تحدثتُ إلى الطبيبة النفسية كما نصحتني مديرة أعمالي وصديقتي المُقربة، كانت تنظر إلي باسمة بشكل هادئ ومبالغ به وكأنها غارقة في التفكير، رأسها المرفوع بدقة متناهية وتفاصيل جلستها التي خمَّنتُ تدرُّبها عليها لآلاف المرات قبل أن تستطيع إتقانها بهذا الشكل، والذي جعلني أرتبكُ في حضورها فلا أعرفُ من أين أبدأ بالحديث!
تشابكت يداي مرةً وقضمت أظافري مرات عديدة، تلعثمت حروفي وتساقطت الأفكار من رأسي، على الرغم من ترتيبي الأحداث وإتقاني اللغة العربية إلا أنني فقدت صوتي أمامها!
أخبرتني بعد مضي جلسة مقدارها ساعتين أنني بحاجة إلى أسبوع راحة وفعل أشياء أسعدُ بها نفسي أو الخروج في رحلة خارج المنزل برفقة عائلتي، إلا أنني لم أثق بكلامها تماماً.
كانت تخرج الكلمات من فمها بانسيابية حتى أنني شعرت بكونه وصفة طبية حفظتها عن ظهر قلب وتقوم بإعطائها لجميع المرضى على حدٍّ سواء!
- هذا لن يفي بالغرض، أنا بحاجة إلى دواء لإبعاد تلك الأرواح الشريرة التي أراها، أو اللعنة التي أصابتني ؟!
قلت لها غاضبة وأنا أنظر في عينيها الهادئتين.
- أنت بحاجة إلى الراحة وألا تعتقدي انسجامك داخل عالم الكتابة لوقت طويل جعلك مرهقة تماماً؟!
لست بحاجة إلى الدواء بل إلى أخذ إجازة عائلية...
خرجت نحو صديقتي المقربة والتي كانت تعيشُ في قمَّةِ الجبل، محاولة الأخذ بنصيحة عائلتي والطبيبة المجنونة أكثر مني..
كانت الأجواء الباردة والموسيقى الهادئة جعلت عقلي يسترخي وأتأمل الأشجار الكثيفة على حافة الطرقات، ربما كان يتوجب علي الابتعاد عن عالم الكتابة والضغط الذي كنت عليه.
وفي اللحظة الأخيرة أوقفتُ السيارة بمنتصف الطريق حيث كانت تجلسُ فتاة بالثانية عشر من العمر، يُغطي وجهها شعرها الأسود الكثيف، ترتدي ملابس بسيطة و مُتَّسِخة تحني رأسها نحو الأرض وتحتضن نفسها بكلتا يديها الشاحبتين.
ابتلعتُ ريقي بصعوبة أنظر إليها لتبتعد عن الطريق، الدقائق الأربعة التي مرَّت بصعوبة قبل رؤيتي لهُ يجلسُ على المقعدِ الخلفي، يبتسمُ لي تلك الابتسامة اللعينة و يتقهقر ضاحكاً وهذا ما جعلني أضغطُ بقوَّةٍ فوق البنزين، تلك الثواني الأخيرة والتي جعلت حدقات عيوني تتَّسع حتى أقصاها محاولة الإبتعاد عن الطفلة الصغيرة وأدخل بفاصلٍ زمني نحو اللاوجود والفراغ.
فتحتُ عيني ببطء شديد لأجد نفسي داخل غرفة في المستشفى وعائلتي تتحلَّق حولي وهي تنظرُ إلي بعيون دامعة وحزينة، لم أعي ما حدث معي بالضبط ولكن كلمات أمي الحزينة جعلتني أشعر بالصدمة:
- لماذا يا بنتي حاولتي الهروب؟!
ما الذي جعلك تخرجين عن الطريق نحو الهاوية، لقد قام رجال النجدة بإخراج السيارة بصعوبة، لولا سترُ الله لكنتي الآن في الهاوية!!
- أنا كنت أحاول فقط الابتعاد عن الفتاة، لم أخرج نحو الهاوية...
بُحتُ لها بصوتي الضعيف، قبل أن أرى تلك الفتاة تقف بن الحاضرين وهي تبتسم بمكرٍ وتغمزُ لي بطرف عينيها.
أشرت لشقيقتي الصغرى بأن ترى الفتاة التي كانت تقف إلى جانب الحائط، لكنها كانت تنظر إلي بعينين فزعتين وهي تعود بخطواتها إلى الوراء وتخرج من الغرفة.
على الطرف الآخر كان يقف بظلِّه الأسود الغامض ينظر من خلال النافذة وهو يشير إلي بأطراف أصابعه نحو بُقعِ الدم على الجدار، وسقطتُ في بئرٍ عميق لا قرار له.