hindawiorg

Share to Social Media

كان الهواء ساخنًا للغاية في داخل الفتحة، وكان مطاط غطائها طريٍّا بسبب الحرارة. ولم يكن ثمة جوابٌ لأسئلتهم المتلهفة، ولا صوت حركة بالداخل. وبدا أن إليستيد كان راقدًا بلا حَراك متكومًا في قاع الكرة. وزحف طبيب السفينة للداخل وأخرجه إلى الرجال في الخارج. ولبرهة ظلوا في حَيرة لا يعلمون إن كان إليستيد حيٍّا أم ميتًا؛ فقد كان وجهه، في ضوء مصابيح السفينة ذات الضوء الأصفر، يلمع من العرق، فحملوه إلى قمرته. واكتشفوا أنه ليس ميتًا، بل في حالة انهيار عصبي تام، بالإضافة إلى إصابته البدنية الشديدة. ظل راقدًا بلا حَراك تمامًا بضعةَ أيام، ولم يستطع رواية ما مر به من تجاربَ إلا بعد أسبوع.
تقريبًا كانت أولى كلماته أنه سينزل للأسفل مرةً أخرى. وقال إنه لا بدَّ من تعديل الكرة كي تسمح له بالتحرر من الحبل عند الحاجة، وكان هذا هو كل شيء؛ فلقد خاض
اعتقدتم أنني لن أجد سوى الرواسب الطينية. لقد » : بحقٍّ أروعَ تجرِبة في حياته. وقال وروى قصته في أجزاءٍ غير متصلة، «! سخرتم من استكشافاتي، لكنني اكتشفت عالَمًا جديدًا وبترتيب خاطئ في الأساس؛ ومن ثمَّ فمن المستحيل إعادة رواية القصة كما قالها. إلا أن ما يلي هوسرد لتجرِبته.
قال إليستيد إن الأمر بدأ بدايةً بشعة؛ فقبل أن يُرخى الحبلُ بالكامل، أخذت الكرة تلف؛ وشعر كأنهضفدع في كرة قدم. ولم يستطِع رؤيةشيء إلا الرافعة والسماء من فوقها مع بعضلمحات من وجوه الناسعلى سور السفينة. وفي بعضالأحيان، لم يستطِع تحديدَ الاتجاه الذي ستتحرك فيه الكرة بعد ذلك. فجأة يجد قدميه ترتفعان لأعلى ويحاول المشي، ويتقلب لأعلى رأسًا على عقب على البطانة عشوائيٍّا. وعلى الرغم من أن اتخاذ أيِّ وضعٍ آخَر كان سيوفر قدْرًا أكبر من الراحة، فإنه لم يكن من الممكن الاعتماد على أيِّ وضع آخَر في ظل الضغط الشديد لهذا العمق السحيق.
وفجأة توقف التأرجح واعتدلت الكرة، وعندما اعتدل، رأى الماء من حوله بلون أزرق مخضر، مع ضوء خفيف كان يتسلل لأسفل قادمًا من أعلى، واندفعت بجواره مجموعةُ أشياءَ صغيرةٍ طافيةٍ بدا له أنها كانت متجهةً صوب الضوء. وكلما نظر زاد الظلام أكثر فأكثر حتى بدا الماءُ من فوقه في ظلمة سماء منتصف الليل، وإن كانت أكثر اخضرارًا، وكان الماءُ من أسفلَ أسودَ اللون. واكتسبت الأشياء الشفافة الصغيرة الموجودة في الماء بريقًا لامعًا خافتًا، وسارت أمامه في صورة خيوط خضراء باهتة.
أما عن شعور السقوط، فكان أشبه ببداية هبوط المصعد، ولكنها بداية مستمرة لا تتوقف. لا بدَّ للمرء من تخيُّل معنى هذه الاستمرارية. لقد كانت تلك هي أوَّل مرة يندم فيها إليستيد على قيامه بهذه المغامرة. كان يرى كل الاحتمالات المناهضة له بطريقة جديدة كليٍّا؛ فأخذ يفكِّر أنه ربما يصادف سمك الحبار الكبير الذي يقول الناس إنه يعيش في المياه الوسطى، والذي يكون من ضمن الأشياء شبه المهضومة التي يُعثر عليها في أمعاء الحيتان في بعض الأحيان، أو يكون جثة طافية ومتعفنة ونصف مأكول من قِبل السمك. وماذا لو وقعت الكرة في قبضته ولم تكن هناك وسيلة للإفلات؟ وهل هذه التروسخضعت حقٍّا للاختبار على نحو كافٍ بحيث تواجه هذا الأمر؟ إلا أن الرغبة في الاستمرار أو العودة لم تكن مهمة على الإطلاق في ذلك الوقت.
