الجزء الأول
مع إنتهاء حرب 1967 , بدأ الآلاف من المهاجرين بالتوافد على تلك الدولة المغتصبة لأرض فلسطين بعد أن استطاعت آلتها الإعلامية ان توصل للعالم أن هذه الحرب قد كتبت نهاية العرب بصقة عامة و مصر بصفة خاصة بل و انها آخر الحروب.
وعلي الجانب الآخر , كانت هناك رسالة أخري ليهود العالم بان دولتهم قد صارت حقيقة بل و أصبحت جنة الله فى الأرض وانها تنتظرهم كي ينهلوا من خيراتها وتعوضهم سنوات الشتات والعذاب .
ومن بين هؤلاء المهاجرين كان ( دافيد كرينهال ) مهاجر سوفييتي شاب نحيل الجسم , ضعيف القوة و يثير الشفقة بملابسه الرثة وحقيبته البالية حتي ان رجال الأمن لم يعيروه أي انتباه.
نزل كرينهال ارض الميعاد ليقف في طابورا طويلا حتي تسلم أوراق إقامته فى إسرائيل وككل المهاجرين الجدد الذين لا يمتلكون اي مهارات او شهادات عليا فلقد تم توزيعه إلى احد المزارع ليعمل بها إلى أن يتم توفير فرصة عمل مناسبة.
لثلاثة أشهر كاملة ,عاش ديفيد كأي عامل الا انه اثناء سهراته مع اقرانه كان يقضي الليالي في رواية حكايته عليهم كيهودي سوفيتي اعتقل الحزب الشيوعي والده وهو فى الحادية عشرة من عمره ثم كيف لم يره مرة أخرى واعتنت به والدته الي ان توفيت حتي بات وحيدا ثم كيف اقنعه صديقا يوغسلافيا بأن الحل هو ان يعود معه الي ارض الميعاد و المستقبل المشرق فسافر معه إلى تركيا ومن هناك ركب احد السفن القادمة إلى إسرائيل ممنيا النفس بأن يحقق أحلامه فى ارض الميعاد.
وذات ليلة و اثناء جلوسه مع رفاقه متحدثا مع جارته الفاتنة ( راشيل ) وأمها العجوز ( استير ) إذا ببصره فجأة يزوغ ثم شردت ملامحه واصابته انتفاضة واخذ جسده في الارتعاش فأصاب السيدة و ابنتها بالفزع.
استير: اسرعي راشيل واحضري قطعة قماش مبللة و كوبا من الماء و....
وقبل ان تكمل جملتها إذا بالشاب يتحدث بصوت عميق وهو مغلق العينين :
- لقد اخطأ ( يارون بلونسكى ) كثيرا عندما رفض الاعتراف بما فعل إلا انه قد شعر بالخزي و الندم وقرر أن يدفع الثمن … وسيدفع قريبا !!
ثم خرت رأسه فوق صدره ليسقط مغشيا عليه في إغماءة طويلة
تسمرت راشيل وأمها فى مكانها من هول الصدمة واخذتا تنظران لبعضهما البعض
استير هامسة في اذن إبنتها : ما هذا ? كيف عرف ? من اخبره ?
خرت راشيل علي اقرب كرسيا لها تراقب ما يفعله الشباب مع كرينهال وإذا بأمها تقترب منها ساحبة اياها الي الخارج
استير : كيف عرف ?
راشيل : حقا لا ادري
استير بغضب مكتوم : مؤكد رويتي له شيئا او لأحد آخر فأنا اعلم انك ثرثارة كبيرة
راشيل بغضب : هل جننتي ? أتظنيني أفضح نفسي وأروي لأي احد كيف خدعني ذلك اللعين يارون بلونسكى و اوهمني بالحب و جعلني احمل منه سفاحا ثم لم يعترف بحملي ورفض زواجي وكان هذا السبب فى هجرتنا الي هنا وتركنا بيتنا و ارضنا بل وابتعد عني تماما ثم لم يلبث أن فر من بغداد ومن العراق إلى جهة مجهولة تماما .
وبعد أن أفاق ديڤيد بدا للجميع وكأنه لا يتذكر اي شئ
استير وهي لاتزال تحافظ علي نظرة الإندهاش : ما الذي قلته ?
ديڤيد متعجبا : ماذا ? هل قلت شيئا ?
