده، فقد كان بجواره كلبٌ صغير من فصيلة اليوركشير الذي حالما رأى وجه الصبي حتى بدأ بالنباح، ابتسم له الصبي ولمعت عيناه لفكرةٍ طارئةٍ خطرت على باله.
– متأسفٌ جدًا يا بشير، لكني لم أستطع أن أنتظر حتى الغد.
– ماذا أفعل باعتذارك؟ يمكنني أن أخبرك الآن أيها الخرف أني لن أبيع لك شيئًا.
– لا أرجوك، لا تفعل هذا.
– هذه آخر مرة، أعدك.
– حسنًا إذًا.
يخرج بشير من جيبه كيسًا أبيض يحتوي كريستالات تشبه الملح، ذلك المخدر الذي لا يتسبب في وفاة متعاطيه، فيضمن أن يعيشوا طويلًا ويستهلكوه كثيرًا، فتزيد أرباح التجار، رغم أمنه فقد قدَّر العلماء أن ألم أعراض انسحابه تساوي عشرة أضعاف أعراض انسحاب المورفين، فحالما يبدأ المرء باستنشاقه فلا يمكن أن يقتله استخدامه، لكن التوقف عنه يقتل! لم يتمكن الأطباء حتى هذه اللحظة من إيجاد وسيلةٍ ناجحةٍ لعلاج إدمانه، وهكذا صارت التجارة فيه رائجة.
لمعت عينا الرجل الخمسيني ما إن رأى الكيس، لكن بشير صدمه عندما أعاد الكيس إلى جيبه مجددًا:
– أرني نقودك أولًا، وعقابًا لك على مجيئك إلى هنا سوف تدفع ضعف المعتاد.
– لكني لا أملك مثل هذا المبلغ.
– لا نقود، لا مخدر.
– أعطني الملح الآن وسوف أعطيك الباقي في المرة القادمة، أعدك بهذا.
– لا نقود، لا مخدر.
– ماذا عليَّ أن أفعل؟
– أعطني المال الذي معك وهذا الكلب.
– لكنه ما تبقى لديَّ في الحياة.
– لا تقلق، لم يعد لديك الكثير لتحياه على أي حال، هو في أمانٍ معي.
– لا يمكن.
– إذًا ارحل عن هنا ولا تريني وجهك من جديد.
أوشك الصبي على أن يغلق الباب، لكن الخمسيني دفع الباب بيده صارخًا:
– انتظر.
– ماذا تريد؟
– خذه، لكن عدني بألَّا تؤذيه.
– هو معي بحالٍ أفضل مما هو معك.
ينحني الخمسيني ويرفع الكلب من على الأرض ويضعه أمام وجهه، يخرج الكلب لسانه ويلعق وجهه كما اعتاد طول السنين التي قضياها معًا، يقبل الرجل الكلب ثم يلقيه داخل المنزل، يعوي الكلب ويحاول الخروج إلى صاحبه لكن بشير يغلق الباب خلفه حابسًا الكلب في الداخل، يُخْرِج الخمسيني هاتفه ويفعل بشير المثل، ثم يمرر الهاتف أمام هاتف بشير ثم يقول:
– لقد أعطيتك المال والكلب، هل لي ببعض المخدر؟
– حسنًا.
يخرج بشير الكيس من جيبه ويناوله للخمسيني الذي يلتقطه ويرحل.
دخل بشير المنزل، وجد الكلب منزويًا في أحد أركان غرفة المعيشة، اقترب منه بنشوةٍ عارمة، قام الكلب منتصبًا وظهره للحائط، كلما اقترب منه بشير كلما زاد نباحه، ما إن وصل بشير أمام الكلب حتى وقف ناظرًا له بعينين بريئتين، انحنى بظهره وحاول أن يقرب يده ليمسح فوق رأسه، لكن الكلب حاول عضه، ابتسم بشير ثم ذهب إلى المطبخ بينما تابع الكلب نباحه، فتح أحد الأدراج وأخرج منها كيسًا يبدو عليه أنه طعامٌ للحيوانات الأليفة، فتح الكيس وأخرج منه مقدار قبضته من قطعٍ صغيرة أخذت شكل العظم، وضعها أمامه على الأرض، وقف ساكنًا، اقترب الكلب من الطعام، اشتمها بحذرٍ، يبدو عليها أنها لذيذة، لكنه كان مرتابًا، نظر لبشير يتأمله، نظر بشير في عينيه مباشرةً مُشيرًا إلى الأكل، تردد الكلب للحظةٍ ثم قرر أن يأكل، أنهاه بسرعةٍ خاطفة، يبدو أن الرجل الخمسيني لم يهتم بتغذيته، نظر إلى بشير طامعًا في المزيد، فأخرج الصبي حفنةً أخرى ووضعها أمامه، بكل ثقةٍ انغمس الكلب في الطعام، ولم ينتبه لضربةِ السكين الحادة التي وجهها بشير إلى رقبته، وقد كانت كافيةً لتفصل رأسه عن جسده.
لم يصدر المسكين أي صوتٍ، كانت نهايةً سريعةً، أوهمه بشير بأنه يمكن أن يثق فيه ثم خدعه، هذه هي الهواية الحقيقية للصبي، تقريبًا الشيء الوحيد الذي يستمتع به في الحياة، بعد وفاة جده، آخر من تبقي من أهله، والمعاملة الجافية التي يلاقيها من الجيران، شعر بفقدان طعم الحياة، ثم ظهرت بجوار منزله قطةٌ شريدة، لمدة أسبوعٍ كاملٍ أطعمها واعتنى بها، أحبته ووثقت فيه، وقد شعر بالمثل نحوها، استيقظ في اليوم الثامن وقد أغمته كآبةٌ شديدة لا يدري لها تفسيرًا، سمع أصوات في عقله تخبره أن يقتلها، شعر أن ذلك هو الشيء الصحيح لفعله، وقد كان.