وفي غضون خمسين ثانية اتشح كل شيء بالسواد الذي يكتنف الليل خارج الكرة فيما عدا بقعة الماء الساقط عليها ضوءُه، وكان يلمح بين الحين والآخر بعضَ الأسماك أو الفضلات العائمة. وكانت تلك الأشياء تمرُّ بجواره بسرعة تُعجِزه عن رؤية ماهيتها. واعتقد في إحدى المرات أن قرشًا مرَّ بجانبه. ثم أخذت الكرة في السخونة بسبب احتكاكها بالماء؛ ويبدو أنهم استخفُّوا بهذا الأمر.
وكان التعرق هو أوَّل ما لاحظه، ثم سمع صوت هسهسة يزداد ارتفاعًا تحت قدميه، ورأى الكثيرَ من الفقاعات الصغيرة — لقد كانت بالغةَ الصغر حقٍّا — تندفع لأعلى مثل الِمروحة عبْر الماء بالخارج.
وتحسَّسالنافذة قائلًا: بخار! وقد كانت النافذةساخنة. أشعل الضوء المتوهج الصغير الذييضيء قمرته، ونظر إلى الساعة المبطَّنة بالدعامات، ووجد أنه مرتدقيقتان على رحلته.
وخطر على باله أن النافذة من الممكن أن تتحطم بسبب اختلاف درجات الحرارة؛ لأنه علِم أن درجة حرارة ماء القاع تقترب من درجة التجمد.
وفجأةً بدا أن أرضية الكرة تضغط على قدميه، وأصبح اندفاع الفقاعات بالخارج أكثر بطئًا، وتضاءل صوت الهسهسة. ودارت الكرة قليلًا، ولم تتحطم النافذة ولم يحدث شيء، وعلِم أن خطر الغرق قد زال على أيِّ حال.
وبعد حوالي دقيقة أخرى كان ممددًا على أرضية المحيط، وقال إنه اعتقد أن ستيفنز ووايبريدج وبقية الرجال الذين كانوا على ارتفاع خمسة أميال فوقه، كانوا أبعدَ مِن أبعدِ سحابةٍ سبحت فوق رءوسنا على الأرض، وإنهم كانوا يبحرون ببطء ويحدقون لأسفل، ويتساءلون عما قد حدث له.
ونظر من النافذة، وكانت الفقاعات قد اختفت وتوقف صوت الهسهسة. وفي الخارج كان هناك سوادٌ حالك — يحاكي سواد القطيفة السوداء — فيما عدا البقعة التي شقَّها الضوء الكهربائي في هذه المياه الخالية وكشف عن لونها — اللون الأخضر المصفر. ثم ظهرت ثلاثة أشياءَ تشبه أشكال النار يتبع بعضُها بعضًا عبْر الماء. ولم يستطِع معرفة إن كانت صغيرةً وقريبةً أم كبيرةً وبعيدةً.
كان كلٌّ منها محددًا بضوءٍ ضاربٍ إلى الزرقة براقٍ مثل أضواء مراكب الصيد، وبدا أن الضوء كان يتوهَّج بشدة، وعلى جانبَيْ كلٍّ منها كانت توجد نقاطٌ من هذا الضوء مثل نوافذ السفينة الأفتح لونًا. وبدا أن فسفوريتها تخبو مع اقترابها من إشعاعضوئه، وعندئذٍ رأى أنها أسماك صغيرة من نوع غريب، برءوس ضخمة، وعيون واسعة، وأجسام وذيول متضائلة. وكانت عيونها متوجهةصوبه، واعتقد أنها كانت تتبعه، وظنَّ أنها كانت تنجذب إليه بسبب توهُّج ضوئه.
وعلى الفور انضمت إليها أسماك أخرى من النوع نفسه. وكلما نزل لأسفل، لاحظ تحوُّل الماء إلى لون باهت، وأن النقاط الصغيرة تتلألأ في شعاع ضوئه مثل ذرات الغبار في شعاع الشمس. وكان هذا على الأرجح بسبب سحب الرواسب والطين التي أثارتها الأثقال المصنوعة من الرصاص.