استير وهي تنظر اليه بريبة : ماذا ? نعم قلت ? ما الذي يحدث معك ? لقد تشنجت اطرافك و اخذت تقول اشياء عجيبة
ديڤيد و قد امتلأت عيناه بالتعجب : حقا انا لا اتذكر فعلا شيئا مما تقولين .
نظرت الام و ابنتها لبعضهما البعض ثم صمتتا
إلا ان الامر لم ينتهي عند هذا الحد , فى الأسبوع التالي مباشرة تلقت راشيل رسالة من أوروبا وبداخلها شيك بمبلغ ضخم يمكن صرفه من اى بنك ويحمل توقيعا كاد قلبها أن يتوقف لرؤيته فلقد كان موقعا بإسم يارون بلونسكى , وعلى ظهر الشيك كانت عبارة ( تقبلي اعتذاري ) بخط يارون نفسه الذي تعرفه حق المعرفة !!!
طارت الأسرة فرحا بهذا المبلغ الضخم واخذوا يقصون على الجميع نبوءة دافيد التي تحققت , دون أن يتطرقوا لعلاقة يارون براشيل او لماذا فعل هذا .
انتشر أمر النبوءة فى المزرعة واخذ الجميع ينظرون فى انبهار إلى دافيد الذي استنكر كل ذلك .
وذات ليلة , تجمع اهل الحي الذي يسكن ديفيد فيه كعادتهم ليلة كل سبت إذا بدافيد يفاجئ الجميع بنبوءة أخرى عندما زاغ بصره , شردت ملامحه وتشنجت اطرافه و بدات انتفاضة جسده و كأن تيارا كهربائيا قد مسه
داڤيد بصوت عميق : خسارة أن يتلف محراث جميل كهذا !!!
عاد داڤيد إلى وعيه وسط ذهول كل من حوله الذين بادروه بما فعل الا انه اخذ ينكر تماما انه قد قال اى شيء.
كرد فعل سريع , هب الشباب لفحص كل المحاريث التي بالمزرعة فقد كانت كلها جديدة تماما ثم عادوا ليعلنوا أن المحاريث بحالة جيدة.
وهنا دخل الجميع في نوبة من السخرية لدافيد و نبوءته العجيبة .
لكن فى اليوم التالي مباشرة, فوجئ الجميع بانكسار المحراث الرئيسي فى المزرعة دون اى سبب , لينظر الجميع إلى دافيد فى ذهول .
انتشر خبر دافيد فى كل ارجاء المزرعة والمزارع المجاورة ليبدأ الناس فى التوافد عليه لرؤيته و ليطلبوا منه أن يخبرهم بأي نبوءة مستقبلية لهم.
علي الرغم من رفضه التام إلا انه فى بعض الحالات كانت تغشاه تلك الحالة العجيبة من الشرود ثم يدلي بنبوءة هنا اوهناك تتعلق بماضي احد الحاضرين أو بمستقبله, مما أكد للجميع انه لا يتحكم فى موهبته ولا يعلم عنها شيئا.
مع الوقت خرج الأمر من حيز المزارع الريفية البسيطة إلى ارض أكثر صلابة ليتفاجأ دافيد ذات يوم بضيف من ذوى السترات الرسمية يطلب مقابلته
دخل ديڤيد مكتب مدير المزرعة فإذا بضابط من جيش الدفاع يجلس بمكتب المدير
المدير : هذا هو ديفيد كرينهال سيدي
هب الضابط واقفا ثم تقدم نحو ديفيد واخذ يتفحصه شبرا شبرا
الضابط بلهجة آمرة : إستعد للسفر إلى ……العاصمة تل ...( ثم مال علي اذنه) ابيب !!!
التفت ديفيد اليه وعيناه قد امتلأتا بعلامات الإستفهام
ديڤيد : لماذا
الابط : هكذا هي الاوامر ....هيا اسرع
الشهرة
فى الطريق إلى العاصمة داخل تلك السيارة الفارهة، أغمض دافيد كرينهال عيناه حتي بدا للضابط الذي يرافقه انه يغط في نوم عميق الا انه كان يستعيد ذكرياته و كيف بدأت تلك القصة.
