القاهرة.
عام ٢٠٢٣ م.
صوت لهاثه يُسمع من على بعد ألف ميل، دقات قلبه ستثقب طبلتي أذنيه، قطرات العرق التي تتسابق محمومة على إفقاده قدرته على الرؤية ولم يشفع لها برودة جو شهر يناير، تأكد من تثبيت هاتفه المحمول للمرة الأخيرة وهو يحاول تجاوز ذلك الجدار نصف المتهدم من المبنى الضخم الذي يقتحمه وحده بعد منتصف الليل في برد قارس ذلك المبنى المهجور التي شاعت حوله العديد من الأساطير المُرعبة، اقتحمه هو وحده في شجاعة يُحسد عليها بالفعل، بعد عناء طويل نجح في تجاوز الجدار نصف المتهدم.. الظلام كثيف بطريقة غير عادية لم ينجح كشافه بتبديده بالكامل، وقف أدهم للحظات وهو يحاول السيطرة على أنفاسه ومن وسط لهاثه قال بصوت متهدج:
أعزائي المتابعين.. الآن نحن داخل المبنى الإداري الأول لتلك المستشفى التي تحداني أحد المتابعين في دخولها وحدي ليلاً، كان يبث مغامرته عبر موقع ال facebook لألاف من جمهوره الذي يتابعه بصفته واحد من أكبر المحققين في مجال خوارق والماورائيات في القطر المصري إن لم يكن الوحيد!، أنهى جملته ثم أدار هاتفه المحمول ليواجه الكاميرا الخاصة به وليرى جمهوره وجهه ثم قال بعد أن هدأت أنفاسه قليلاً بنبرة سخرية:
لم أرَ بعد أبو رجل مسلوخة أو أحد ملوك الجان!
جاءته درزينة من التعليقات المستنكرة لم يهتم لها وهو يعيد توجيه الكاميرا الخاصة بالهاتف إلى المبنى من أمامه وهو يقول:
الآن سنبدأ جولتنا في هذا المكان...
* * *
تحداه أحد متابعيه منذ فترة بالذهاب إلى ذلك المبنى التي منعت السلطات المصرية أحدًا من الذهاب إليه، تكاثرت حوله الأقاويل فهناك من قال إن ذلك المبنى يُعد وكرًا خاص بعبدة الشيطان ومنهم من قال إنه ملجأ لمدمني المخدرات وممارسي الدعارة والبعض قال بأن حادثة قد وقعت بأوائل العقد الحالي جعلت أصحاب المستشفى يغلقونها إلى أجل غير مسمى، حريق.. راح ضحيته العشرات بدون معرفة الفاعل.
ارتسمت ابتسامة خفيفة على وجه أدهم وهو يقول لمتابعيه:
لا أثر لأي شيء حتى الآن.
تلاشت ابتسامته سريعاً وهو يقرر مصارحة متابعيه قائلاً:
لكن والحق يقال المكان غارق بالطاقة السلبية وكثافة الهواء غير مريحة لكني أُرجع ذلك إلى عدم وجود مصادر تهوية صحية، هناك إحساس بعدم الراحة أي نعم أتفق لكن ليس هنالك ما يخيف.
استمر في السير في الظلام والضوء المنبعث من كشافه الضوئي يحدد مساره، خلال سنوات عمره التي تجاوزت الثلاثين بثلاث سنوات لم يكن أدهم بالشخص الجبان أو الذي يسهل تخويفه كأن قلبه قد قُد من حجر أو أن وفاة والدته قد نزعت من قلبه الخوف، ود أدهم أن يشعل لفافة تبغ لكنه لا يتذكر مكان عُلبته ولن يضيع وقته في إنزال حقيبته من على ظهره والبحث فيها الآن في هذا التوقيت.
كانت التعليقات تنهال على البث المباشر الخاص به، بعض المتابعين يطلب منه المبيت والبعض الآخر يطلب منه قراءة طلاسم، شباب مراهقين لا مسؤولية خلفهم ولا أمامهم وجدوا ضالتهم في أدهم الذي يقوم بكل ما يعجزون هم عن فعله.
لم يكترث أدهم بقراءة التعليقات وقال:
الآن نحن في الطابق الثالث من المبنى المهجور منذ عام ٢٠٠٤ حتى وقتنا هذا عام ٢٠٢٣ أي تسعة عشر عام بالتمام والكمال.
