الفصل الرابع
الحكيم الشامي
هُـو ذا الفجْرُ، فقومي ننْصَرِفْ .. عـنْ بلادٍ ما لنا فيها صديقْ
ما عسـى يرْجو نباتٌ يختلِفْ .. زهْرُهُ عـنْ كُلِّ ورْدٍ وشقيقْ
وجديدُ القلْــبِ أنَّى يأْتَلِفْ .. معْ بلادٍ كلُّ ما فيها عتيقْ
هو ذا الصبحُ يُنادي، فاسمعي .. وهلمِّي نقتفي خطْواتِـــهِ
قدْ كفانَا منْ مسَــاءٍ يدَّعي .. أنَّ نورَ الصًّبْحِ منْ آيَــاتِهِ!
***
قدْ أقمْنا العُمْرَ في وادٍ تسيرْ .. بيْنَ ضلعيْهِ خيالاتُ الهمـومْ
وشَهِدْنا اليأسَ أسراباً تطـيرْ .. فوق متنيْهِ كعِقبانٍ وبُــومْ
وشرِبنا السُّقمَ منْ ماءِ الغديرْ .. وأكلْنا السُّمَّ منْ فِجِّ الكرومْ
ولبسْنا الصَّبْرَ ثوْباً فالتهَـبْ .. فـغدوْنا نتردَّى بالرَّمَــادْ
وافترشْناهُ وِساداً فانقَلـبْ .. عنـدما نمْنا هشيماً وقَتَـادْ
***
يا بلاداً حُجِّبَـتْ منْذُ الأزَلْ .. كيفَ نرْجوكِ ومنْ أيْنَ السَّبيلْ
أيُّ قَفْرٍ دونهــا؟ أيُّ جبَلْ .. سورُها العالي؟ ومنْ منَّا الدَّليلْ؟
أسرابٌ أنتِ؟ أمْ أنْتِ الأمَلْ؟ .. في نفـوسٍ تتمنَّى المستـحيلْ؟
أمَنامٌ يتهادى في القلــوبْ .. فإذا ما اسْتيْقَظَتْ ولَّى المنـامْ؟
أمْ غيومٌ طُفْنَ في شمْسِ الغروبْ .. قبلَ أنْ يغْرقْنَ في بحْرِ الظلامْ؟
***
يا بِلادَ الفِكْرِ يا مهْدَ الأُلى .. عَبَدوا الحقَّ، وصلُّوا للجمَالْ
ما طلبْناكِ بركْبٍ أوْ على .. متْنِ سُفْنٍ، أوْ بخيْلٍ ورِجالْ
لسْتِ في الشرقِ ولا الغرْبِ ولا .. في جنوبِ الأرْضِ أوْ نحْوَ الشِّمالْ
لسْتِ في الجَوِّ ولا تحْتَ البِحارْ .. لسْتِ في السَّهْلِ ولا الوعْرِ الحَرِجْ
أنتِ في الأرواحِ أنْوارٌ ونارْ .. أنتِ في صدْري فؤادٌ يخْتلِجْ
جبران خليل جبران
أين هذا المحبوب؟ أين أرضه.. أين سماه؟ أين بحره.. أين هواه؟ متى يظهر و متى يغيب؟ هل يسمع أو يجيب؟ ماذا ينتظر.. ماذا يريد؟ أقريب هو أم بعيد؟ بالأمس بحثت عن الحب و اليوم أبحث عن الحبيب، و أنا لا أدري أيهما أشق: البحث عن المعلومات أم البحث عن المحسوسات؟ مالي أحس أنني روح غريب في الحياة! سمعت عن الحب كثيرا و تحدثت عنه مع الحكماء طويلا، و الآن أريد أن ألقاه حقيقا، و انظر حالي حين يقال لي: و لقد كنتم تمنون الحب من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه و أنتم تنظرون.
بمثل تلك الأفكار و الخواطر و الآمال وصل صديقنا إلى حكيم الشام، و عندما وقف على عتبته ألقى بما في جعبته، و حكى له قصته، و بدا له و كأن رحلته أوشكت على الانتهاء و أنه يطارد الأمل الأخير لعله ينجو من المصير، ذاك المصير الذي تنبأ به شاعر همام من شعراء الشام في قصيدته المشهورة قارئة الفنجان.
و سترجع يوما يا ولدي مهزوما مكسور الوجدان
و ستعرف بعد رحيل العمر بأنك كنت تطارد خيط دخان
“الشامي”: يقولون لا يوجد دخان بلا نار، فدعك من مطاردة الدخان و انطلق إلى النيران تستضيء و تستدفئ.
“راغب”: من أجل هذا أتيت.
“الشامي”: يعني اكتفيت ممن قبلي بتناول الأعراض و الأوصاف، و الأشكال و الألوان، و البدايات و النهايات، و تريد مني أنا دون غيري أن أناولك الحقيقة و الجوهر و الذات؟ فلما يا صديقي ادخرت لي أصعب المهام و أبعد الآمال؟
“راغب”: معذرة يا سيدي، ما قصدت هذا و لكن هكذا ساقتني إليك الأقدار، فكثرة السماع و الكلام و الأفكار لا تسد الرمق و لكن تزيد الشوق، و أنا جوعان ظمآن أخشى أن أموت و ما ذقت طعم الحياة.
“الشامي”: و ما المطلوب؟
“راغب”: أن أجد المحبوب؟
“الشامي”: و هل أخبروك أنني أعمل بالنهار "حكيما" و بالليل "خاطبة" !
“راغب”: أرجوك ساعدني و لا تسخر مني.
“الشامي”: حسنا.. أخبرني بالتحديد بما تريد.. كي اساعدك.
“راغب”: لست أدري ما أريد.
“الشامي”: إذا دعني أخبرك بما تريد... أنت تريد الانتقال من المعرفة النظرية إلى الخبرة العملية، تريد تحويل المعارف العقلية إلى مشاعر قلبية، و تدرك من خلال حديثك مع من قبلي أن هذا الأمر ليس إليك، لا يقع في حدود سلطانك و لا يندرج في قائمة قدراتك، و هذا ما يؤرقك و ينغص عليك حياتك.
“راغب”: هو ذاك، فأين الفكاك؟
“الشامي”: ربما فعلا أنت لا تملك التذوق و لكن يمكنك التعرض، القصائد التي ينظمها الشعراء هي نتاج التجارب الشعورية التي يمرون بها، و كلما كانت التجربة الشعورية أكثر خطورة و عمقا و اتساعا كلما كانت القصيدة أشد عذوبة و صدقا و صفاء، التجربة تبلور الأفكار و تفجر المشاعر، أنت بحاجة إلى الخوض في اليم فإما أن تصل إلى شاطئ النجاء و إما أن ترسل رسالة أخرى من تحت الماء.
(إني أغرق... أغرق... أغرق)
“راغب”: التجربة تعني الاختبار، و الاختبار يعني الامتحان، و الامتحان يعني الفتنة و الابتلاء.
