الخيل والليل
عام 2127
إحدى القبائل البربرية
التاسعة مساءً
تنتشر العديد من الخِيام حول بركةٍ من الماء العذب، يحمل رجلٌ دلوًا قد عبئه توًا من البركة، واتجه إلى اسطبل الخيل، حوى ذلك الاسطبل حوالي خمسين حصانًا، اتجه الرجل إلى أحدهم، ومسح فوق رأسه بلطفٍ، أخرج من سرجه (ليفةً) من خيشٍ، غمرها في دلو الماء، ورفعها ثم فرك جسد الحصان، عاود غمر الليفة فتحول لونه إلى أحمر، ما إن انتهى من تنظيف الحصان، ألقى الماء المختلط بالدماء بعيدًا، خلع السرج عن الحصان واقتاده إلى البركة حتى يشرب، ووقف يتأمل انعكاس وجهه على الماء العذب، شرد في الحرب والحياة، وقطعه عن ذلك قدوم شابين نحو البركة، حمل كلٌ منهما جوادًا ليسقيه.
نظر إليهما ثم عاود شروده في الماء، يبدو عليه الإرهاق، وكل ما تمناه في هذه اللحظة أن يكون هو نفسه حصانًا حتى يعتني به أحدهم مثلما يفعل هو، بالإضافة إلى كون الخيول منيعةً ضد العدوي.
سأله أحد الشابين دون أي مقدمات:
– كيف حاله؟
رد الرجل:
– سينجو...
– لم نرَهُ مريضًا بهذا الشكل قبلا.
– هو أقوى مما تظنون.
– متى الغزوة المقبلة؟
– خذوا وقتًا لتستريحوا، وحالما يستعيد هشام بعضًا من صحته سنهجم.
– الأنباء لا تبشر بخيرٍ يا سيدي.
– يبدو أن الاتحاد يستعد للهجوم علينا.
ابتسم الرجل بلطفٍ، ثم ربت على كتف الشاب الأكثر قلقًا فيهم:
– بل كل هذا خيرٌ لو تعلمون، هذا معناه أنهم شعروا بالخطر، في الماضي كانوا لا يلتفتون لنا، بل لا يشعرون بوجودنا.
– معك حق، الفضل كله يعود لهشام والعلم الذي لديه.
– لنأمل أن تعود إليه صحته عما قريب إذًا.
فرغ الحصان من الشراب، وجرَّه الرجل وعاد به إلى الاسطبل تاركًا الشابين وقد زال عنهما بعض القلق.
ذهب الرجل إلى الخيمة الخاصة بهشام، وكانت الخيمة من قماشٍ ثقيل، واسعة رحبة، لكنها بدائية، فرشت الأرض بجلود البقر والماعز، فيها صندوقٌ خشبي لِحفظ الملابس، في منتصف الخيمة يوجد فراشٌ ضئيل، نام عليه رجلٌ في الخمسينات تبدو عليه علامات المرض، جبهته حمراء يملأها العرق، فوقها كيسٌ من الثلج، كان هشام يهذي قائلًا:
– شدوى، عليكِ أن تذاكري جيدًا كل ما علمتك إياه، هذه أساسيات في علم البرمجة.
وقف الرجل بدرعه المعدني يرثي حال هشام، تمنى له الشفاء..
بجوار الفراش يقف عامودٌ معدنيٌ معلق عليه كيس دماء، تسلل منه خيطٌ أحمر رفيع عبر خرطومٍ دقيق أخره موصولٌ بأوعية الرجل. تدخل الخيمة فتاةٌ حديثة البلوغ لتستبدل الكيس الثلجي بآخر، انتظر الرجل حتى انتهت ثم سألها:
– كم عمرك يا صغيرة؟
– خمسة عشر عامًا.
– لم يجدوا شخصًا أكثر خبرةً منكِ؟
– لا يوجد هناك أحدٌ ليختار، أصابت الحمي كل المداويات ومِتْنَ.
– مناعةٌ قوية لطفلةٍ مثلك!
– لقد ماتت والدتي بالإسهال، وأخذ أخي ينزف حتى مات، لا يوجد دليٌل يثبت أن مناعتي قوية.
– ربما عندك حق، وربما تكونين الطفرة التي ننتظرها!
– قد يكون الأمر كذلك.
– ماذا عن أبيك؟ هل مازال على قيد الحياة؟
– لا، مات قبل عشرة أعوام في إحدى الغزوات.
– علينا أن نعتني بكِ جيدًا إذًا.
نظر الرجل إلى هشام الراقد من شدة إعيائه، ثم التفت إلى الصغيرة من جديد قائلًا:
– أنا قلقٌ عليه كثيرُا، سأذهب غدًا في غزوةٍ، هل يمكنني أن أطمئن عليه معكِ؟
– سأفعل ما بوسعي.
– أنت تعلمين أهمية هذا الشخص لنجاتنا، أليس كذلك؟
– لا داعي لأن تذكرني بذلك.
