hindawiorg

Share to Social Media

كانت الساعة الخامسة تقريبًا قبل أن يصل إلى هذه المنطقة المنيرة، وعند ذلك الوقت استطاع تمييز ترتيبات تشبه الشوارع والمساكن المتجمعة حول بناء هائل بلا سقف، يشبه على نحو عجيبٍ دَيرًا مدمرًا. لقد كانت ممتدة أسفله مثل الخريطة. كانت كل المنازل حوائطَ بلا أسقف، أما المادة المصنوعة منها التي رأى فيما بعد أنها عظام ذات وميضفسفوري، فقد جعلت المكان يبدو وكأنما بُني من ضوء القمر الغارق في الماء.
وبين التجويفات الداخلية لهذا المكان مدَّت مجموعاتُ زنابقِ البحرِ الملوِّحةُ كأنها أشجارٌ لوامسَها، وبرزت الإسفنجيات الطويلة الرفيعة الشفافة مثل المنارات اللامعة والزنابق المنبعث منها ضوء رقيق مقارنةً بالتوهج العام للمدينة. وفي المساحات المفتوحة في هذا المكان، تمكَّن من رؤية حركة مضطربة كما لو كانت لحشود من الناس، لكنه كان يعلوها بقامات عديدة جعلته غيرَ قادرٍ على تمييز الأفراد في هذه الحشود.
ثم سحبوه لأسفل ببطء، وفي هذه الأثناء بدأ يستوعب تفاصيل المكان ببطء؛ فوجد المباني الضبابية صفوفًا من الأشكال الدائرية الشبيهة بالخرز، ثم أدرك أنه في عدة أماكن بالأسفل في المساحات المفتوحة الواسعة توجد أشكالٌ تشبه هيئة السفن المغطاة بالقشريات. لقد كان يسُحب للأسفل ببطء وثبات، وأصبحت الأجسام الموجودة أسفله أكثر بريقًا ووضوحًا وتحديدًا. وأدرك أنه يُجر للأسفل نحو المبنى الكبير الموجود في وسط البلدة، وبين الحين والآخر استطاع أن يلمح الأجسامَ العديدةَ التي كانت تجُر الحبل. واندهش عندما رأى أن حبال إحدى السفن التي كانت سِمةً بارزةً في هذا المكان، تتجمع حولها مجموعةٌ متنوعةٌ من الكائنات التي أخذت تنظر إليه وتُلوح له، ثم ارتفعت جدران المبنى الكبير واقفةً أمامه في صمت، وحجبت المدينةَ عن عينيه.
وكانت تلك الجدران مصنوعةً من خشب مشبع بالماء وحبل من السلك الملفوف وقضبان حديدية ونُحاس وعظام وجماجم موتى. كانت الجماجم مرصوصةً في خطوط متعرجة ولولبية ومنحنيات رائعة على امتداد المبنى؛ وكانت أعداد ضخمة من الأسماك الصغيرة الفضية اللون تتسلل وتلعب داخل محاجر عيون الجماجم وخارجها، وعلى سطح المكان كله.
وفجأة ملأ أذنيه صياحٌ خفيضٌ وضوضاءُ تشبه نفخَ البوقِ بعنف، ثم حَلَّ محلَّ ذلك غناءٌ جميلٌ. وهبطت الكرة لأسفل أمام النوافذ الضخمة المدببة التي رأى منها على
نحو غامضعددًا هائلًا من الأشخاصالغريبة التي تشبه الأشباحَ ينظر إليها، وفي النهاية استقر، كما يبدو، علىشيء يشبه المذبح كان منصوبًا في وسط المكان.
والآن أصبح في مستوًى أتاح له رؤية أناسِ الأعماق السحيقة الغرباء هؤلاء بوضوح مرة أخرى. وأدهشه أنه أدرك أنهم ساجدون أمامه، ما عدا شخصًا واحدًا يرتدي على ما يبدو مِعطفًا من الحراشف الصفائحية، وقد تُوِّج بتاج لامع، ووقف يفتح ويغلق فمه الذي يشبه فم الزواحف، وبدا كأنه يقود غناء هؤلاء المتعبدين.
ودفع إليستيد حدسٌغريبٌ جعله يوقد ضوءَه المتوهِّجَ الصغيرَ مرةً أخرى كي يصبحَ مرئيٍّا لمخلوقات الأعماق السحيقة، إلا أن الوهج جعلهم يختفون على الفور في الظلام. وعند رؤيته على الفور تحوَّل الغناء إلى جلبة من الصياح الفرِح، فأطفأ إليستيد الضوء مرة أخرى لأنه كان متلهفًا لرؤيتهم، واختفى من أمام عيونهم. وظل لفترة غير قادر على تمييز ما كانوا يفعلونه، وعندما استطاع أخيرًا تمييزهم، وجدهم ساجدين مرة أخرى. واستمروا في عبادته على هذا النحو دون راحة أو فاصل مدة ثلاث ساعات. كانت التفاصيل الشديدة أهمَّ ما يميز وصف إليستيد لهذه المدينة المدهشة وسكانها، سكان الليل السرمدي الذين لم يرَوْا قَطُّ شمسًا أو قمرًا أو نجومًا أو نباتاتٍ خضراءَ أو أيَّ مخلوقاتٍ حيةٍ تتنفس الهواء، تلك المخلوقات التي لا تعرف شيئًا عن النار ولا عن الضوء، باستثناء الضوء الفسفوري المنبعث من الأشياء الحية. وعلى الرغم من غرابة قصة إليستيد، فإن الأمر الأكثر غرابة هو أن علماءَ بارزِين أمثال آدمز وجينكنز لا يجدون فيها شيئًا غير قابل للتصديق. لقد أخبراني بأنهما لا يريان سببًا يمنع المخلوقات الفقاريةَ الذكيةَ، التي تتنفس الأكسجينَ الذائبَ في الماء، والمعتادةَ الحرارةَ المنخفضةَ والضغطَ الهائلَ، والتي تتسم بالهيكل الثقيل الذي لا يسمح لها بالطفو حيةً أو ميتةً، من العيش في قاع المحيط دون أن نشعر بوجودها مطلقًا، نحن حَفدةُ وحوشِ عصرِ الحجرِ الرمليِّ الأحمرِ الجديدِ العظماءُ.