“الشامي”: و ما الجديد في هذا، و ما خلق الله الموت و الحياة إلا لذاك، فاقدم أو احجم فلا فرق عند التحقيق بين ذا و ذاك.
“راغب”: لا بد مما ليس منه بد، فأين الطريق؟
“الشامي”: لا بد من تحديد الوجهة قبل سلوك الطريق، فما وجهتك يا صديق؟
“راغب”: قد أخبرتك، المحبوب وجهتي و قبلتي.
“الشامي”: المحبوبون كثيرون فعمن تبحث؟ عن الشيخ أم الصديق؟ أم لعلك تطلب ليلى؟
“راغب”: الشيخ و الصديق اجتماع ثم افتراق، و قد خبرت في حياتي كليهما، أما ليلى التي أحلم بها و لا استطيع مقاومة سحر اسمها، فاجتماع لا فراق بعده.
“الشامي”: كل يغني على ليلاه، فهل ليلاك واقعية أم رمزية؟
“راغب”: أريد ليلى الأرضية قبل السماوية، ليلى البشرية قبل العلوية.
“الشامي”: أهذا منتهى أملك؟ امرأة من بنات حواء؟
“راغب”: لا بد من الإسراء قبل العروج، و رحم الله امرؤ عرف قدر نفسه، فلا تطالبني بالصعود رأسيا و أنا لم اتقن السير أفقيا بعد.
"الشامي" مترنما:
ولو فهموا دقائق حب ليلى كفاهم في صبابته اختبارا
اذا يبدوا امرؤ من حي ليلى يذل له وينكسر انكسارا
ولولاها لما اضحــــى ذليلا يقبل ذا الجدار وذا الجدار
إلى أن صار غيبًا في هَواها.. يشير لغيرها ولها أشارَ
صمت "الشامي" برهة بعدما انتهى من الأبيات، ثم تطلع إلى عيني رفيقه محاولا قراءة ما خلفهما و قال: إذاً أنت تريد أن تحب و السلام، تريد أن تختبر العشق و الشغف و الوله، تريد أن تمسك يداك بما تراه عيناك يطير في سماك.
أطرق "راغب" رأسه و قال بصوت خفيض: نعم.
“الشامي”: لا أراك انتفعت كثيرا بمحادثاتك مع من قبلي، هل تظن أن العشق قرار تتخذه؟
“راغب”: أليست الأرواح جنود مجندة؟ فما علي لو بحثت عن توأم روحي؟ عساي أجد عندها مناي.
“الشامي”: و ماذا عن أهلك و أولادك؟ أتراهم يرضون بمسعاك؟
“راغب”: فليرضى عني الناس أو فليسخطوا، أنا لم أعد أسعى لغير لقاها.
“الشامي”: و لما هذا العنت؟ ألا يجدر بك أن تحب الموجود بدلا من اللهث وراء المفقود؟
“راغب”: قد أقنع بالقناعة في الاحتياجات المادية لكني لا أقنع بها في المتطلبات الروحية.
“الشامي”: و هل البحث عن ليلى المزعومة مطلب روحي؟
“راغب”: بالنسبة لي نعم.
“الشامي”: ابحث عنها فيها، ابحث عن ليلاك المفقودة في ليلاك الموجودة، ابحث عن لبناك الخيالية في لبناك الحقيقية، فالحقيقة أجمل من الخيال، و إن لم تجد الحب داخلك و فيمن حولك فلن تجده في ليلى و لن تحصله عند لبنى.
“راغب”: بل الخيال أجمل من الحقيقية، و لولا الخيال ما شد الرحالة الرحال، و لا أبدع الشعراء و الأدباء، و لا أثمرت جهود العلماء.
“الشامي”: إنما الوجود بالتوجه، فحيثما توجهت وجدت، و دور الخيال عند من ذكرتهم كان التوجيه نحو الحقيقة و الإشارة إليها، و لو لم تكن البقاع و الأصقاع التي شدت إليها الرحال حقيقة ماثلة و وجود واقع لتفرقت السبل بالرحالة و لانقطعت بهم الأسباب و لزهقت نفوسهم و هم تائهون.
“راغب”: ما أبدع المبدعون ما أبدعوا إلا بالخيال، و لو استحال الخيال حقيقة لفقد شيئا من الجمال، و قديما قالوا: (اعذب الشعر أكذبه).
“الشامي”: الجنة حق و ما فيها من الجمال لا يخطر على خيال إنسان، و النبي صلى الله عليه و سلم حق و جماله فاق كل جمال، و الله سبحانه و تعالى حق و لذة النظر إلى وجهه الكريم تذهل أهل عليين عن جميع ألوان النعيم، فصف لي خيالا يفوق تلك الحقائق جلالا و جمالا.
“راغب”: نعم هي حقائق في معتقداتنا لكنها خيال تحن إليه أرواحنا و تشتاق إليه قلوبنا و تتسامى إليه ذواتنا، و حينما نلاقيها في الآخرة ستختلف القوانين و الموازين و عندها ستصبح الحقيقة بالفعل أجمل من الخيال، أما في الحياة الدينا و أهلها فيحضرني ما روته السيرة عن لقاء النبي صلى الله عليه و سلم بجرير حين قال: {يا جرير! ما حُدث لي عن أحد إلاَّ وجدته أقلَّ مما ذكر لي، إلا أنت فكنت أعظم مما ذكر لي}، فكان جريرا رضي الله عنه استثناء يؤكد القاعدة.
“الشامي”: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ }، أما عن قصة جرير رضي الله عنه فلم تكن المسألة فيها مقارنة الواقع بالخيال، و إنما مقارنة تقديرات البشر بتقديرات سيد البشر صلى الله عليه و سلم، فهم قد بالغوا في من دون جرير رضي الله عنه و لم يوفوا جريرا حقه، بينما النبي صلى الله عيه و سلم يعطي كل ذي حق حقه.
“راغب”: فلنعد إلى قصتي يا سيدي، هل ستساعدني في البحث عن ليلاي أم ستتركني و هواي؟
“الشامي”: صحيح أنني حثثتك على التعرض للتجربة لكني كنت ارجو لك نوعا خاصا منها و بعدا مغايرا فيها، فإن أبيت إلا ما ذكرت فدعنا نبدأ بالماضي، هل أحببت يوما ما؟
سكت "راغب" طويلا ثم قال: اعتصرت ذهني و استعرضت شريط ذكرياتي فما وجدت سوى بعض خيالات فترة المراهقة.
“الشامي”: الأمر أهون من ذلك يا صاح، لو كنت أحببت بالأمس و سئلت عنها اليوم لقفزت صورتها من قلبك إلى عقلك و لنطق باسمها لسانك دون عناء و لا استذكار و لا اعتصار.
“راغب”: إذا أنا ما أحببت.
“الشامي”: لا أحسب أن بشرا لم يحب، لكن ليس بالضرورة أن تلقى في الحياة صورة الحب الذي تتمناه، إنما حتما ستلقاه بصورة ما.
