كان يوماً مرهقاً بحق .. يوماً يستحق بعد كل هذا اللهاث أن يستلقي على أريكته المفضلةِ في استسلامٍ وشرود، وصوتُ التلفاز يبعث حالةً من الأُنس تتيح لبعض الذكريات أن تُحلّق كفراشاتٍ عابثة حول رأسه الموجوع! .. وأخذ يسبحُ هائماً في بحيرةِ ذكرياته الخالية، بكل ما فيها من ماءٍ آسنٍ وجداولٍ رقراقة وشلالاتٍ هادرة .. فابتسم في أسف وهو يستعيد تلك الذكرى التي مازالت تؤرق منامه! حين لاحظت عيناه عدسةَ ذلك القلم المشاغب الذي طالما سمع عنه! رآه من خلف النافذة يتلصص بعدسته ليلتقط من خواطره وذكرياته ما تهيأ له! .. فاعتدل في جلسته، وهتف:
- من أنت؟ .. أقصد، ما هذا؟!
فاقترب رأس القلم من فُرجة النافذة، ليهمس بصوتٍ دافئ:
- من أنا؟! .. عجيب! حسبت أنك ستعرفني فور أن تلمحني خلف نافذتك .. أنا القلم، أنا المفتونُ بالتقاط عبيرِ الذكريات وتصويرِ مشاعر البشر! .. يمكنك أن تعتبرني ككاميراتِ الزمن أو عدساتِ القدر، أو كأظافرِ التاريخ وهي تخمشُ ظهر الأثر، أو كتجاعيدِ الوجوه ونقوشِ الحجر!
- لم أفهم ..!
فأدخل القلم رأسه أكثر، حتى لامس ستائر النافذة وهو يقول في حذر:
- أنا القلم، أنا الثرثار الذي لا يكفّ عن الحكْي .. عمّ أحكي؟! عنهم، عن مشاعرهِم، عن أعمقِ تجاربهِم، عن أثرى خبراتهم، عن أحداثٍ جالت بخواطرهِم وهم أمام موج البحر، أو على ذلك المقهى، أو تحت اللحافِ الدافئ بفراشهم! .. عن ذكرياتٍ عابرةٍ مرّت كفراشاتٍ لم يلحظها أحد .. إلا أن عدساتي لاحظت، فالتقطت وسجّلت، تماماً كما تلتقط أنفُك رائحةَ البخور .. الفارق بيننا أنك لا تبالي بما احترق بالمبخرة حتى تصلَك تلك العطور .. أما أنا، فأستتبع خيط الدخان، وأسافر وأدور، أُبحِر وسط المشاعر في الصدور، حتى أنسجَ من تلك اللقطاتِ حكاياتٍ، تحملها ألسنةُ الناس وأجنحةُ الطيور!
فاعتدل الرجل في جلسته، ثم قال في تهكّم:
- أنت إذن ذلك اللصّ الذي طالما حذرونا منه!
فاقترب القلمُ أكثر، وأجاب بصوته الهامس:
- أنا الطائرُ الحكّاءُ الشغوف .. أنا الفيلسوف! .. أنا إلهامُ الرواة وخزائنُ الحكايات، أنا النقوش على جدران المعابدِ والكهوف ..!
قالها ثم انتفض حين لاحظ تحفّز الرجل وهو يجلس على طرْف أريكته صائحاً:
- أياً كان ما تقول، كيف تسمح لنفسِك أن تقتحم مخيّلتي هكذا وتلتقط ما بدا لك؟! فلتغادرْ على الفور!
فتحرّك القلم على استحياءٍ إلى حيث الشرفة، لكنه توقّف حيث هو، فصاح به من جديد:
- انصرف، وإلا كشفتُ عن خواطرٍ في صدري ذات لهب، ستصهرُ سِنّك وتكسرُ عدستك!
فاختبأ القلمُ خلف ستارٍ يشِفّ ما خلفه .. فعاد الرجل إلى استرخائه على الأريكة، ثم همس:
- ما لك وخبايا نفسي وأحلام عمري! ما شأنك وذكريات أمسي وشِعاب صدري! لمَ تمضي بين النفوسِ هائماً، تصيد خواطرَ خرجت من بين ركامِ الذكريات قليلاً لتنتعش؟!
فأخرج القلمُ سنّه من خلف الستار في حذر، وانتظر قليلاً قبل أن يَخرجَ بكامله .. فتابع هو:
- ليكن في معلومِك أيها الحكّاءُ الثرثارُ أن من الخواطر والذكريات ما يصلح للحكْي، بينما منها ما يُعدّ كسائلِ الحياة، سلامُه أن يبقى هائماً داخل أوردته، فإن تَقررَ له الخروج، فلن يخرج إلا بجُرح، وكلُّ الجراح يعقبُها ألم..!
فظل القلمُ ثابتاً حيث هو في حذر، وانتظر قليلاً، حتى اطمأن لاسترخاءِ صاحبِه على الأريكة وقد عادت إليه بعضُ هبّاتِ الشرود .. فتحرّك القلم في خفّة، وأخذ يكتب وكأنه يتراقصُ على صفحاتِ الهواء .. وأخذ صاحبُه يقرأ ما يرتسم أمامه في جوّ الغرفة في شيءٍ من الفضول .. ولا يدري، هل كان مجردَ فضول حقاً، أم أنه شعر برغبةٍ في أن يستمع إلى ثرثرةِ ذلك القلم الذي طالما سمِع عن حكاياته؟! وراح يتابع قراءة ما ارتسم على صفحاتِ الهواء .. وهو يبتسم:
رحلوا كالرحيق .. عمراً كان ثم انقضى
أوَ نمحـــــو كالحريـــــــق .. كلَّ ذكراهم ســـــُدى!
وأنت! .. ما نفعُ ذكــراك لو راحــــــــــــت معــــــــــــك؟
أو َبعد أن زرعتَ الحياة .. تبغي الحصـــــــــادَ أن يتبعَـــــــك!
كلا فبعضُ الحصـــــاد ِرمــــــادٌ .. متـــــــاعٌ زال أو عَرضٌ هلـــــك
وبعضُ الحصـــــادِ مدادٌ .. لقلوبٍ تودّ أن تسمعَــــك
دعني أبُحِر في ماضيــــك .. وأنبشُ القــــاع لك
لعلّي أعثرُ على سرٍ تـــاه أو كنزٍ غرق
سأحكي لك عنهم كيف كانوا
ثم دعني أحكى ..
كيف كنت!