– هل يتحسن؟
– يبدو أنه يهذي، يذكر امرأةً اسمها شدوى كثيرًا.
– المسكين لا يمكنه النسيان...
تستدير المداوية؛ لتغادر الخيمة، بينما يدنو الرجل من صديقِه الراقد، ينظر إليه ويمسح على شعره المبتل من شدة العرق، فتح هشام عينيه وتحامل على نفسه ليمسك يد صاحبه، انفرجت أسارير الرجل فصاح:
– لقد استفاق، يبدو أن هذه الدماء جيدة بالفعل.
تلتفت المداوية لصياح الرجل.
يهمس هشام بصوتٍ يجاهد ليخرج:
– كيف كانت المعركة يا مروان؟
– نجحنا في سرقة الكثير من المؤن، كما خربنا كل الآلات هناك.
– أحسنتم!
– الفضل لك، أنت من دمرت دفاعات آلاتهم!
– أشعر بالإرهاق.
– استرح الآن ولنكمل حديثنا لاحقًا.
أغمض هشام عينيه ليستريح، أشار مروان للممرضة ثم قال:
– إذا حدث أي تطورٍ أعلميني!
خرج من الخيمة ليجد القمر مكتملًا والخيل في الإسطبل هائجةٌ تصهل، شاهد الرجال وهي تحاول تهدئتهم، فشلوا في ذلك، رفس جوادٌ أسود أحد الرجال فصرعه، ركض مروان لمَّا رأى ذلك، أمر الرجال بمغادرة الإسطبل ففعلوا، دنا مروان من الخيل واحدًا واحدًا، ما إن يلمس رأس أحدهم حتى يهدأ.
***
عام 2103
ذات يومٍ من الأيام وجد الجنود حصانًا بريًا يهيم في الصحراء، ظهر أول ما ظهر قادمًا من جبلٍ ضخمٍ، كان أسودًا كالفحمِ النقي وله غرةٌ بيضاء، عملاق يجاوز ارتفاعه الستة أمتار، كان أكبر حصانٍ رآه الجنود، حاولوا ترويضه ليستفيدوا منه في المعارك، حالت فحولته دون ذلك، روحه حرةٌ أكثر من معظم البشر، كان بالنسبة للقبيلة صيدًا ثمينًا، حاوطه الرجال بالرماح والحبال، لكنه كان سريعًا كالبرق، ثابتًا كالوتد، قويًا كعشرة ثيران، خفيفًا كالريح، حاول أحدهم أن يشتت انتباهه بالسكاكر والحركات الغريبة بينما يقترب الآخرون من خلفه، ظنوا في البداية أن الحيلة قد نجحت حيث أنه أولى انتباهه للرجل الذي يلهيه، كان الرجال خلفه قاب قوسين أو أدنى من تقييده لكنه دون أن يلتفت كان يستشعر وجودهم، فرفس أحدهم رفسةً صرعته في اللحظة، ثم ركض نحو الرجل الذي كان يحاول تغفيله، صهل رافعًا قدميه الأماميتين لأعلى، بال الرجل على نفسه وقد ظنَّ أنها النهاية، لكنه كان مجرد تهديدٍ للبقية، ما إن انتهى من صهيله حتى استدار وركض بعيدًا، لكنه ظلَّ تهديدًا للقبيلة، في كل مرةٍ يخرج أحدهم للصيد لينقضَّ عليه، شكَّل هذا الحصان رعبًا للجميع لفترةٍ طويلة، وأطلقوا حوله الأساطير، منهم من قال إنه أحد أعوان إبليس، ومنهم من تمادى لقوله إنه إبليس نفسه، كان مروان ما يزال طفلًا في تلك الحقبة، ولما كان من الخطر على الرجال الخروج من القبيلة أصدر قائدهم قرارًا بمنع الأطفال من الخروج من خيامهم، في إحدى الليالي المقمرة خرج الطفل مروان خِلسةً دون علم والدته؛ لأن المرض كان اشتد عليها، تسلل خارج القبيلة وذهب أبعد مما ينبغي، فوجد نفسه محاطًا ببعض الذئاب الجائعة، اقترب كل واحدٍ منهم من اتجاهٍ يعوي، ولم يكن هناك مفرٌ له، بدأ بالصراخ الذي استلذت له الذئاب قبل أن تنقضَّ عليه، ظهر الجواد الأسود من العدم وصرع الذئاب جميعهم بسرعةٍ لم ينتبه لها الطفل، اقترب الحصان من الطفل وحمله بفمِه ثم دفعه ليجد نفسه مستلقيًا فوق ظهره، ولم يكد الطفل يصدق ما يحدث حتى وجد نفسه في القبيلة من جديد، عندما طلع الصباح قصَّ الولد على الجميع القصة لكن لم يصدقه أحدٌ، أما الشيء الأكيد هو أنه بعد هذا اليوم لم يعد الحصان يظهر لأحد، وأن هذا الطفل كبر ليصير أفضل مروضٍ للأحصنة عرفه العالم المنبوذ.