“راغب”: إن كنت تقصد حب المعاني و الأصدقاء، أو الأماكن و الأشياء، أو من نقرأ سيرتهم من الأموات و الأحياء فاتفق معك أنها صور موجودة مكرورة، لكن يبقى فراغ في القلب لم يشغله أي منها، فراغ لا تشغله سوى ليلى.
“الشامي”: إذاً لا مفر.
“راغب”: لا مفر مما؟
“الشامي”: من السفر إلي ليلى.
“راغب”: دلني على السبيل.
“الشامي”: لم يبق في جعبتي سوى "قرية الرياحين"، قلما دخلها أحد و عاد دون حبيب.
“راغب”: ما سمعت بها من قبل.
“الشامي”: و لن تسمع من بعد.
“راغب”: صفها لي.
“الشامي”: قرية صغيرة، لن تجدها على الخريطة، غريبة عجيبة، بعيدة قريبة، مهجورة مألوفة، طبيعتها ساحرة خلابة، و أهلها لهم من طبيعتها نصيب.
“راغب”: و هل ستدلني عليها أم ستصحبني إليها؟
“الشامي”: إن شئت أرشدتك و إن شئت رافقتك.
“راغب”: بل اختار المرافقة.
“الشامي”: المرافقة تلزمها المشارطة.
“راغب”: اشترط لنفسك ما تشاء يا سيدي.
“الشامي”: يا ولدي إنما اشترط لك لا لنفسي.
“راغب”: و ما هو الشرط يا سيدي؟
“الشامي”: لا تطلب المفارقة حتى تنتهي المرافقة.
“راغب”: صدقت يا سيدي هذا الشرط لي لا لك، و أنا أحوج إليه منك.
“الشامي”: إذاً نلتقي غداً إن شاء الله عند الشيخ "محي الدين بن عربي"، ثم نتوجه إلى "قرية الرياحين".
* * *
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
لقد صارَ قلـبي قابلاً كلَ صُـورةٍ
فـمرعىً لغـــــزلانٍ ودَيرٌ لرُهبـَــــانِ
وبيتٌ لأوثــانٍ وكعـــبةُ طـائـــفٍ
وألـواحُ تـوراةٍ ومصـحفُ قــــــرآن
أديـنُ بدينِ الحــــبِ أنّى توجّـهـتْ
ركـائـبهُ، فالحبُّ ديـني وإيـمَاني
بعد الزيارة ثم الجلوس في احدى الزوايا، و فترة من الصمت و التأمل، قال “راغب”: لعلك اخترت هذا المكان يا سيدي ليكون نقطة البداية في رحلتنا، لأن صاحبه يدين بدين الحب.
“الشامي”: أجل. تفاءلوا بالخير تجدوه، لعل الله يجعل لك من الحب نصيبا.
“راغب”: و هل يتسع الحب لعبدة الأوثان؟
“الشامي”: إن أحببت الخير في الناس و للناس فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام، و لقد كانت دعوة النبي صلى الله عليه و سلم – (اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك) – من نصيب الفاروق رضي الله عنه لأنه كان أحبهما إلى الله قبل أن يسلم، كثيرون تشغلهم الخاتمة و يغفلون عن السابقة (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون).
"راغب" مغيراً دفة الحديث: متى ننطلق؟
“الشامي”: الحين نروح للرياحين.
* * *
لم تكن الرحلة إلى قرية الرياحين بالطويلة و لا القصيرة، و لم تكن بالعسيرة و لا اليسيرة، و لم تكن ركوبا و لا سيرا على الأقدام و إنما مزيج من كل ما سبق، و لكن ما أن وطأت أقدام الرفيقين ثراها حتى أدرك "راغب" أنهما أدركا الغاية، و أنهما وصلا إلى المكان المنشود، فقد كانت رائحة الريحان فياحة، و الطبيعة كما أخبره الشامي خلابة، لم تكن في القرية حانات و لا حوانيت، و كانت البيوت بسيطة لكنها أنيقة جميلة و كلها لها حدائق صغيرة مزروعة بالريحان، و تنبعث منها تغاريد الأطيار.
“الشامي”: مضت أعوام طوال منذ آخر زيارة لي لهذه القرية، لا يوجد هنا أسواق للبيع و الشراء، أهل القرية يزرعون ما يحتاجون في حدائق منازلهم، و يشترون حاجاتهم الأخرى من خارج القرية، و لا يوجد سوى سبيل للخبز و سبيل أو أكثر للمياه يتشارك الميسورون من أهل القرية في تمويلها حتى يجد كل أهل القرية و زوارها حاجتهم من الخبز و الماء بلا عناء.
“راغب”: يا لها من قرية.. ما ظننت أن يوجد في الدنيا مثلها.
“الشامي”: لو حدثتك عن "الوقف" في تاريخ أمتنا لوجدت أعجب من ذلك.
“راغب”: و أين ذلك المخبز و ذاك السبيل؟ أحسب أننا في حاجة لكليهما.
“الشامي”: هذا ما لست أذكره لبعد الزمان كما أخبرتك.
“راغب”: إذا فلنسأل بعض أهلها لعلهم يدلوننا.
* * *
عطشان يا صبايا
وانا عاشق.. ع السبيل
عطشان والميه ف بلدي
على عكس ما يجري النيل
وانا كنت امبارح خالي
واليوم دا صبحت عليل
عطشان ودوايا حبيبي
يسقيني العشق دليل
ودليل الحب عمايل
وكلام الحب جميل
وانا كل ما أقول التوبة
تغويني المواويل
تطرح في القلب جناين
تفقس فيها الزغاليل
عشاق يا حمام الغيه
ولا فيش قدامنا بديل
سكه ومحسوبة علينا
نطويها جيل ورا جيل
ع الشوك نفرد خطاوينا
في الليل تضوي القناديل
حوالينا قلوب حبابه
ومعانا العقل دليل
والشمس تصب صبابه
والمنبع نهر النيل
وان لاموا علينا يلوموا
ما لهمش علينا سبيل
ما هو شوك العشق ملامه
والشوك في الورد أصيل
ودوني ع السبيل
ودوني ع السبيل
استمر الرفيقان في السير فترة دون أن يجدا من يسألاه، فشوارع القرية كانت خالية، ربما لعدم وجود الأسواق، و ربما لأن هذا وقت العصر، و ربما لكليهما، و أخيرا لمحا فتاة تجلس في حديقة أحد المنازل على مرمى البصر فتوجها ناحيتها، و عندما وصلا إليها ألقى الحكيم التحية عليها ثم سألها:
لو تكرمت يا بنيتي.. أين سبيل الخبز و الماء؟
التفتت "الفتاة" و وضعت الكتاب الذي كانت تطالعه على المنضدة ثم قامت و قالت: مرحبا يا عماه، أبعد أن وصلت إلى دارنا أصرفك إلى غيرها، ليس هذا من كرم الضيافة.
“الشامي”: أحسن الله إليك يا ابنتي، لا نريد أن نثقل على أهل الدار.