صمت لبرهة وهو يلتقط أنفاسه ثم قال:
لا آثر لأي شيء غير طبيعي أو غير اعتيادي آثار هجرة البشر للمكان واضحة للغاية ثم أن...
قاطعه صوت حركة على يمينه فالتفت بكل جوارحه ناحية مصدر الصوت موجهًا ضوء كشافه ناحية البقعة التي صدر منها الصوت، للحظات بدا كل شيء طبيعياً لا حركة لا صوت لكنه أحس بوجود شيء ما... أو بمعنى أدق شخص ما، فقد كرس أدهم آخر خمس سنوات من عمره في محاولة إثبات أن لا عفريت إلا الإنسان!، فلم يؤمن أدهم بحوادث التلبس والاستحواذ الشيطاني أو أن الجن يسكن البيوت لذلك في تلك اللحظة أول شيء خطر في باله أن هناك شخص ما معه الآن، ربما مشرد بلا مأوي اتخذ من المبنى المهجور ملاذ له أو مدمن مخدرات كان يتعاطى جرعاته من السموم، تحفز جسده بينما تنهال عليه التعليقات في بثه المباشر لكنه لم يكترث لها...
ببطء اقترب من المكان وظهر أخيراً مصدر الصوت.
فأر كبير!، مجرد فأر بحجم كبير يتجول بِحُرية في قلب المكان المهجور.
تنفس الصعداء وقال لمتابعيه بنبرة ساخرة ردًا على التعليقات التي أفاد أصحابها بأن العفاريت التي تسكن المكان قد قررت الإفصاح عن نفسها:
فأر كبير ماذا تتوقعون يعني من مكان مهجور؟!
شعر بالزهو من تعليقات أغلب متابعيه الساخطة عليه وقد ازدادت خطواته ثقة في المكان وهو يعود أدراجه حتى الطابق الأول، وعندما وصل اختار مكان في منتصف مدخل المبنى واستند على ركبتيه خالعاً حقيبة ظهره ووضعها أمامه ثم أخرج منها خريطة كبيرة لمدينة القاهرة وسلط عليها الكشاف وبقلم أحمر قام بوضع علامة صح على موقع المبنى في قلب القاهرة وهو يقول لمتابعيه:
وها هو مكان آخر يدخله أدهم غلاب ويخرج منه بدون أن يقابل أي شيء غير طبيعي أو خارق أو غير مألوف فكما أقول لكم دائما لا عفريت إلا بني آدم.
كان معكم أعزائي المتابعين أدهم غلاب..
(المُحقق)
* * *
صعد درجات السُلم المؤدي إلى شقته في الطابق الثالث بتثاقل وكسل شديدين، يشعر أن جسده يرفض الاستجابة إلى الأوامر التي يصدرها له مخه، تنفس الصعداء حين لاح باب شقته أمامه ليفتحه على عجل ويدلف إلى الشقة راميا حمولته كلها على الأرض وينهار على أقرب مقعد إليه، الأدرينالين وأعراض انسحابه من دمه أصبحت إدمانه الوحيد الذي لا يستطيع التخلي عنه أبدًا، فبعد كل مغامرة ليلية كما يحب أن يسميها يعود إلى منزله شاعراً بارتجافه وثقله ورغبته العارمة في النوم، أمسك هاتفه مقررًا أن يهاتف ليلى صديقته المقربة والتي تعتبر نفسها مديرة أعماله فهي من تتولي إدارة كافة المهام المتعلقة به من لقاءات صحفية أو تلفزيونية أو إذاعية كما تقدم له دائما النصيحة والمشورة الفنية والتقنية فهي أيضا متعمقة في مجالات الخوارق والماورائيات... لكن في اللحظة الأخيرة أغلق شاشة هاتفه مقرراً تأجيل تلك المكالمة إلى ما بعد حمامه الساخن.
* * *
قطرات المياه الساخنة الساقطة على رأسه يشعر بصوتها داخل عقله، مرر أصابعه على شعره الكثيف محاولاً فتح طريق للمياه للتغلغل أكثر داخل رأسه محاولة منه لإزالة الأتربة العالقة به من آثر مشواره الغابر... لكن الشعور!، ذلك الشعور!، شعور عدم الراحة الدائم الذي يرافقه منذ وفاة والدته، ذلك الشعور الذي يزداد بعد كل مغامرة ليلية له، لكن اليوم يشعر بشيء مختلف لا يدري كنهه بالضبط لكن يشعر باقتراب شيء ما له، شيء لا يمت للخير بصلة لا من قريب ولا من بعيد.