تكرر ظهور الحصان الأسود لمروان في مواقفٍ عديدة كانت حياته فيها على المحك، ففي إحدى المعارك دفعه أحدهم من على حصانه فوقع على الأرض ووجد نفسه قريبًا جدًا من سيفٍ جبارٍ يقترب نحو عنقه، لكن الحصان الأسود ظهر له من العدم ليحمله بعيدًا عن المعركة، توالت مواقفٌ كهذه جعلت من مروان قائدًا عسكريًا لا يُستهان به.
***
عام 2127
عَلِمَ مروان أن الخيول استشعرت خطرًا لا تدركه حواسه، أمر رجاله أن يتسلحوا، بدت عليهم الحيرة، لكنهم اعتادوا على تنفيذ الأوامر، لا يفهمون المنطق وراءها، ركض قُرابة مائة من الرجال يبحثون عن بنادقهم في كل حدبٍ وصوب، اصطفوا أمام القائد الذي كان مستعدًا بدرعِه ومسدسه، بأيديهم بنادق فضية مصنوع من أليافٍ لا تجعل لها وزنًا ولكن تمنحها صلابة،ً كانت هذه الأسلحة المميزة إحدى النعم التي حصلوا عليها بفعل هشام، استطاع بحواسيبه التي يحملها دائمًا معه أن يحدد أماكن مخازن الأسلحة التي صنعها الأقدمون، فجمعوا الكثير من الغنائم.
انتظر الجميع أوامر مروان الذي وقف ناظرًا إلى السماء، ابتسم حين علم لماذا كانت الخيول مرتبكة، إنها طائرات الاتحاد تقترب، بدأ هشام في الصياح:
– الهجوم آتٍ جوًا، انقسموا لأربع مجموعات، لتذهب الأولى لحماية الأسلحة والمؤن، والثانية معي لنسيطر على الخيل، الثالثة تذهب وراء التلة لتهجم عليهم عندما يهموا بالرحيل، والرابعة تذهب لخيمة هشام، وتستعد لنقله إذا استشعروا خطرًا عليه، هيا تحركوا، لا وقت لنضيعه.
ركض الجميع كلٌ في موضعهِ، وترقبوا بصمت وصول الطائرات المسيرة، ظهرت الطائرات في الجو فبدأت المجموعة الأولى والثانية إطلاق النيران، اتخذ السرب تشكيلةً دفاعيةً صعَّبَت مهمة اقتناصهم، نجح الرجال في إسقاط طائرتين لكنهم استغربوا سلوكهم الغريب، فهم لم يطلقوا أي صاروخٍ أو رصاصةٍ واحدة، أكملت الطائرات سعيها حتى وصلت أمام البركة التي عسكرت القبيلة حولها، ثم أسقطت اسطوانات في الماء التي ما إن لامست سطحه حتى أطلقت سائلًا لوثه.
ما انتهت الطائرات حتى رحلت بنفس الهدوء الذي جاءت به، حاولت المجموعة الثالثة أن تقتنص بعضهم فنجحت في إسقاط ثلاثة، ركض الجميع تجاه البركة، نظروا إليها وهمهم أحدهم:
– يبدو أن هذا المكان لم يعد صالحًا لنا.
بينما قال آخر:
– علينا أن نرد الصاع صاعين.
– نحن عاجزون طالما هشام في مثل هذه الحالة.
– ماذا إن مات؟
استشعر مروان أن الأمور ستخرج عن السيطرة، وأن المقاتلين يستولي عليهم الفزع، فزمجر فيهم ناهيًا:
– لا أريد أن يشرب أحدٌ من هذه المياه، ولا أن تلامس حتى جلده أو جلد الخيول، اجمعوا أغراضكم سنتحرك مع أول ضوءٍ للشمس، صحة هشام في تحسن، علينا أن نعود لمكان القبيلة لنستريح.
ساد الهدوء المشهد بعد الكلام الذي قاله مروان واتجه كلٌ إلى مهمته، جلس مروان بجوار البركة ليستريح ويفكر في الخطوة القادمة، باغته صوت المداوية من بعيد قائلةً:
– لقد استعاد وعيه.
هرع مروان تجاه خيمة هشام ولم يكد يصدق عينيه عندما رآه متكئًا على فِراشه ينظر إليه في وهنٍ، استدعى هشام قوته ليتكلم:
– ماذا كان ذلك الصوت؟ هل هو إطلاقٌ للنيران؟ ماذا حدث؟
– لا تقلق لم نخسر أي شخصٍ، فقد لوثوا بركة المياه، لن نستطيع مواصلة غزواتنا للأسف.
– لم يعد هناك مفر، علينا أن ننفذ ما اتفقنا عليه، إمَّا هذا أو هلاكنا جميعًا.
– سنعود إلى القبيلة غدًا ونرى ما يمكن أن نفعل.