صبت الفتاة كوبا من الماء و ناولته "للحكيم" ثم التفت إلى الدار حيث تقف فتاة أخرى خلف أحد النوافذ يبدو أنها تغسل الصحون فأمرتها أن تحضر شيئا من الطعام، ثم التفت مرة أخرى للحكيم و رفيقه و قالت: هل أنت ظمآن أيضا أيها الشاب؟
قبل أن يفيق "راغب" من اندهاشه و اعجابه بالفتاة و يحاول الإجابة على سؤالها قال “الشامي”: ظمأ هذا الشاب للهوى أشد من ظمأه إلى الماء.
“الفتاة”: و هل يعرف معنى الهوى؟
هذه المرة انتقل "راغب" من الاندهاش إلى الاستفزاز، خاصة مع عمر الفتاة التي تصغره بكثير، و إن كان أعجبه منها أنها تراه شاباً، و عندما هم أن يجيبها منعه "الحكيم" بإشارة من يده و قال: هل لديك جواب؟
أشارت "الفتاة" إلى الكتاب الذي وضعته على المنضدة منذ قليل و قالت: سأحكي لك قصة يا عماه طالعتها في هذا الكتاب و أحسب أن فيها الجواب.
ناول "الشامي" كوب الماء الثاني الذي صبته الفتاة لرفيقه و قال: اشرب يا صديقي و انصت لعلك تنال المقصد.
ثم التفت إلى الفتاة و قال: تفضلي يا ابنتي.
“الفتاة”: يحكى أنه في يوم من الأيام كان هناك فتاة صغيرة جميلة وبعد فترة من الزمن كبرت الفتاة الصغيرة
واصبحت عروسا جميلة و بدأ العرسان يطرقون بابها، فتقدم لخطبتها ثلاثة من أحسن شباب القرية خُلقا و خَلقا واحتارت الفتاة أيهم تختار، وكان لهذه الفتاة والد حكيم فسألته النصيحة، فنصحها أن تختار بقلبها لا بعقلها، ومرت الأيام والشهور والفتاة تفكر وتفكر وتزداد حيرة، وفي يوم من أيام الصيف الحارة مرضت الفتاة مرضا شديدا، و اشتد القلق عليها في سائر أرجاء القرية، ثم ماتت الفتاة بسبب المرض فحزن والدها والعرسان الثلاثة حزنا شديدا و قرر كل منهم أمرا مختلفا حزنا عليها، فقرر الأول أن يكون في خدمة والدها يرفق به و يلبي احتياجاته بعد مرضه حزنا على وفاة ابنته، و قرر الثاني المكث بجوار قبرها، و أما الثالث فقرر أن يسيح في الأرض لأنه لن يقوى على البقاء في مكان لا تتواجد فيه الحبيبة، و أثناء احدى رحلاته صادف قرية في مكان غريب لم يسمع عنه من قبل و عرف أن فيها رجلا مشهورا بالطب و الحكمة فسعى لمقابلته و سأل عنه حتى دلوه على بيته، فرحب به الحكيم و دعاه للعشاء، و أثناء تناول الطعام كان حفيد الحكيم يبكى فأمره الحكيم بالسكوت فلم يسكت فقام الحكيم من مكانه والقى بحفيده في نار المدفئة فقفز صاحبنا من مكانه فزعا، فقال له الحكيم: يا أخي اكمل عشاءك و لا تخف. فقال: لا استطيع. فقال له الحكيم: لا تتعجب مما رأيت اصبر و سترى ما هو أعجب منه. فجلس الشاب مرعوبا وبعد العشاء قام الحكيم الى المدفئة والقى فيها مادة عجيبة فقام حفيده من المدفئة ليس به ضرر كأنما كان نائما ثم استيقظ، فتعجب الشاب مما حدث وطلب من الحكيم بعضا من هذه المادة فسأله الحكيم عن السبب؟ فقص عليه قصته و الفتاة التي أحبها، فأعطى له الحكيم ما طلب، و عاد الشاب الى بلده سعيدا وعندما اجتمع بوالد الفتاة و رفيقيه حكي لهم ما حدث فقرروا أن يلقوا بالمادة العجيبة على الفتاة وعندما تستيقظ يقصوا عليها ما حدث وماذا فعل كل من العرسان الثلاثة وتختار هي من بينهم، ففعلوا و قامت و استيقظت ليس بها بأس فقصوا عليها ما حدث في غيابها وتركوا لها الخيار لتقرر من يكون حبيبها.
"الشامي" مخاطبا “راغب”: في ظنك من أجدرهم بقلب الفتاة؟
“راغب”: من هجر الأوطان، و ترك الأهل و الديار، و واصل السير بالليل و النهار، و كان سببا في عودة الحياة إليها.
“الشامي”: فما فصل الخطاب عندك يا بنيتاه.
“الفتاة”: سأخبركما يا عماه بشان كل شاب من الشبان، فالذي ساح في البلدان تحرك بدافع من الأحزان، و الذي لزم خدمة الوالد تحرك بدافع من الوفاء و الشعور بالعرفان، أما الذي مكث بجوار قبرها فلم يكن في قلبه سوى حبها، و ما كانت الفتاة لترضى بغير الهوى بدلا، و ما كانت الصبية لترضى عن الحب عطية، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟
“راغب”: لو نظرنا إلى الإحسان لكان من اختارته أقلهم إحسانا، فالذي لزم الخدمة أحسن إلى والدها، و الذي جاء بالدواء أحسن إلي الحبيبة و أبيها، فأين إحسان ثالث الشبان؟
“الفتاة”: نعم الخادم أحسن إلى والدها و أجاب حظ نفسه من الشعور بأداء الواجب، و السائح أحسن إلى بدنها و أجاب حظ نفسه من طلب الحكمة و المعرفة، أما الثالث فقد أحسن إلى روحها، فمكث بجوار قبرها يؤنس وحشتها، و يرجو وصالها، و يلبي ندائها، و يناجي طيفها، و لم يكن لنفسه حظ سوى قربها.
“راغب”: صدقتِ يا أختاه، أنتِ أعلم بالأمر مني، و ما انتبهتُ إلى ما انتبهتِ إليه، هذا الهوى و إلا فلا.
“الشامي”: شكر الله لكِ كرم الضيافة و حسن الحديث، و نستودعكِ الله فقد آن أوان الرحيل.
ناولت "الفتاة" الطعام الذي أعدته الخادمة إلى "الحكيم" و قالت: في أمان الله يا عماه.
كاد قلب "راغب" أن ينفطر، و أخذه الذهول من طلب "الحكيم" للرحيل، لكنه تغلب على ذهوله سريعا و جذب "الحكيم" برفق إليه ليساره، فقال له بصوت خفيض: أبعد أن وجدت ما أريد يا سيدي تأخذني لبعيد؟
فهم "الحكيم" ما يرمي إليه، فقال برفق ممتزج بالحزم: لم تنته رحلتنا بعد.
“راغب”: أخشى إن أكملت أن أفقد ما وجدت.
