بعدما استراح جيمس من روبرت وشعر بالراحة والاستقلالية والفردانية مرة أحرى أعتزل الناس جميعا. لقد ترك كل شيء وذهب لجزيرة نائية لا يسكنها البشر, فقط الطيور والحيوانات والنباتات. بيئة خالية تماما من البشر بشرورهم وآثامهم ومطامعهم وكراهيتهم. بيئة يعلم كل موجود فيها بدوره في الحياة. بيئة هادئة, الجميع يبحث فقط عن غذائه لا أكثر ولا أقل. لقد كان يتذكر دائما ما يحدث في بيئة الإخطبوط. تجربة غربية للغاية, بعدما يلقح الذكر الأنثى تنقض الأنثى على الذكر فتأكله, ثم تضع البيض وتظل ترعاه ولا تأكل حتى يفقس وقُبيل أن يفقس البيض تموت الأم. فيصبح الإخطبوط الجديد يتيم الأب الذي أكلته الأم ويتيم الأم التي ضحت بذاتها من أجل أبناءها. رائعة من روائع الفداء الذي يقدمه الأب والأم. الجميع يفهم جيدا دوره في الحياة والجميع مستسلم. الذكر يموت ليطعم الأم والتي تنقطع عن الأكل بعد ذلك لترعي أبناءها. حياة واضحة الهدف والمعالم. الاستمرارية هي هدف الجميع المعلن والواضح. بالرغم من أن هذا قد يبدو وحشية من وجهة نظر ما قاصرة الفهم, إلا أنها في الحقيقة قصة تضحية حقيقة من مخلوقات نراها بدائية ووحشية وهمجية. تضحية بالنفس وهي أسمى ما يملكه كل كائن, يحتاج البشر لسبب وجيه لكي يضحي بذاته من أجل غيره. يحتاج لدافع ديني يعده بجنة عرضها السموات والأرض أو بمجد دُنيوي عظيم بعد موته أو ربما يموت وهو يهرب ولم يكن يريد أن يضحى بنفسه ولكن العالم يظهره كبطل مغوار حتى يشجع غيره على التضحية بنفسه ليحصل على هذا الشرف والتقدير والتعظيم. في هذا العالم البدائي البسيط الجميع يعلم جيدا ما عليه فعله. الجميع يضحي دون مقابل غير أبناءه وبقاء نوعه وجنسه. الجميع يحمل مسئولية كبيرة وهي بقاء النوع. أما البشر فهم يحملون مسئولية كبيرة تجاه فناء البشر. الجميع يفكر كيف يقتل ويدمر الأخر والذي هو إنسان مثله تماما. لأنه قد وصل لما وصل إليه, فقد قرر اعتزال العالم. ربما لأن جزء منه أصبح إخطبوطا بشكل ما لذلك فقد فهم الحياة من وجهة نظرهم. فقد تعلم أن لكل وجود في الكائن الحي حتى لبكتريا صغيرة أو فيروس غازي أثر في الكائن المضيف. حتى الذرة والإليكترون وما هو دون ذلك من كواركات وغيرها وحتى تلك الخيوط الصغيرة والتي هي بين المادة والطاقة أيضا لها أثر في الكائن الموجودة فيه. الجميع يتأثر ويُؤثر في الأخر. لكل وجود نوع خاص من الوعي والإدراك والذي يؤثر في الأخر حتى دون أن ندري.
لقد أثر العزلة والبعد عن الجميع. وجد في الحياة البدائية والبسيطة مبتغاه. حتى عدنان لم يكن يعلم إلى أين ذهب. بعد التخلص من روبرت فقدت الحياة بمجملها المعني. نفد منه كل رغبة وشهوة وغريزة. لقد ظل ليالي طويلة لا يأكل. وان أكل فلا يأكل إلا نبات قد مات دون تدخل من أحد. نبات قد مات لأن دوره قد أنتهي أو ورقة شجر سقطت على الأرض دون أرغام من أحد. لقد توحد مع ذاته الجديدة. تلك الذات التي تجمع الكثير في داخلها ووجد ذلك كافيا.