أنهي حمامه وخرج من الحمام والبخار يحاوطه من كافة الاتجاهات والبرد يلسعه لكنه طالما أحب البرد، جفف نفسه وبعدها جلس على طرف سريره مُشعلًا لفافة تبغ أخذ منها نفسا عميقا تاركًا النيكوتين يحرق خلايا رئتاه، أمسك هاتفه وقد قرر أن يحادث ليلى لكنه وجدها هي من تتصل به ففتح الخط وهو يقول لها:
كنت سأتصل بكِ.
ردت هي عليه:
القلوب عند بعضها يا سيدي لقد رأيت بثك المباشر ولي عدة تعليقات.
ابتسم وهو يقول:
لا يعجبك العجب لا أرى أي أخطاء تقنية في البث أو طريقة التصوير وال...
قاطعته قبل أن يسترسل:
أجل تماما المشكلة ليست هنا.
بنفاذ صبر قال:
النساء والتفاصيل الصغيرة التي لا طائل منها، حسنًا أي جرم ارتكبته اليوم وأنا أدخل مكان يخشاه أشجع الرجال في بلدك، كان دائم الاعتداد بنفسه ويفخر بشجاعته التي طالما تحاكى عنها الناس.
تغاضت هي عن نبرة الفخر وحديثه المتعالي العصبي وقالت له بمنتهى الهدوء:
سخريتك أرجو أن تُقلل منها من أجل المشاهدات الخاصة بك فبتلك الطريقة سينفض المشاهدين من حولك.
ازدادت عصبيته وهو يقول:
فلتذهب المشاهدات وأرباحها إلى الدرك الأسفل من جهنم فأنا لا أفعل كل ذلك من أجل حفنة الأموال التي تأتي من تلك البثوث.
كان دائما يغضب من مقارنته بكلاب الشهرة كما يطلق عليهم هؤلاء الذين لديهم استعداد لبيع الغالي والنفيس من أجل الشهرة والمشاهدات والإعجابات وزيادة أعداد المتابعين لحساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي.
حاولت هي أن تمتص غضبه قائلة له بهدوء:
ليس هذا ما أقصده يا أدهم ولكن أنت شخص مؤثر ولك جمهور حقيقي يجب أن تظل صورتك الجيدة راسخة أمامهم لا تشوبها شائبة و...
قاطعها هو:
أنا أفعل ما أفعله من أجل إثبات أن كلامي صحيح.. لأهدم خرافة عاش المجتمع في ظلالها لقرون طويلة أنا أفعل ما أفعله لأن لدي قضية لا أريد جمهورًا ولا مشاهدات أنا أريد أن يستيقظ الناس.
الناس الذين لا يريدون التفكير.. لا يريدون التفكير ولو لحظة في أن تلك المستشفى المهجورة ربما تكون وكرا لتنظيم عصابي متخصص بالسرقة أو المخدرات أو مخزن ممنوعات أو أي شيء آخر يقوم به البشر وفقط كل ما فكروا فيه أن المكان مسكون بالأشباح لأن هذا هو التفكير الأسهل.
ردت ليلى:
الإنسان عدو ما يجهل.
رد أدهم:
وها أنا أقوم بقتل جهلهم وإنارة ظلامهم لذلك لا أريد التحدث في تلك النقطة مرة أخرى.
قالت ليلى بنفاد صبر:
لك ذلك والآن لنعد للعمل.
زفر أدهم مُخرجًا آخر أنفاس سيجارته مُدركًا أن عصبيته قد زادت تلك المرة بلا مُبرر على ليلى فقال بهدوء:
لك ذلك تفضلي.
قالت ليلى:
غدًا موعد مناظرتك التلفزيونية مع الشيخ محمود والمعالج الروحاني الشيخ حاتم.
ابتسم بسخرية لا إرادياً عندما سمع كلمة معالج روحاني وترجم سخريته إلى كلمات عندما قال:
من المفترض أن يُنشأ قسم بكلية الطب لعلاج الأرواح حتى ينتسب له هؤلاء المعالجين.
ابتسمت ليلى وهي تقول:
حذار أن تقول هذا غداً في المقابلة لن نجد قناة تستضيفك بعد ذلك!