“الشامي”: أنسيت المشارطة.
“راغب”: ما نسيت و لكن ارفق بحالي.
“الشامي”: لعلك تجد غدا ما يجعلك تراجع ما وقر في قلبك اليوم، فإن لم يتغير الحال فلن أمنعك من العودة بعد نهاية الترحال.
"راغب" على مضض: لا بأس.
"الشامي" مخاطبا الفتاة: في أمان الله يا...؟
“الفتاة”: ريحانة يا عماه.
انطلق الرفيقان، و بعد فترة من السير و الصمت، قال “راغب”: إلى أين الآن يا سيدي؟
“الشامي”: لقد أوشكت الشمس على المغيب، و لن يكون من المناسب لنا كغرباء التجول في القرية ليلا، و لا توجد فنادق داخل القرية، دعنا نتناول الطعام الذي أهدته لنا "ريحانة"، و ستلاحظ أن أهل هذه القرية يستخدمون الريحان في طعامهم و شرابهم أيضا، ثم نذهب للمبيت في أقرب فندق للقرية، و نعود غدا إن شاء الله تعالى.
* * *
في اليوم التالي قادت الأقدار الأقدام إلى جنة من جنان أرض الريحان، بطيب ريحها و روعة نباتها، و تغريد طيورها الذي امتزج بخرير مائها في لحن يعيد للأرواح ذكرياتها، و وسط الحديقة جلست فتاة بديعة زادت من جمال المشهد و حسن المنظر، و قد ارتسمت أمارات الأسى على وجهها و انسكبت نظرات الحزن من عينها، و العجيب أن ذلك قد زاد من حسنها، كان "راغب" يظن فيما مضى أن الأشجان تضعف الجمال و أيقن اليوم أنها قد تضاعفه، و أسر في نفسه: إن كان هذا جمال حزنها فكيف بجمال فرحها؟ و إن كانت هذه عبستها فكيف بابتسامتها؟ و من شدة إكباره لها و انبهاره بها لم ينتبه إلى السيدة التي تجلس بقربها تجري دموعها في صمت على خدها، و لم يلتفت إلى وجودها حتى أيقظه صوت الحكيم و هو يقول: يبدو أن هذه العجوز و بنتها في حاجة إلى المعاونة.
لم ينتظر "الشامي" تعقيب "راغب" و توجه مباشرة إليهما و قال مخاطبا المرأة: لعلنا نستطيع المساعدة يا سيدتي؟
جففت العجوز دموعها و تمالكت جأشها و رفعت نظرها إلى "الشامي" ثم قالت: لا أظن أيها الشيخ الطيب.
“الشامي”: يضع سره في أضعف خلقه.
"العجوز": فهل يمكنك يا سيدي أن تعيد لابنتي ما فقدت؟
“الشامي”: و ماذا فقدت ابنتك العزيزة؟
"العجوز": فقدت السعادة.
“الشامي”: لله في خلقه شئون، هذا ابني يبحث عن الحب و هذه ابنتك تبحث عن السعادة.
"العجوز": كل يغني على ليلاه.
“الشامي”: صدقتِ.. و لكن كيف فقدت ابنتك السعادة؟ و هل تأذنين لها في الجواب عن نفسها؟
"العجوز": ليتها تفعل لعلنا نفهم، فمنذ الحادثة لم نسمع صوتها، حتى أننا أحيانا لا ندري إن كانت تسمعنا أم فقدت سمعها.
“الشامي”: أية حادثة يا سيدتي؟
"العجوز": من عاداتنا ألا تخرج فتياتنا خارج القرية، حرصاً عليهن و شفقة بهن، لأن الحياة في المدينة قاسية، و لكن المسكينة غامرت و خرجت من القرية منذ ثلاثة أيام لأول مرة في عمرها، و منذ عادت و حالها على ما ترى.
"راغب" هامسا: رباه.. و كأنما عالجت تجربة الخروج من الجنة التي مر بها أبوينا.
“الشامي”: تجربة الخروج من الجنة مؤلمة، و تجربة دخول الجنة مهلكة.
"راغب" مندهشا: انظر ما تقول يا سيدي، أيهلك من دخل الجنة أم ينجو؟
“الشامي”: يهلك إذا دخلها و هو ظالم لنفسه.
“راغب”: تقصد صاحب سورة الكهف.. عندما يقرأ أحدنا هذه القصة جدير به أن يحمد الله أن ليس له جنة.
“الشامي”: ما من أحد إلا و له جنة مهما عظم شأنه أو صغر، بداية من أصحاب القصور الملكية و الجمهورية و حتى العاجز الذي يسأل الناس في إشارات المرور، جنته هي الكرسي المتحرك أو العكاز الذي يتسول عليه، و بين القصر و العكاز، ستمر بمنابر المساجد و قاعات المحاضرات، و برامج الإعلام و شركات الأموال، و أندية الرياضة و خشبات المسارح، و عيادات الأطباء و مكاتب الموظفين، إلى ما لا يحصى من الجنان التي يدخلها كثير من الناس و هم ظالمون.
“راغب”: يا رب سلم سلم.
"الشامي" ملتفتا إلى "العجوز": معذرة يا سيدتي لهذا الاستطراد، و لنعد إلى حوارنا، فما زلت أرى أنه في امكاني مساعدة ابنتك.
"العجوز": ها هي أمامك فافعل ما بدا لك.
"الشامي" مخاطبا الفتاة: اسمعي يا ابنتي هذه الحكاية مني و اخبريني إن فهمتِ عني، يحكى أنه في قديم الزمان، في احدى البلدان، كان هناك ملك حزين، خزائنه مليئة بالذهب، و صدره ملآن بالشجن، في قبضته كل شئون السياسة، و في قلبه كل ألوان التعاسة، فجمع الندماء و الوزراء ليجدوا له سبيل النجاة من هذا الشقاء، فجاءوا له بالأطباء و الحكماء فما تغير شيء فوق الأرض و لا تحت السماء، و استعانوا بالمنشدين و المهرجين فما كانوا من المفلحين، و استمر الحال أيام طوال حتى رأى وزيره الأول رؤية في المنام، فما أن أذن الأذان حتى أسرع إلى الملك ليقصها عليه و يزيل عنه الأحزان، فأخبره أنه رأى أنه يبحث عن حكيم الزمان ليصف له دواء الشقاء، فلما التقاه و قص عليه الخبر، قال له: إن علاج الملك أن يبحث عن أسعد إنسان في مملكته و يأخذ منه قميصه، فإذا تقمص قميص أسعد إنسان تبدل حاله من التعاسة و الشقاء إلى السعادة و الهناء، فأطلق الملك جنوده يفتشون في الجبال و الوديان، و الساحات والغابات، ليعثروا على أسعد أهل البلاد، فلما وصلوا إليه بعد تدقيق و تمحيص وجدوا أنه ليس له قميص.
“راغب”: ما أراها سمعت، و إن سمعت فما وعت.
“الشامي”: بل سمعت و وعت.