وعندما سحبَتْه أثقال الرصاصلأسفل، وجد نفسه في ضبابٍ أبيضَكثيفٍ لم يخترق ضوءُه الكهربائيُّ إلا بضع ياردات منه، ومرت دقائقُ كثيرةٌ قبل أن تنحسرطبقات الرواسب المعلقة ولو قليلًا. وبعد ذلك، على ضوئه وعلى الضوء الفسفوري العابر المنبعث من سرب سمك بعيد، تمكَّن من أن يرى أسفلَ الظلمةِ الهائلةِ لهذا الماء الراقدِ الهائلِ مساحةً كبيرةً غيرَ مستوية من الرواسب البيضاء المائلة للرَّمادي، تتخللها هنا وهناك تجمعات متشابكة من زنابق البحر التي أخذت تلوِّح بلوامسها الجائعة في الهواء. وعلى مسافةٍ أبعدَ كانت توجد هياكلُ رشيقةٌ شبهُ شفافةٍ لمجموعة من الإسفنجيات العملاقة. وتناثر على هذه الأرضية مجموعةٌ من الأعشاب المسطحة ذات الأشواك وذات اللونَين الأرجواني الزاهي والأسود، والتي اعتقد أنها نوعٌ من قنفذ البحر، بالإضافة إلى أشياءَ صغيرةٍ ذات عيون كبيرة أو عمياء، بعضها يشبه على نحو غريب قمل الخشب وبعضها الآخر يشبه الكركدن، وكانت تزحف ببطء على طريق الضوء واختفت في غموض، تاركة وراءها آثارًا متعرجةً.
وفجأةً غيَّرسربُ الأسماك الصغيرة السابحة اتجاهه وتوجَّه نحوه، كما قد يفعل سرب طيور الزرزور. ومرَّ فوقه مثل الثلج الوامض، ثم رأى خلفه مخلوقًا أكبرَ يتقدم نحو الكرة.
لم يستطِع أن يراه بوضوح في البداية؛ فقد كان شيئًا يتحرَّك ببطء على نحو يشبه إنسانًا يسير، ثم جاء إلى دائرة الشعاع المنبعث من الضوء الكهربائي. وكلما أصابه الوهج، أغلق عينيه بسبب عدم القدرة على النظر بسبب الضوء. وأخذ إليستيد يحدِّق فيه في ذهول شديد.
لقد كان حيوانًا فقاريٍّا غريبًا. وكان رأسه الأرجواني الداكن يوحي بأنه يشبه قليلًا الحِرباء، إلا أن جبهته المرتفعة وجُمجمته لا تجعله يندرج تحت الزواحف على الإطلاق؛ إن الانحدار الرأسيلوجهه أعطاه شبهًا كبيرًا بالإنسان.
كانت عيناه الكبيرتان الناتئتان بارزتَين من جيوب كما هي الحال في الحِرباء، وكان له فمٌ كبيرٌ يشبه فمَ الزواحف، وكانت شفتاه الخشنتان موجودتَين أسفل فتحتَي الأنف الصغيرتَين. ومكان الأذنَين، كان يوجد غطاءان كبيران للخياشيم، وكان يخرج منهما شجرةٌ متفرعةٌ من الشعيرات الْمَرجانية، تشبه الخياشيم الشجرية الموجودة لدى صغار أسماك الشفنين وأسماك القرش.
إلا أن وجهه الذي يشبه وجه الإنسان لم يكن هو الشيء الأكثر غرابة في هذا المخلوق؛ فقد كانت له قدمان، وكان جسمه شبه الكروي يرتكز على ثلاث قوائم مكوَّنة من قدمين تشبهان قدمَي الضفدع، وذيل سميك طويل، وكان طرفاه الأماميان اللذان يشبهان يدَي الضفدع في محاكاتهما الغريبة لليدين البشريتين، تحمل كلٌّ منهما قائمةً عظميةً طويلةً مغطٍّى طرفُها بالنُّحاس. وكان لون هذا المخلوق متنوعًا؛ فالرأس واليدان والرجلان كانت باللون الأرجواني؛ أما الجلد الذي كان يتدلى منه في ترهل مثل الملابس، فكان رَماديٍّا فسفوريٍّا. ووقف ذلك المخلوق هناك وقد أعماه الضوء.
وفي النهاية فتحَ مخلوقُ الأعماق السحيقة الغريبُ هذا عينيه، وظللهما بيده الطليقة، وفتح فمه، وأصدرصيحة عالية واضحة تشبه الكلام البشري، وقد اخترقت هذه الضوضاء الهيكل الفولاذي والغطاء المبطِّن للكرة. ولا يزعم إليستيد أن لديه تفسيرًا لإمكانية صياح المخلوق دون امتلاكه رئتَين. ثم تحرَّك المخلوق إلى الجانب بعيدًا عن الوهج ليدخل في الظل الغامضالذي اكتنفه عن كلا الجانبَين، وشعر إليستيد دون أن يرى أن المخلوق كان قادمًا نحوه. ولأنه تخيَّل أن المخلوق ينجذب إلى الضوء، أغلق الْمِفتاح الذي يغلق التيار الكهربائي. وفي لحظة أخرىضربشيء طري الفولاذَ، وتأرجحت الكرة.