ضحك أدهم وهو يقول:
بالطبع لن أقول هذا على الهواء مباشرة ولكني سأقوله على البث المباشر الخاص بي.
قالت ليلى:
أنت حر ولكن احذر من أن يقوم أحدهم بملاحقتك قضائياً بسبب تفوهك بالحماقات!
* * *
" كما أقول دائما يا أصدقائي لا عفريت إلا البني آدم".
أنهى أدهم تسجيل الفيديو ثم قام بتنزيله عبر حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة ثم نظر حوله متأملاً ديكورات أستوديو التصوير التابع للمحطة الفضائية التي تستضيفه هو وآخرون للتحدث في الغيبيات والماورائيات.
نظر أمامه عبر الطاولة المستطيلة التي تجمعهم وأول من وقع بصره عليه هو الشيخ محمود رجل في أوائل الأربعينات من عمره أصلع الرأس يرتدي عوينات طبية وبذة سوداء رسمية ابتسامته هادئة وملامحه مصرية خالصة تنضح منها الطيبة والوداعة، يقوم بتفحص بعض الأوراق أمامه في هدوء ورزانه، تحول بصره إلى المذيع الذي يستضيفهم في موقعه التي يتصدر الطاولة وهو منهمك في مراجعة الأسئلة التي سوف يتناقش فيها مع ضيوفه بينما ينهمك فريق من معدي البرنامج في تصفيف شعر المذيع المزروع مؤخرًا، بينما الرجل الأخير كان الشيخ حاتم يرتدي قميص عادي لا شيء مميز فيه سوى نظراته الحادة وتأففه من كل ما حوله.
"ثلاث دقائق وسنقوم بالبث".
ارتفع صوت مخرج البرنامج بتلك العبارة لينتهي على الفور فريق المصففين من تصفيف شعر المذيع واعتدل الجميع في مجالسهم وابتسم المذيع ابتسامة أظهرت أسنانه البيضاء الناصعة وهو يقول بلهجة مجاملة:
مرحبا بكم أيها السادة، أذكركم بأن الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية بأي حال من الأحوال.
بادله الرجال الثلاث التحية بإيماءات من رؤوسهم وبدأ التوتر يسري في أوصال الجميع في حين بدأ مخرج البرنامج في أخذ التأكيدات من الجميع بأن الأمور في أفضل أحوالها لينطلق صوته وهو يقول بحزم:
ثلاثة... اثنان... هواء.
صدح بعدها صوت المذيع عبر مكبرات الصوت المثبتة في ربطة عنقه الأنيقة:
سيداتي آنساتي سادتي مرحبا بكم في برنامجكم
(الحقيقة).
ثم بدأ في توجيه حديثه إلى ضيوفه مرحبا بهم ومعرفا إياهم.
قبل أن يتوجه برأسه إلى الشيخ محمود وهو يقول له:
شيخ محمود ما رأيك فيمن ينكر وجود الجن أو المخلوقات الغيبية وتأثيرها في حياة الإنسان؟
تنحنح الشيخ محمود ثم بسمل وصلي على الرسول الكريم (عليه الصلاة والسلام) وبدأ حديثه:
في البداية أحب أن أوضح أن القرآن الكريم لم يترك لنا مجال للتفكير في هذا الأمر فهناك سورة كاملة في القرآن الكريم اسمها سورة الجن، أما تأثيرهم علينا فهو أمر لا جدال فيه إذن فعندما يقوم الساحر بسحره إلا يقوم باستغلال تلك الكيانات الغيبية فيما يقوم به من شرك والعياذ بالله.
أومأ الشيخ حاتم برأسه موافقا لحديث الشيخ محمود بينما ظلت ملامح أدهم جامدة لا تشف عما يعتمل بداخله.
نظر المذيع إلى الشيخ حاتم وهو يقول له:
شيخ حاتم لقد ذكرت في كتابك الأخير أنه أثناء إحدى المرات التي كنت تقوم فيها بطقس لإخراج جان من جسد إحدى السيدات بأن هذا الجني قد تحدث معك بصوت خشن وبلغات غير العربية
بسمل الشيخ حاتم وبدأ حديثه قائلاً:
نعم.. في أثناء الطقس بدأت السيدة المسكينة بالتلوي كأنها تعاني من كل آلام الأرض ثم بدأ اللعين بالتحدث معي بلغة غريبة لكنها كانت شرقية فارسية ربما أو تركية.
