إهداء الي المرحوم
الأستاذ/محمد عبد الحي القاضي
الي الغائب عن العين والحاضر في القلب.
الي من لم يمت في العقول والنفوس.
لازلت حيًا بين أحبائك بذِكراك.
لازالت الناس ترى أثرك الطيب في ابنائك وزوجتك.
لازالت روحك الطيبة وسيرتك العَطِرَة تملأ المكان.
رحمة الله علىٰ أب لن يُعوّضه الزمان.
الانْتِرُوبُوفَاجْيا( )، تلك الظَّاهرة التي تجعل الإنسان يفقد أبعاده العديدة التي يتميَّز بها عن الحيواناتِ التي يحكمها الأفُق البيولوجي، إذ تُمحَى أبعاده الثقافية والحضارية لِيِتِدِنىٰ إلىٰ وضعٍ حَيوانيٍ مُتَوَحِش، ويتحول بذلك من الوضع الإنساني إلىٰ الوضع الحيواني البَحْت، وتصبح الحاجة والغرائز هما المُحَدِّدَان الحقيقيان في كل العلاقات البشرية.
أما بالنسبة لحُرمة المَوْتىٰ والخشية من المَوْت، فهذان لا يَعْدُوان أن يُصْبِحا ذكرى عَفَا عليها النسيان وتوارَت بعيدًا في اللاوعي البشري، وبِطِوال أمَدْ المجاعة وعُنْفَها سيتحرك المُتَضَرِرُون الأحياء لِيَسْعَوا للنجاة ما أمكن من أمر، والقيام بردود أفعالٍ تتفاوت في قوتها وفَعَالِيَتِها( ).
المقدمة
قد يُعاد تَسْطير التاريخ علىٰ يدِ من لم يُعاصروا أحداثه، لربما يُخَيَّل إليكم أن ما سأقُصُه عليكم هو مُجرد ضَربٍ من الخيال، ولكن يبقى هنالك الكثير من المآسي والمعاناة اللتين لم تُروْيا بعد، فلم يَعِشْ أحدٌ لِيَرْوِيها عن لِسانِ الأموات، لقد عاصَر أولئك الناس من الفظائعِ والأهوالِ ما لم تشهدْ (مصر) مثلهما من قبل علىٰ مَدارِ التاريخ.
فلا تتعجل عزيزي القارئ في مُطالعة صفحات ما حدث بزقاق (أُترُجة الشاهد)، ذلك الزُّقَاق الذي تجاورت به الديار، لِتَتَجاوَر قصص وحيوات من عاشوا فيه.
فما أُقدمه لكم الآن بين أيديكم، هي قصص أناسٍ مَرَّت عليهم سبعُ سنواتٍ عجاف، يُقال بأنها أشد بأسًا من السبعِ العِجاف التي عانَت منها (مصر) في زمن سيدنا (يوسف عليه السلام).. إليكم أحداث الشِّدَّة المُسْتَنْصِرية.
ومضة
لقد أقدَم أخيرًا علىٰ فِعْلَة دام تَرَدُّدْها في نفسِه منذ وقتٍ طويل، لم يعتَد التَّحرك يومًا بمفردِه دون قَطِيعِه، ولكن بات من تَبَقَّىٰ منهم هزيلًا يُنازع المَوْت جَوْعًا، لم يَكُن أفضلهم حالًا بالفعل، ولكن كان عليه التَّصرف كي لا يموت، ويموت معه أولئك الذين يَتَعلَّقون في رقبتِه، فقرر النزوح نحو تلك المدينة المُقفرة، كان الأمر قبل ذلك مستحيلًا خيفة أن يقوم البشر بقتلِه إن صادفوه، أو أن يُلاقي تلك الكلاب خاصتهم فتهاجمه وتفتك به، ولكن الآن بات المكان مُوحِش كالصَّحراء التي يعيش بها، خاوٍ تلوح به ظِلال المَوْتِ في كل مكان، فقاده حينئذٍ الجُوع في النَّهاية لاستكشاف ذلك المكان للمرةِ الأولىٰ.