القاهرة
على بعاد مئات الأميال فى قلب العاصمة التي لا تنام أبدا : القاهرة , اندفع مسئول الشفرة إلى مكتب رجل المخابرات الشهير ( امجد )
مسئول الشفرة : لقد ابتلعوا الطعم , واستدعوه إلى العاصمة
هب امجد واقفا وقد اختلطت فرحة سماعه هذا الخبر بقلق علي مندوبه الذي دربه فلقد كان يعلم ان الجزء الثاني من تلك العملية الجنونية التي وضع خطتها بنفسه قد بدأ
جلس امجد بعد خروج مسئول الشفرة ثم اخذ يتذكر كيف بدأ الامر هو ايضا ..عندما وصل اليه بلاغا وبوجود شابا ذو الملامح الأوروبية يقف بجوار سنترال محطة الرمل الشهيرة بمدينة الإسكندرية يقرأ الطالع و ينجم للناس وانه يرتدي ثيابا رثة تدل على فقر شديد انعكس على وجه صاحبها الذي بدا شاحبا إلى أقصى حد والتي لم تستطع نلك الحالة ان تخفي تلك النظرة العبقرية التي تطل من عينيه , والتي كان الشاب يستغلها فى التحايل على البسطاء ليحصل على قوت يومه وكانت لملامحه الغريبة اكبر الأثر في اقناع زبائنه.
من بعيد كان امجد ورجاله يراقبونه ويقومون حوله بالكثير من التحريات حتي توصلوا الي ذلك القدر الذي يستطيعون من خلاله ان يتعاملوا معه مباشرة.
اقترب منه امجد المرة بعد المرة حتي بات واحدا من زبائنه المستديمين وتعرف عليه اكثر.
وذات يوم
أمجد : ارجو ان تقبل دعوتي علي الغذاء اليوم فهو عيذ ميلادي
اشرف بخجل : حقا ...لكن
صمت اشرف ثم اخذ ينظر الي ملابسه و يشير اليها
امجد : لا تقلق لقد احضرت لك احدي بدلاتي القديمة اظنها تناسبك ...هيا
اثناء الغذاء ,
اشرف : الف شكر علي تلك الوجبة الجميلة و اتمني ان استطيع ان اردها لك في يوما من الايام
امجد مبتسما : لا شكر علي واجب ان في رأسي سؤالا اتمني ان تجيبني عليه
اشرف : وما هو ?
امجد : من انت ? لا شكلك و لا طريقتك توحي انك ولدت هكذا
انزل اشرف معلقته علي الطبق وقد بدا علي وجهه الحزن ثم رفع راسه مبتسما في وجه امجد : سأروي لك كل شئ
بدأ الشاب يروي له
اشرف فؤاد الطحان ..شاب مصري, كان والده فؤاد الطحان من أسرة مصرية بسيطة حاصلا على شهادة الهندسة , إلتقي بالأوكرانية ( هيلجا بتروفا ) ليرتبط الاثنان بقصة حب عنيفة والتي إنتهت بزواجهما وكان اشرف هو ثمرة ذلك الزواج .
لم يكتب الله لفؤاد أن يرى ابنه قط . فلقد مات فى حادث اليم قبل ولادة اشرف بيوم واحد .
حتى سن الحادية عشر تعود الطفل على أن يقضى الشتاء فى كنف أمه وجده السوفيتي .
آما شهور الصيف ,فلقد كان يقضيها بمصر مع عائلة أبيه , وهكذا نشأ الصبي وهو يجيد التعايش مع العادات السوفيتية والتحدث باللغة الروسية بلهجة أهل أوكرانيا , بالإضافة إلى عشقه لمصر وتحدثه باللغة العامية.
مع بلوغه الحادية عشرة , تتوفى والدته , ليختطفه جده ويسافر به الي أوكرانيا بسبب تمسك أهل والده به و بإقامته معهم .
هناك عانى الصبي بسبب فراق مصر وأهل أبيه , واخذ فى النحول والانطواء , وعندما كبر استطاع الهروب من القبضة الحديدية السوفيتية وظهر فى الإسكندرية.
فور وصوله توجه اشرف علي الفور الي منزل أهل والده وهناك كانت تنظره مفاجأة لم يحسب لها حسبانا ...لقد إنهار و توفي كل سكانه بما فيهم اهل والده جميعا باستثناء ابنة عمه (وفاء ) التي اختفت بعد الحادث .
باءت كل محاولات اشرف في العثور علي وفاء بالفشل والتي كانت تراسله أثناء وجوده فى أوكرانيا وكان يكن لها حبا كبيرا , واسودت الدنيا فى وجهه وانتهى به الأمر وهو بتسول لقمته فى المساجد ثم العمل كمنجم بالشوارع.