لم يحاول أدهم منع ابتسامة السخرية من التسلل إلى وجهة لكنه تركها بحرية ولم يلتفت الشيخ حاتم إلى تلك الابتسامة وهو يقول:
تلك الحالة واجهتها من قبل لكن كان الأمر يقتصر على تغير نبرة صوت المتحدث من رجل إلى سيدة والعكس لكن تلك المرة الوحيدة التي تغيرت فيها لغة الحالة التي أمامي إلى لغة أخرى غير العربية ولكنها كانت بنفس نبرة صوت السيدة.
تدخل أدهم في الحديث بسرعة قائلًا:
الزينوغلوسيا.
نظر الرجال الثلاثة إلى أدهم بسرعة وترته في حين استاء الشيخ حاتم من المقاطعة التي وجدها خالية من قواعد الذوق واللياقة بينما وجه المذيع سؤاله إلى أدهم قائلاً باستفسار:
الزينو ماذا؟
رد أدهم في سرعة:
الزينوغلوسيا أي اللسان المتبدل.
سأله المذيع عن توضيح ما يقصده فاعتدل أدهم في جلسته وهو يقول:
إنها حالة مثبتة تاريخيا في عدة مصادر تفيد بأن الشخص المصاب بتلك الحالة يدخل في حالة من حالات اللاوعي ويقوم بالتحدث أو حتى الكتابة بلغة لا تمت بصلة إلى لسان لغته الأم أي أن يقوم رجل ألمانيا بالاستيقاظ والتحدث باللغة العربية رغم أنه لا يدري أي شيء عن العرب سوى أنهم يعيشون في الخيام ويستخدمون الجمال كوسيلة تنقل عبر صحرائهم.
تدخل الشيخ حاتم في الحديث وهو يقول:
وتلك الحالة المسماة باللسان المتبدل ما هو سبب حدوثها يا ترى؟!
ألقى سؤاله بخبث جعل أدهم يسقط في يديه وشعر أن خيوط الحديث تنسل من بين أصابعه فقال:
لا تفسير علمي لها.
رد الشيخ محمود:
ألا يمكن أن يكون هذا تلبس من جن مثلاً؟
قال أدهم وهو يشير بسبابته:
الجن ليس تفسيراً علمياً.
رد الشيخ محمود:
قال الله جل في علاه (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) الآية [البقرة: 275]
صدق الله العظيم
وأيضًا قول خير الأنام ﷺ: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)
وهذا حديث متفق على صحته.
صدق رسول الله
بعصبية بدأت تغزو صوت أدهم بوضوح قال:
المس هنا هو الجنون وليس مس الشيطان ثم إن الآية الكريمة تذكر الشيطان وليس الجان.
رد حاتم:
الجان نوعًا من الشياطين سيدي الكريم كلهم من نفس الفصيلة مثل القطط والنمور فهم من نفس الفصيلة رغم البون الشاسع بينهما.
قال أدهم وهو يحاول أن يتمالك أعصابه قدر المستطاع:
لكن هذا علميا مستحيل أنا بالطبع أؤمن بوجود الجان والشياطين لكن لا أؤمن أنهم يستطيعون إيذاؤنا تحت أي مسمى فحديث رسولنا الكريم لم يتطرق من قريب أو من بعيد إلى إيذاء الشيطان لنا إيذاء الشيطان لنا معنوياً عن طريق الغواية والوسوسة وما إلى ذلك لكن ليس بالتلبس والاستحواذ وجعل الإنسان يتكلم بلسان غير لسانه إن احتكمتم للعقل يا جماعة لن تقولوا مثل هذا الكلام.
رد الشيخ محمود بهدوء شديد:
هناك بعض الناس من يخلطون بين الأمراض النفسية والعصبية كالصرع وخلافه وبين الأمراض الروحية لكن العقل الذي سنحتكم له سيقول إن هناك أشياء لا يوجد لها تفسير علمي.
وافقه حاتم وهو يستطرد:
دعك من حالة السيدة التي ذكرتها في كتابي أنت تقول إن التكلم بلسان مختلف سابقة تاريخية مثبتة هل نجح العلم الحالي وعقل الإنسان في تفسير تلك الحالة.