تحرك الضَّبْع داخل المدينةِ في حَذِرٍ منه يَتَحَسَّس بأنفِه الطريق من أمامِه، كانت رائحةُ الدِّماء تُعبِّق المكان، فكاد عقله أن يُجن في شهوةٍ منه ليحاول تَتَبُع آثارها، ولكن كانت أثار الرائحةِ تنتهي دَوْمًا خلف أحد الأبواب المُوصدة لإحدىٰ ديار هذا المكان، فَيُعاود حينها التَّحرك مرةً أخرىٰ في الجِوار بحثًا عن مُرادِه، حتىٰ توانت أمامَه أخيرًا فرصةٌ سانحة، فقد تَسَرَّبَت إلىٰ أنفِه رائحة دماء أتت من دارٍ تَوَارَب بابه دون إحكام غَلْقِه، فتقدم بخطواتٍ بطيئة حتىٰ جاورت أنفه الباب، لتغزو الرائحة أنفَه ويصرخ الجُوع بعقله مطالبًا، لِيَدفع الباب برأسِه وينزاح جانبًا في رفق، لِيَدْلِف إلىٰ الداخل بخطواتٍ حذرة، شاخصًا بصره نحو أصحاب الدَّار.
التفت الرَّجُل وزوجتُه نحو زائرهما فور إدراكه.. لِيَتَمَلَّك الخَوْف من قَلْبَيْهما وهما ينظران نحو ذلك الضَّبْع من أمامِهما، بينما أطال الأخير النَّظر إليهما في تَرَقُّب، ليَقِع بصره علىٰ قطعةِ اللحم التي تسيل الدِّماء منها، والقابعة فوق طاوِلةٍ خشبيةٍ من خلفهما، بينما تُوْقَد النَّيران أسفل إحدىٰ الأواني السَّاخنة استعدادًا لطَهْيِها، ليزداد سُعار الجُوع به ويُزمجر مُكشرًا عن أنيابه مُنْتَوِيًا اقْتِناصِها، ولكن باغتته حينها تَقَلُباتُ طفلٍ صغيرٍ في فِراشِه لِيَلتفت إليه علىٰ الفور، ذاك الفِراشُ الذي كان بجِواره ولم ينتبه لِتواجُد من يعلوه، فقرر حين ذاك الظَّفر بقطعةِ اللحم تلك.
استيقظ الطِّفْل في صُراخٍ جَرَّاء شعوره بألمٍ رهيبٍ إِثْر انغراز أنياب الضَّبْع في إحدىٰ قدميه، ليَطْبِق الأخير عليها بِفَكَّيْه ويجذبها في قوةٍ لِيُوْقِع بالطِّفْل أرضًا ويبدأ في سحبه للخارج، لا أحد يدري سبب تَسَمُر والديه دون حَرَاكٍ منهما بينما يُشاهدان ولَدهُما وهو علىٰ وشك أن يُؤكَل حيًّا، لربما يعود سبب ذلك إلىٰ حالة الهَزَل الشديد التي أصابتهما فلا يقويان علىٰ دَرْء الخطر عن صغيرهما، ولربما شَلَّ الخَوْف عَقْلَيْهما عن التَّفكير وأَلْجَم جَسَدَيْهما عن الحَرَاك، فظلا مُتَسَمِرَيْن في مكانهما يترقبان الموقف من أمامهما دون أي ردةِ فعلٍ منهما( )،حينئذٍ انفجرت مَثانَة الطِّفْل خوفًا لتَتَبلل ملابسَه، بينما تَشَبَّث بيدَيْه في إحدىٰ قوائم الفِراش صارِخًا في فَزَع، في حين ازْدَادَت شراسَة الضَّبْع الغاضِب وأخذ يُطِيِح بِقدَمِ الطِّفْل بين فَكَّيْه يمينًا ويسارًا في محاولةٍ منه لِجَذْبِه، لِتُباغِته ضَربَةٌ غاشمة هَوَت علىٰ فَكَّيْه وأطاحت بوجهه بعيدًا عن قدمِ فريسَتِه.
أخرج الضَّبْع عواءً عاليًا من شِدَّة الألم الذي أحاق به، لِيَنتبه سريعًا لذلك الرَّجُل الذي أتىٰ مُسْرعًا من الخارج لإغاثتهم، ليُحدِّق في غضبٍ نحو ذلك الرَّجُل الذي غزا الشَّيْب رأسه وهو يجذب الطِّفْل بعيدًا عنه ويدفع به نحو والديه، ليَقِف حائلًا بينه وبين ضَحِيْتِه، في تلك اللحظة زَمْجَر الضَّبْع بقوةٍ وغضب بصَوْتٍ أشبه بضحكٍ قَميء( )، بينما أخذ يقترب نحوهم في حَذَر.