ورغم ذلك، لا بدَّ أنهم يعرفوننا مخلوقاتٍ جويةً غريبةً معتادةً أن تسقط ميتةً على نحوٍ كارثي من سواد سمائهم المائية الذي يكتنفه الغموض. ولا تقتصر معرفتهم علينا فحسب، بل لا بدَّ أنهم يعرفون سفننا ومعادننا وأجهزتنا التي تنهمر عليهم من الظلمة؛ ففي بعض الأحيان من الممكن أن تسقط الأشياء وتسحقهم كما لو كانت قضاءَ قوةٍ عُليا غير مرئية، وأحيانًا من الممكن أن تسقط أشياءُ غايةً في الندرة أو الفائدة، أو أشكالٌ تكون مصدرَ إلهامٍ لهم. وربما يمكننا فهْمُ بعضٍمن سلوك تلك المخلوقات عند هبوط إنسان حي عندها، لو فكرنا فيما قد تفعله قبيلةٌ بربريةٌ تجاه مخلوقٍ برَّاقٍ محاطٍ بهالة هبطَ فجأةً عليها من السماء.
ربما أخبر إليستيد ضباطَ سفينةِ تارميجن بكل تفاصيل هذه الساعات الاثنتي عشرة الغريبة التي قضاها في الأعماق السحيقة. ومن المؤكد أنه كان ينوي كتابة تلك التفاصيل، لكنه لم يفعل ذلك مطلقًا، وللأسف علينا أن نجمع شتات قصاصات حكايته المتضاربة من ذكريات المقدم سيمنز، ووايبريدج، وستيفنز، وليندلي، والآخرين. سنحاول تجميعَ بقية القصة في لمحات متفرقة؛ فهناك المبنى الضخم المريع، والأشخاصالساجدون المنشِدون الذين تشبه رءوسهم الداكنة رأسَالحرباء، والذين كانت ملابسهم يشِعُّ منها ضوءٌ خافتٌ، وها هو إليستيد قد أوقد ضوءه مرةً أخرى في محاولة بائسة لإفهامهم أن الحبل الذي يُمسك الكرة يجب أن يُقطع. وانسلت الدقائق واحدة تلو الأخرى، وأخذ إليستيد ينظر في ساعته، وأصابه الذعر عندما علم أن الأكسجين سينفد بعد أربع ساعات أخرى. إلا أن الإنشاد المقام علىشرفه استمرَّ بلا هوادة، كما لو كان موسيقى عسكرية جنائزية لموته الوشيك.
لم يفهم إليستيد الطريقة التي تحرَّر بها، إلا أنه بالحكم على الأمر من طرف الحبل الذي تدلت منه الكرة، يمكن الجزمُ بأنه انقطع بسبب الاحتكاك بحافَةِ المذبح؛ فالكرة لفَّت فجأةً، واندفع لأعلى بعيدًا عن عالَمهم مثلما سيخرج مخلوقٌ روحاني متشِحٌ بالفراغ من غِلافنا الجوي عائدًا إلى عالَمه الروحاني الأصلي. لا بدَّ أنه انطلق مختفيًا بسرعة عن عيونهم مثلما ترتفع في الهواء فقاعةُ الهيدروجين في عَجَل. لا بدَّ أنهم وجدوه صعودًا غريبًا.
واندفعت الكرة لأعلى بسرعة أكبر منسرعة اندفاعها لأسفل عندما كانت مثبتة بالأثقال الرصاص. وازدادت درجة حرارتها بشدة. وارتفعت الكرة وكانت نافذتاها لأعلى، وتذكَّر وابلَ الفقاعات الذي غطَّى الزجاج. وفي كل لحظة، كان ينتظر أن يختفي هذا الوابل. ثم شعر فجأةً بشيء مثل العجلة الكبيرة ينطلق في رأسه، وبدأت القمرة المبطَّنة تدور من حوله وسقط مغشيٍّا عليه. وعندما استفاق، وجد نفسه في قمرته على السفينة والطبيب يتحدث معه.
إلا أن هذا كان جوهر القصة الغريبة التي رواها إليستيد على نحو متقطع لضباط سفينة تارميجن. ووعد أن يكتبها كلَّها في وقت لاحق. وكان عقلُه مشغولًا في الأساس بتحسين كرته، وهذا ما نفَّذه في ريو.
ويبقى أن نذكر أنه في الثاني من فبراير عام ١٨٩٦ هبط إليستيد للمرة الثانية في أعماق المحيط السحيقة، بعد إجراء التحسينات التي استوحاها من تجرِبته الأولى. وعلى الأرجح لن نعرف مطلقًا ما الذي حدث؛ حيث إنه لم يَعُد. وبحثت سفينة تارميجن بحثًا حثيثًا في المنطقة التي غطس فيها مدة ثلاثة عشر يومًا ولكن دون جدوى. ثم عادت إلى ريو، وأرسلت الأخبار إلى أصدقائه في برقية. وما زال هذا هو الوضع حتى وقتنا الراهن.
إلا أنه من غير المحتمل ألا تحدث محاولاتٌ كشفيةٌ أخرى للتأكد من صحة قصته الغريبة حول مدن قاع المحيط غير المعروفة لنا حتى الآن.
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.