“راغب”: و ما أدراك أنها فعلت؟
“الشامي”: و ما يدريك أنها لم تفعل؟
“راغب”: قد راقبتها فما ظهر على وجهها أثر لكلمة واحدة مما ذكرت.
“الشامي”: هذا لأنك نظرت إلى ما ظهر و أنا نظرت إلى ما بطن.
“راغب”: فلمَ لم تجبك عند سؤالها، و لمَ لم تخبرك عن حالها؟
“الشامي”: الإخبار عن الحال يتطلب الخروج منه.
“راغب”: فما يمنعها؟
“الشامي”: الإنسان لا يدخل في الحال بإرادته حتى يخرج منه بمشيئته، فالمرء لا يتقمص الحال و إنما الحال يتقمص الإنسان.
“راغب”: نعم كما تقمصت السعادة الرجل في القصة فلم يعد بدنه في حاجة إلى قميص.
“الشامي”: أجل.
“راغب”: فكيف السبيل إلى الخروج من الحال.
“الشامي”: تحتاج من يعاونك في نزع القميص، كما فعل الجنيد مع النوري رحمهما الله.
“راغب”: قص لي قصتهما يا سيدي.
“الشامي”: ورد في الحكايات أن النوري في وقت ما، ظل يصرخ لمدة ثلاثة أيام وليال في بيته، واقفاً في مكان واحد. فأخبروا الجنيد، فنهض وذهب إليه وقال: يا أبا الحسن! إذا كنت تعرف أن الصراخ يفيد معه،
فأخبرني لأصرخ أنا أيضا، وإن كنت تعرف أنه لا يفيد، فارضَ بالتسليم ليسعد قلبك،
فكفَّ النوري عن الصراخ وقال: ما أحسنك معلماً لنا يا أبا القاسم.
“راغب”: و إلى متى يا سيدي ستستمر في المحاولة؟
“الشامي”: إلى أن يمن الله تعالى علينا، فأنا لن اتخلى عنها في هذه الحالة، فهل لديك الرغبة في البر و القدرة على الصبر.
“راغب”: نعم يا سيدي، فأنا أيضا أريد ما تريد.
مد "الشامي" يده إلى "راغب" قائلا: أتعاهدني على ذلك.
التقط "راغب" يد "الشامي" و قال: أجل.
"العجوز": شكر الله لكما، و الله إني لأرجو بركة إرادة الخير عندكما، و.. و قبل أن تكمل كلامها اتسعت فرحا عيناها و صاحت الله كريم.. الله كريم.
التفت الرفيقان إلى حيث نظرت العجوز فوجدا الفتاة تمسح دمعة سالت على خدها و هي تنظر إليهم و تحاول جاهدة أن تتغلب على صمتها، حتى نجحت أخيرا و قالت: كل ذلك من أجلي أنا؟ لما؟
أشرق وجه "الشامي" و هو يقول: لأن السعادة في المساعدة يا ابنتي.
“الفتاة”: و لكنك لا تعرفني يا عماه.
“الشامي”: مساعدة القريب حسنة جميلة و مساعدة الغريب أحسن و أجمل.
“الفتاة”: قد فهمت عنك يا سيدي في قصة القميص و قصة الجنيد، و علمت أن السعادة في راحة القلوب لا راحة الأبدان، و أن السعادة في التسليم، و أن السعادة في العطاء لا الأخذ، و أن السعادة في توفيق الله في نجاح المساعي.
“الشامي”: (قل بفضل الله و برحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون)
“الفتاة”: لكن يا سيدي بعد تجربتي القاسية خارج القرية الطيبة، لن استطيع بمجرد الفهم أن اجتاز النهر، احتاج من يأخذ بيدي و يسبح معي.
هم "راغب" أن يخبر "الفتاة" أن طلبها موجود لكن "الشامي" أسكته و قال للفتاة: أنا على يقين يا ابنتي أن الله تعالى سيرعاك و يرشدك و أنك ستنجحين في اجتياز الأنهار و ارتقاء الجبال، و الآن نستودعكِ الله أنتِ و الوالدة الكريمة و نوصيك بها خيرا.
"العجوز": بارك الله فيكما، و شكر الله لك أيها الشيخ الطيب.
“الفتاة”: تصحبكما السلامة يا عماه.
“الشامي”: في أمان الله يا..؟
“الفتاة”: ريحانة يا سيدي.
“الشامي”: في رعاية الله يا ريحانة.
* * *
ما أن ابتعدت خطوات الرفيقين عن نظر المرأتين حتى انفجر "راغب" قائلا: للمرة الثانية تحطم فؤادي؟ لما؟ لماذا؟
“الشامي”: و أيتهما كانت حبة الفؤاد؟ الريحانة الأولى أم الريحانة الثانية؟
“راغب”: ليتك أذنت لي البارحة و تركتني، وقتها كان القرار ميسورا، أما الآن و بعدما زادت مساحة الاختيار ازدادت صعوبة الاختبار، و كل مختار محتار.
“الشامي”: إذا انتظر يومنا الثالث و الأخير في قرية الرياحين، لعل الريحانة الثالثة تفوز بالضربة القاضية.
“راغب”: و ماذا لو زادت الطين بلة، و اصبح الاختيار بين ثلاثة لا اثنتين؟
"الشامي" باسما: في هذه الحالة لا مشكلة لديك، أنت متزوج بالفعل من واحدة، و الشرع قد أحل لك أربعا، فلما المفاضلة طالما يمكن الجمع؟
"راغب" عابسا: أتسخر مني يا سيدي.
“الشامي”: لا تنس أنك من طلبت مرافقتي و اخترتها.
“راغب”: و ها أنا ذا اتحمل نتيجة سؤالي و اختياري.
" الشامي" منشدا: أما أنا فأقول:
قد كفاني علم ربي من سؤالي واختياري = فدعائي وابتهالي شاهدٌ لي بافتقاري
فلهذا السر أدعو في يساري و عساري = أنا عبدٌ صار فخري ضمن فقري واضطراري
قد كفاني علم ربي من سؤالي واختياري
يا إلهي ومليكي أنت تعلم كيف حالي = وبما قد حل قلبي من همومٍ واشتغال
فتداركني بلطف منك يا مولى الموالي = يا كريم الوجه غثني قبل أن يفنى اصطباري
قد كفاني علم ربي من سؤالي واختياري
يا سريع الغوث غوثاً منك يدركنا سريعاً = يهزم العُسر ويأتي بالذي نرجو جميعاً
يا قريباً يا مجيباً يا عليماً يا سميعاً = قد تحققت بعجزي وخضوعي وانكساري
قد كفاني علم ربي من سؤالي واختياري
لم أزل بالباب واقف فارحمن ربي وقوفي = وبوادي الفضل عاكف فأدم ربي عكوفي
ولحسن الظن لازم فهو خِلّي وحليفي = وأنيسي وجليسي طول ليلي ونهاري
قد كفاني علم ربي من سؤالي واختياري
حاجة في النفس يا رب فاقضها يا خير قاضي = وأرح سِري وقلبي من لظاها و الشواظِ
في سرورٍ وحبورٍ وإذا ما كنت راضِ= فالهنا والبَسط حالي وشعاري ودثاري
* * *
و في اليوم الثالث و الأخير عاد الرفيقان إلى قرية الرياحين، لكن هذه المرة طال بهم فيها المسير، و لم يلقا أمرا ذا بال، و من صادفهما من أهل القرية لم يحدثهما حديثا ذا شان، حتى أدركهما التعب و لحق بهما النصب و فقد "راغب" الأمل، فانطلقا إلى الظل يستريحان، و بدأ "راغب" الكلام: لقد أوشك اليوم على الانتهاء، و يبدو أنه قد خاب الرجاء.