المتعة التي شعر بها وقتها وهو يسلخ جلد القطة ويعلقه في دولابٍ داخل منزله، والنيران المبهجة التي التهمت بقايا جسدها، استطاع في هذه اللحظة أن يتذوق الحياة من جديد، وقد علم لحظتها أن هذا هو شغفه الحقيقي.
كان كلما وجد حيوانًا قتله، حاول أن يفعل هذا مع بعض البشر لكنه ما زال صغيرًا على أن يستطيع أن يقتل أحدهم، حاول أن يستخدم سلاح البراءة الطفولية في أن يستدرج أحدهم لكنه فقد كل براءته في اللحظة التي قتل فيها القطة، صارت عيناه مخيفةً جدًا.
وجدَ الصبي أن القتل ليس السبيل الوحيد لإيذاء البشر، هناك طرق أخرى أكثر متعةً، كاستغلال عوزهم واحتياجهم، ولذلك قرر أن يتاجر بالمخدرات، ليس سهلًا رغم ذلك أن ينجح الصبي في سوق الحيتان هذا، لكنه كان ذكيًا وشرسًا في الوقت ذاته، الأمر الذي جعل أحد أكبر مُصَنِّعِيْ المخدرات يثق فيه ويمنحه امتيازَ التجارة باسمه، وكان كل مرةٍ يثبت فيها جدارةً استثنائية توحي بمستقبلٍ باهر في عالم الجريمة.
انتهى بشير من سلخ الكلب، حمل فروته الذهبية واتجه إلى الدولاب الذي يحتوي على بقايا ضحاياه، حالما فتحه صدمت وجهه رائحةٌ قاتلة، استقبلها على أنها رمزُ لانتصاره، بيدٍ مصبوغةٍ بدم المسكين ألقى الفرو داخل الدولاب، أخذ يتأمل المنظر البهيج بالنسبة له في فخرٍ ثم أغلق الدولاب.
ذهب ليمسح أثار الدماء، ثم حمل بقايا الكلب ووضعها في المدفأة، وشاهد النار وهي تلتهمها.
انعكاس النار في عينيه، صوت النار وهي تأكل في جسد المسكين، رائحة اللحم المحروق، كان الصبي في حالة نشوةٍ صوفية، انتفض جسده، وأخذت النيران تهدأ عندما لم تجد ما تأكله، انطفأت تمامًا ومعها ذهبت تلك الحالة المزاجية الرائعة التي كان فيها الصبي، انقلب الأمر إلى عكسه، وشعر بصدره يضيق، هذا الأذى ليس كافيًا بالنسبة له، إنه يريد المزيد، لم يعد يستمتع بمثل تلك الأشياء البسيطة، حاول صباح اليوم أن يحرق كل من في المحل التجاري، لكن أجهزة الإنذار أفسدت خطته.
بخطىً ثقيلة جرَّ جسده حتى وصل إلى فِراشه وعاود النظر في المرآة المشروخة، أخذ يفكر في كل شيءٍ مر به، الظروف التي وُلِد فيها، الشكل الذي كان العالم عليه قبل أن يخرج كل شيءٍ عن السيطرة، لماذا وُلِدَ في هذه الأبراج؟ الحمقى يسمونها أبراج، لكنها في الحقيقة سجون، الموت أفضل منها، البربريين أفضل من هذه الحيوانات التي يعيش معها، لا شيء مثير في حياتهم، لا شيء بشري، غير مسموحٍ لهم بأن يلمسوا بعضهم، لا يستطيع الرجل أن يقترب من زوجته، ولا الصديق أن يصافح صديقه، هذه ليست حياة، في زمنٍ الحكومة مسئولةٌ فيه عن كل شيء، لا يستطيع أحدٌ أن يتمتع بحريته، الاتحاد هو الذي يزرع ويصنع، والمواطنون يجلسون طيلة النهار يبرمجون الروبوتات للحكومة، من يعترض يتعرض للنفي، لا يحق لأحدٍ أن يقول (لا)؛ لأن حق الحياة يمنحه الاتحاد للجميع، لكنه يسحبه ممن يريد أن يؤذيه ويجعل منه عبرةً، لم يعد هناك أي شيءٍ يختلف حوله البشر، عالمٌ قبيحٌ وسجنٌ صنعه البشر لأنفسهم للهرب من الموت، كل هذا يستدعي منه أن يستمر في تدميره حتى يحرقه تمامًا.
لقد كان يومًا مرهقًا بالنسبة لبشير، شعر بجسده يغفو من تلقاء نفسه ويستسلم للسلام الذي يمنحه النوم، لكن المنزل يتعرض لاختراقٍ مفاجئ. يقتحم الشقة أفرادُ شرطةٍ مختلفون تمامًا عن الذين هرب منهم صباحًا، هؤلاء أسرع وأقوى، مجهزون جيدًا لأي شيءٍ يصدر منه، ولم يكن يستطيع أن يفعل الكثير بأي حال، فلم يمنحه الأفراد الملثمون أي فرصةٍ، قبل أن يستطيع القيام من فِراشه كان محاطًا بخمسة رجال أشداء تغطي وجوههم أقنعةٌ مفلترة، يبدو أنهم مجهزون لأنْ يشتبكوا جسديًا مع بشير.
لم يكن في وسع الصبي إلَّا أن يقول:
– جيشٌ كبيرٌ لفتى في سني!
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.