أومأ أدهم برأسه نفيا وهو يقول:
لا
عاد الشيخ محمود يقول:
هل لو قلت لك إن تلك الحالة تعود إلى أن الشخص المصاب بها قد عاشت روحه في حياة سابقة وتلك كانت اللغة الأصلية الخاصة بذلك المصاب في الحياة السابقة له هل ستقتنع.
برفض أكثر قال أدهم:
هذه خرافة لا مجال لتصديقها أيضا.
هز الشيخ محمود رأسه بينما علت وجه الشيخ حاتم ابتسامة خفيفة ليقول أدهم:
لقد خلق الله لنا العقل كي نفكر ونبحث وإلى أن نكتشف أن لا وجود لما يسمي بإيذاء الجان للبشر تظل كل الحالات إلى تقابلونها هي مجرد حالات مرضية لا أكثر ولا أقل يا سادة.
بدا أن كل طرف متمسك بوجهة نظره ولا مجال لتغييرها فتدخل المذيع أخيراً في الحديث قائلا:
لم نتفق في النهاية لكننا لم نخسر فرصة التحاور فيما بيننا، مازال الاستفتاء متاح على صفحتنا عبر موقع الفيسبوك: هل تؤمن بوجود ما يطلق عليه مس شيطاني أم لا.
والنتيجة حتى الآن متساوية تماما.
ثم افتعل ضحكة مكتومة وهو يقول:
مثلما هو الحال هنا أيضا في الأستوديو النتيجة هي التعادل.
وإلي أن ينجح العلم في الفصل بيننا سيكون لنا لقاء آخر أعزائي المشاهدين دمتم في أمان الله ورعايته.
* * *
جلس أدهم في سيارته وهو ينفث دخان سيجارته شاخص ببصره في اللاشيء وبجواره جلست ليلى صامتة بدورها مُحترمة صمته ولم تحاول كسر هذا الحاجز حتى قرر هو كسره وهو يقول بهدوء أخافها بعض الشيء:
أحيانا أشعر أنني مخطئ
نظرت له مليًا متفحصة ملامح وجهة ثم قالت:
مخطئ في ماذا؟!
ألقى هو عقب سيجارته من النافذة وهو يرد بسرعة:
في وجهة نظري بأكملها.
ناظراً إليها بتمعن محاولًا سبر أغوارها واستطرد:
هل يمكن لكيان ما ليس له وجود مادي في عالمنا أو لا يمكن قياسه بمواصفاتنا أن يتحكم في...
قبل أن ترد هي قال:
وإذا سلمنا بإمكانية حدوث هذا ما هو السبب ما الذي يدفع كيان ما جان أو شيطان أو أيًا كان ما، ما الذي يدفعه للاستيلاء على جسد بشري ما المكسب من وراء هذا... ما الفائدة؟
أدركت أنه يفكر بصوت عالٍ فقط ولا يود التحدث أو المناقشة فاكتفت بدور المستمع الصامت في حين عاد أدهم يقول:
لا هي علاقة تكافلية أو تطفلية أو حتى لها تفسير منطقي مقنع.
لقد نجح العلم حتى الآن في تفسير سبب أغلب الأمراض العصبية والنفسية وأوجد لها علاجات صحيح إن بعضها طويل الأمد ويحتاج إلى جهد كبير جدا من المُعَالِج والمُعَالَج لكنه ينجح.
ساد الصمت بعد عبارته الأخيرة وقالت ليلى:
أنت تتحدث عن ظواهر ذُكرت في كل الأديان السماوية وأغلب الحضارات القديمة ذكرتها.
رد أدهم:
لماذا؟ أنا أريد سببًا واحدًا منطقيًا.
قالت ليلى:
ليس كل ما يدور حولنا تستطيع إيجاد تفسير منطقي له يا أدهم هذه هي طبيعة الحياة سنعيش ونموت دون أن ندرك لماذا، مثل الذين من قبلنا الذين ماتوا دون أن يعرفوا أشياء كثيرة لكن نحن عرفناها من بعدهم، هذه هي سنة الكون
لم يبد على وجه أدهم الاقتناع لكن اليأس والإحباط وعدم الفهم الممتزج بالغضب هم المسيطرون على ملامح وجهه، نظر لليلى نظرة أخيرة وهز رأسه ثم أدار محرك سيارته وتحرك بها وقد بدأ سيل ذكريات يتدفق إلى خلايا مخه.
* * *