ثم تكررت الصيحة، وبدا له أن صدًى بعيدًا يجيبها. ثم تكررت الضربة، وتأرجحت الكرة بأكملها، وضغطت على البكرة الملفوفِ عليها السلك. ووقف في الظلام، نظر للخارج إلى ليل الأعماق السحيقة السرمدي، ورأى على الفور أشكالًا أخرى باهتةً وبعيدة جدٍّا شبه بشرية فسفورية تسرع نحوه.
ودون أن يدري ماذا يفعل، تحسَّس سِجْنه المتأرجح ليصل لزر الضوء الكهربائي الخارجي، ووجد مصادفةً مصباحه المتوهج الصغير في التجويف المبطن. وتأرجحت الكرة ثم طرحته أرضًا، وسمعصيحات تشبهصيحات الدهشة، وعندما نهضواقفًا رأى زوجَين من العيون يحدِّقان في النافذة السفلية وتعكسان ضوءَه.
وفي لحظة أخرى ضربت أيدٍ بقوةٍ الهيكلَ الفولاذيَّ لكرتِه، وعلا صوتٌ فظيع جدٍّا في مكانه، وكان هذا صوت الطرق العنيف للغطاء المعدِني الذي يحمي التروس. وفي واقع الأمر ألقى هذا في قلبه الرعب؛ لأنه إذا نجحت تلك المخلوقات الغريبة في إيقاف التروس، فلن يتمكَّن مطلقًا من الخروج من الكرة. ولم يكد يسترسل في التفكير حتى شعر بأن الكرة تتأرجح بعنف، وأن أرضيتها تضغط بقوة على قدميه؛ فأطفأ الضوء المتوهج الصغير الذي يضيء داخل الكرة، وحوَّل شعاع الضوء الكبير الموجود في القمرة المنفصلة إلى الماء في الخارج؛ فوجد أن قاع المحيط والمخلوقات شبه البشرية قد اختفيا، وسقطت فجأة سمكتان كانت تلاحق إحداهما الأخرى بجوار النافذة.
اعتقدَ على الفور أن هذه المخلوقات الغريبة التي تسكن قاعَ المحيط قد قطعت الحبل، وأنه قد أفلت؛ فاندفع لأعلى أسرع فأسرع، ثم توقَّف بحركة سريعة جعلته يطير صوبَ سقف سجنه المبطَّن. ولما يقرب من نصف دقيقة، عقدت الدهشةُ عقلَه عن التفكير.
ثم شعر أن الكرة تدور ببطء وتتأرجح، وبدا له أيضًا أن الماء يسحبها؛ فجثم بالقرب من النافذة، ونجح في استغلال وزنه وتدوير ذلك الجزء من الكرة لأسفل، لكنه لم يرَ شيئًا إلا شعاع ضوئه الباهت المُسلط لأسفل في الظلام بلا فائدة. وخطر له أنه قد يرى المزيد إذا أطفأ الضوء، وجعل عينيه تعتادان العتمةَ الشديدةَ.
لقد أصاب في ذلك؛ فبعد عدة دقائق أصبحت تلك الظلمة المُخْمَلية سوادًا شبه شفاف، ثم رأى عن بُعد أشكالًا تتحرك لأسفل، باهتةً مثل الضوء البروجي في مساء الصيف البريطاني. واعتقد أن هذه المخلوقات قطعت الحبل، وكانت تجُرُّه عبْر قاع المحيط.
ثم أبصر شيئًا باهتًا وبعيدًا عبْر تموجات قاع المحيط؛ حيث رأى أفُُقًا واسعًا من الإضاءة الباهتة الممتدة هنا وهناك على مدى النطاق الذي استطاع رؤيته من نافذته
الصغيرة. وكانت تلك المخلوقات تجُره إلى هناك مثلما يجُر الرجالُ المُنطادَ من أرضٍ مكشوفةٍ إلى بلدة. واقترب من البريق رويدًا رويدًا، وببطء شديد تجمَّع ذلك الإشعاع الباهت مكوِّنًا أشكالًا أكثر تحديدًا.
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.