نظر الرَّجُل حينئذٍ نحو ذلك الحيوان ذي الأضلع الناحلة بأثدائها المُتدلية من أسفلِ منها، ليُدرك علىٰ الفور أن ذلك الوحش من أمامِه ما هو إلا مُجرد أنثىٰ ضَبْع حديثة الوضع، تبحث عن موردٍ ما لتُطعم أطفالها، أنثىٰ شَرِسَة لن تتراجع عن هجومِها أو يُثنيها شيءٌ عن نَيْل ما جاءت من أجلِه، ليَسْتل الرَّجُل الأشْيَب خِنْجَرَه من غمدِه وهو يُوْقِن في قرارة نفسه أن القادم هو الأسوأ لا مَحَالة.
عَلَت زَمْجَرة أنثىٰ الضَّبْع عاليًا، بينما اقتربت بفَكَّيْها في محاولةٍ منها لِنَيْل إحدىٰ قَدَميّ الرَّجُل من أمامِها، فأخذ يُطِيِح بخِنْجَرِه في وجهها في محاولاتٍ مُضْنِيَة للدفاع عن نفسِه، حتىٰ أصابت إحدىٰ بطشات نَصْله وجهها، فتراجعت بضع خطواتٍ وهي تُشِيحُ بوجها جانبًا في ألم، ثم ما لَبِثت أن عاودَت الهجوم بضَراوة.. لتَثِب في غضبٍ نحو صَدْر الرَّجُل فتطرحه أرضًا وتعتَليه.
كان فَكَّاهَا ينهشان الهواء من أمام وجه الرَّجُل الذي كان يُباعِدهُما عنه بِشِق الأنفس، في حين يدفع رقَبَتَها بيديه بعيدًا عنه بكل ما أوتي من قوةٍ وعَزْم، كان مُمْسِكًا بخِنْجَرِه وقتئذٍ في إحدىٰ قَبْضَتَيْه دون القدرة علىٰ استخدامه، فلم يَقْوْ علىٰ طَعْنِها في رقبتها خِشية أن تَضْعُف يده الأخرىٰ عن المقاومة فتُباغته أنثى الضَّبْع تلك، وتندفع بفَكَّيْها نحو وجهِه قبل أن يتمكن من قَتْلِها، فأعدَل عن نِيَّتِه تلك في اللحظة الأخيرة، وظل يدفع برقبتها بعيدًا في يأسٍ منه، وهو يجهل ما عليه فِعْلَه في تلك اللحظة تجاه ذاك المَوْت الذي كاد أن يطوله.
وفجأة أتىٰ له الغَوْث بعد لحظاتٍ قليلة من يأسه، ليُطِيِح صاحب الدَّار حينها بإناء ماءٍ مغليٍ من جِواره، فتعالىٰ عُواء أنثىٰ الضَّبْع إَثْر حَرْق الماء المُلتَهِب الذي قد نال من ظَهرِها؛ لتَخبو قوة اندفاعها نحو وجه الرَّجُل، فتُتَاح له فرصةٌ وحيدة أخيرة في غفلةٍ منها، ليَحْكُم قبضته علىٰ خِنْجَرِه ويدفعه ليَنغرز في رقبتها، فجحظَت عيناها حينئذٍ من الألم الذي سَكَن بها، فسارع الرَّجُل بدفع يده الأخرىٰ لرقَبَتِها في قوةٍ نحو نَصْل خِنْجَرِه ليزيد من غَرْز طعنته داخل رقبتها أكثر، لتمر الثواني ويَهْمد ذلك الجسد الذي جثا فوقه في سكونٍ أخير.
قام الرَّجُل بعد ذلك بدفع تلك الجُثَّة الهامدة بعيدًا عنه، ثم عاوَد الوقوف مرةً أخرىٰ بينما لا زالت فرائِسُه ترتعد جَرَّاء الحدث الأخير، أخذ يتأمل ذلك الجسد النَّافِق من أمامِه في صَمْت، وقد أُزْهِقَت الحياة منه، بينما كان ذنبه الوحيد هو محاولة تَلبِيَة إحدىٰ غرائزه الرئيسية...
غريزة البقاء علىٰ قيد الحياة.
* * *