"الشامي" مصطنعا الدهشة: و ماذا كنت ترجو؟
“راغب”: تسألني يا سيدي و كأنك لم تكن معي بالأمس!
“الشامي”: أو كل ما كان بالأمس يجب أن يكون اليوم؟
“راغب”: هذا ما كنت أتوقع.
“الشامي”: و هذا ما أوردك الموارد، أحسن لك ألا تتوقع شيئا.
“راغب”: ليس هذا بالشيء الهين.
“الشامي”: تطلب الهوى و تتوقع الشيء الهين! ما أعجب هذا الحال!
“راغب”: و بعد؟ ماذا سنفعل؟
“الشامي”: و بعد؟ و بعد؟ لا تنتهي تطلعات الإنسان إبدا!
“راغب”: و ما الخطأ في هذا؟
“الشامي”: التطلع إلى الغد يشغل الجنان عن فهم حكمة اليوم، و يحرم الوجدان من تذوق سعادة الآن، و يملأ النفس بالطمع.
“راغب”: إنما أردت أن أحسم الأمر اليوم، و انظر هل سأرجع من قرية الرياحين متوجا من الحب بإكليل أم سأعود بخفي حنين.
“الشامي”: لو كانت لابن آدم ريحانة من قرية الرياحين لتمنى الثانية، و لو كانت لو ريحانتان لتمنى الثالثة، و لا يملأ عين ابن آدم إلا التراب.
حاول "راغب" أن يجيب "الشامي" فلم يجد في ذهنه ما يسعفه، فأغمض عينيه ليفتش عن الجواب في ثنايا عقله فلم يحصل ما ينجده، ففتح عينيه ليقر بعجزه، فإذا به مع ارتفاع جفنه يرى ما ينسيه السؤال و يشغله عن الجواب، رأي على مرمى البصر خطوات رشيقة تقترب في تؤدة، تبعتها قسمات مليحة قد أطرقت جبهتها ناظرة إلى مواقع أقدامها، حتى إذا دنت إلى مسافة تسمح بتبادل الحوار معهما رفعت رأسها لتضيف النظرات الرقيقة إلى الخطوات الرشيقة و القسمات المليحة و قالت: مرحبا.. رأيتكما تتجولان من ساعات في القرية ذهابا و إيابا، فهل تبحثان عن مكان أم عن إنسان؟
“راغب”: نبحث عن الريحان. (قالها في قلبه و لم ينطق بها لسانه)
“الشامي”: إنما هي السياحة في الأرض يا بُنيتي.
“الفتاة”: و هل من غرض للسياحة إلا البحث و النظر؟
“الشامي”: صدقتِ.. و لكن هبِ أننا نبحث عن مكان أو نفتش عن إنسان، فهل أنتِ عالمة بكل أرجاء القرية و أهلها؟
“الفتاة”: لا إن أردت الصراحة يا عماه.
“الشامي”: ففيما قدومكِ إلينا و سؤالكِ لنا؟
"الفتاة" بمزيج من الحزم و الحياء: أردت أن أرى هذا الشاب عن قرب.
لحظ "راغب" ببصره إلى السماء، و خُيل إليه أن مَلكا من ملائكة المحبة – إن كان للحب ملائكة كما للرحمة – يرميه بسهم من قوسه فيصيب فؤاده، فإذا بصخور قلبه تنهار و تتفجر منه الأنهار.
“الشامي”: و ما سر الاهتمام بهذا المسكين؟
“الفتاة”: حلم يراودني منذ فترة، أرى فيه شخصا يجمع بين الغربة و الغرابة و الرغبة، يساعدني على تحقيق المعادلة الصعبة، و عندما رأيتكما من بعيد، كلما انطلقتما في اتجاه عدتما إلى هذه البقعة من جديد، و أنتما عن القرية غريبان و فيها راغبان، و قع في قلبي شيء أردت أن أتأكد منه، و ما أحسب صاحب الحلم إلا صاحبك، ثم توجهت إلى "راغب" بالسؤال و قالت: ما اسمك أيها الضيف؟
“راغب”: راغب الغريب.
لمعت عينا الفتاة و هي تقول: راغب و غريب.. عجيب.
“راغب”: ماذا قصدتِ بالمعادلة الصعبة؟
“الفتاة”: الخروج من القرية ببدني و البقاء فيها بقلبي.
تذكر "راغب" تجربة الريحانة الثانية و أمارات الحزن و عصارات الأسى على وجهها، و ارتسمت في ذهنه صورة الريحانة الثالثة و قد أصابها ما أصاب أختها، ثم قال: هذا ليس صعبا بل شبه مستحيل، أو ليس لكِ مطلب غير ذلك؟
“الفتاة”: هو ذاك مطلبي، فهل ستساعدني؟
هم "راغب" بالموافقة لولا أن "الشامي" تدخل قائلا: أنت تعلم أن ذلك ليس بشبه المحال بل هو المحال نفسه، فلا تغالط نفسك، و لا تعد بما لن يُدرك.
“راغب”: الأمر يستحق المغامرة.
“الشامي”: ما تريد الاقدام عليه مقامرة و ليست مغامرة، و لن تستطيع أن تتحمل النتائج.
راجع "راغب" "الشامي" عدة مرات، و في كل مرة يحذره "الشامي" و ينهاه حتى أوشكت الشمس على المغيب، فقطعت "الفتاة" الحوار و قالت في فزع: ستغرب الشمس، معذرة يجب أن انسحب، أنتما لا تعرفان صرامة القوانين عندنا، لا ينبغي البقاء في الخلاء إذا أقبل الظلام.
"الشامي" متفهما: بل أعرفها يا ابنتي، نحن أيضا يجب أن نغادر، في رعاية الله يا ريحانة.
"الفتاة" متعجبة: كيف عرفت اسمي يا عماه.
“الشامي”: هذا اليوم الثالث لنا في قريتكم و قد عرفنا الكثير.
أومأت الفتاة برأسها، ثم التفت إلى “راغب”: إذا حسمت و عزمت تعرف أين تجدني.
و لم تنتظر جوابه، و كما جاءت بخطوات رشيقة في تؤدة ذهبت بخطوات رشيقة لكن في سرعة، و عينا "راغب" ترمقها و هي تبتعد، و ظل يتطلع إلى طيفها حتى جذبه "الشامي" قائلا: لا يمكننا البقاء أكثر من هذا، يجب أن نغادر على الفور، ثم أخذ بيد صاحبه و انطلقا.
* * *
و بعد العودة سأل "الشامي" جليسه: كيف تجدك؟
“راغب”: ليس على ما يرام.
“الشامي”: و كيف وجدت قرية الرياحين؟
“راغب”: في اليوم الأول ظننت أنني أدركت مُنيتي، و في اليوم الثاني ازدادت حيرتي، و في اليوم الثالث ضاعت فرصتي.
“الشامي”: أتظن أنك أحببت احدى الريحانات؟
“راغب”: أجل.
“الشامي”: أيتهن؟
“راغب”: لا استطيع أن اختار.
“الشامي”: ليس هذا بحب، لأنه ليس مع الحب اختيار، الحب يسبي القلوب و لا يترك لها الخيار.
“راغب”: و لكني وجدت أثر سهامه في قلبي، فإن لم يكن هذا حبا فما يكون؟
“الشامي”: وهماً.
“راغب”: أتعني أنه لا وجود لقرية الرياحين، و أننا لم نرى الريحانات و لم نتحدث إليهن، و أن رحلتنا كلها كانت مجموعة من الأوهام؟ أحكيم أنت أم ساحر؟
“الشامي”: أنما أحدثك عما وجدت في قلبك و ليس عما رأيت ببصرك.
“راغب”: و كيف وصل الوهم إلى قلبي؟
“الشامي”: عن طريق الاعجاب و الشفقة و الاهتمام.
“راغب”: ماذا تقصد؟
“الشامي”: الريحانة الأولى أنت أعجبت بها، أعجبك منها كرم ضيافتها، و سعة ثقافتها، و حسن منطقها، يعني أحببت صفاتها و ليس ذاتها، فقادك هذا إلى توهم حبها.
“راغب”: أوليس صفاتها من ذاتها؟ فلما لا يكون حبا و ليس اعجابا؟ و ما الفارق؟
“الشامي”: الفارق أنك لو صادفت ذات الصفات في غيرها لوقعت أيضا في حبها، فأي حب هذا؟ الصفات لها أهميتها بلا شك، لكن الحب تعلق بروح الشخص لا بصفته، فحتى إن لم يكرمك، بل حتى إن منعك و حرمك فلن يموت حبك.
“راغب”: يعني ضرب الحبيب مثل أكل الزبيب، و بصلة المحب خروف، و القرد في عين أمه غزال، أتعتقد فعلا في تلك الأمثال؟
“الشامي”: أجل لأنها تنفي عن الحب ما يحيط به من الشبهات، و تصل بك إلى الحب الخالص، فمع الحب لا مجال للإساءة فكل ما يفعله المحبوب محمود، و عطاء المحبوب لا يكتسب قيمته من مادته بل من مصدره، فطالما جاء من المحبوب فهو نفيس و ثمين، و ليس مع الحب إلا الجمال، فالقبح و الحب لا يجتمعان، فالحبيب في عينك دائما ملك الجمال و إن كان في نظر غيرك ليس له من الحسن نصيب، فالحب المشروط بالإحسان و العطاء و جمال الصورة حب فيه دخن، و الحب الخالص لا يقبل شرطا و لا شريكا و لا دخنا.
“راغب”: فماذا عن الريحانة الثانية؟
“الشامي”: الريحانة الثانية أنت أشفقت عليها، أشفقت من سمات الحزن على وجهها، و نظرات البؤس في عينها، فأردت أن ترحمها، فأوصلتك الرأفة إلى توهم حبها، و الحزن و الأسى و البؤس عوارض زائلة، فإن زالت زال حبها.
“راغب”: و الثالثة؟
“الشامي”: الثالثة أبدت الاهتمام بك، و علقت الآمال عليك، و أتاحت لك فرصة القيام بدور البطل الهمام، و الإنسان ضعيف أمام من يوليه الرعاية و الاهتمام، و يرغب دوما في القيام بدور البطولة و اقتحام الأهوال، فأوقعك فخ الاهتمام في مصيدة الأوهام.
“راغب”: طيب ألا يمكن أن يبدأ الحب وهما ثم يصير حقا؟ و هل البون بين الحب و توهم الحب بعيد؟
“الشامي”: الوهم كالسراب فهل بلغك يوما أن السراب قد صار ريا؟ و البون بين الحب و توهم الحب كالبون بين الأنبياء و مدعي النبوة.
“راغب”: لكن الاعجاب و الاستحسان، و الشفقة و الحنان، و الرعاية و الاهتمام، كلها أمور محببة إلى القلب، قريبة من الحب، و ليست على النقيض منه، كما في حالة الصدق و الكذب، أو النبوة و ادعاء النبوة.
“الشامي”: إن قادت هذه الأمور إلى الوهم أصبحت على النقيض من الحب و إن ترادفا في المظهر فهما متضادان في الجوهر، تماما مثل النائحة و الثكلى، و مثل أهل المقامات و الأحوال و أهل الدعاوى و الأوحال.
“راغب”: إلى هذه الدرجة؟
“الشامي”: يقول أبو حامد الغزالي: (وَأَكْثَرُ الْخَلْقِ قُوَى نُفُوسِهِمْ مُطِيعَةٌ لِلْأَوْهَامِ الْكَاذِبَةِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِكَذِبِهَا، وَأَكْثَرُ إقْدَامِ الْخَلْقِ وَإِحْجَامِهِمْ بِسَبَبِ هَذِهِ الْأَوْهَامِ، فَإِنَّ الْوَهْمَ عَظِيمُ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى النَّفْسِ ).
“راغب”: و يقول ابن عطاء السكندري: ( ما قادك شيء مثل الوهم).
“الشامي”: أجل.
“راغب”: إذا فأنا لا زلت لا أعرف الحب.
“الشامي”: و لكن لعلك الآن عرفت ما ليس بالحب.
“راغب”: نعم، أرجو ذلك.
“الشامي”: و بعد أن عرفت ما عرفت؟ هل اكتفيت؟
“راغب”: اكتفيت و ما ارتويت.
“الشامي”: و ما زال لك من اسمك نصيب.
“راغب”: نعم.(إنا إلى الله راغبون)
“الشامي”: و إلى أين الوجهة؟
“راغب”: دلني يا سيدي.
“الشامي”: لعلك إن التقيت بالحكيم اليماني، تجد عنده ما لم تجده عند غيره.
* * *
عَلى العَقيق اِجتَمَعنا نَحنُ وَسودُ العيونِ
أَظنّ مَجنونَ لَيلى ما جنّ بَعضَ جُنوني
إِن مُتّ وَجداً عَلَيهم بِأَدمُعي غَسَلوني
نوحوا عَلَيَّ وَقُولوا هَذا قَتيل العُيونِ
أَيا عُيوني عيوني وَ يا جُفوني جَفوني
فَيا فُؤادي تَصبّر عَلى الَّذي فارَقوني
* * *