كان مايكل عدنان يبحث عنه في كل مكان. كان يفهم فكره وكان هو أيضا قد مر بمثل هذه التجربة من قبل. كان يفهم إلى أين سيتجه. للعزلة والأراضي البكر التي لا يسكنها بشر. للجزر المنعزلة التي لا تتصل بأي أرض أخرى. لو كان بإمكانه لأختار الإقامة في الفضاء البعيد. حيث لا بشر. لا حيوانات. لا نباتات. ولا حتى تلك الأرض الغريبة الملعونة والمحكوم على ساكنيها بان يعيشوا بموت الأخر سواء كان من جنسه أو من جنس أخر. لو كان بإمكانه أن يختار لأختار حياة من مكان أخر بعيدا عن الأرض. مكان أخر لا يحتاج فيه الكائن لكي يعيش أن يقضي على حياة الأخر. مكان أخر تمتزج فيه حياة كل الموجودات فيه معا لتخلق حياة واحدة لا معنى للقتل والموت والفناء والشر والقهر والوحشية مكان فيه. مكان يكون حياة الفرد مرتبطة بحياة كل شيء في هذا المكان, دون الحاجة لكي يموت الأخر ليحي الفرد. لم يكن يفهم كيف يكون ذلك ولكنه كان قد أتخذ قراره الخاص به ولكن قبل ذلك لابد أن يقابل جيمس.
وجده أخيرا بعد بحث طويل عنه. كان يبحث عن مكان فيه تناغم من نوع خاص هو يعرفه تماما. تناغم بين الإنسان والطبيعة. هبط بهدوء تام حتى لا يزعج احد. وجده يلاعب إخطبوطا عملاقا في المحيط بأحد اذرعه بينما يلاعب الأسماك الصغيرة بيديه. أطلق العنان لذراع أخر تلهو مع القردة فوق شجرة قريبة تمسك بها القردة لتقفز بين الأشجار, بينما أذرعه الأخرى يلاعب تمساحا على بحيرة صغيرة وأخر ممتد بشكل أفقي من فوق شجرة لتقف فوقه الطيور الجميلة والمغردة. الجميع هادئ ومستمتع. لم يرد أن يزعجهم أو يقاطعهم, لم يعد يقاطع أحد أبدا وتعلم الانتظار مهما طال. فالوقت بالنسبة له لم يكن إلا مجرد وهما كبير أختلقه البشر وعاشوا فيه. كان مشهد رائع وغريب. تجانس غريب بينه وبين البيئة المحيطة من حوله. مخلوق رائع فهم كل شيء جيدا. مشهد فيه الجميع كائن حي يفهم معنى الحياة وليس الموت.
أنتظر حتى أنتهي وذهب ليستريح. ضحكا حين التقت الأعين.
قال الرجل الأخطبوطي:
- كنت أعلم أنك ستبحث عني وتجدني.
قال السرطاني:
- كنت أعلم أين أجدك, أتظن أنك يمكنك الهرب مني؟.
تبسما لأخطبوطي وقال:
- أهرب!!!. لكنني لما أهرب بل اعتزلت العالم.
قال السرطاني:
- لكن العالم في حاجة إليك.
قال الأخطبوطي متعجبا:
- في حاجة لي أنا؟.
قال السرطاني:
- بالطبع.
قال الأخطبوطي:
- يكفيهم أنت وأنت تكفيهم؟
قال السرطاني:
- لكني راحل.
قال الأخطبوطي وقد ساوره مشاعر كثيرة على رأسها الخوف والحزن:
- إلى أين؟.
قال السرطاني:
- إلى أين أنتمي, إلى أين أجد نفسي. إلى الكون الفسيح حيث ابحث عما أريد كما فعلت أنت.
نظر له الأخطبوطي باهتمام وقال:
- هل فهمت ما تريد؟ هل وجدت ذاتك وشغفها؟.
قال السرطاني:
- نعم. ما دام الخلود هو مصيري فعلي أن أبحث فيما هو خالد مثلي.
قال الأخطبوطي سعيدا:
- هنيئا لك ما وصلت إليه. ثم صمت.
قال السرطاني:
- أنك تعلم الحياة وما يحدث فيها وتدرك جيدا حاجة الناس لك.
تبسم الأخطبوطي وقال:
- الناس ليسوا في حاجة لي بل لأنفسهم. في حاجة لعقولهم وفي حاجة لفهم حقيقة أنفسهم وذواتهم وهدف حياتهم.
نظر له السرطاني نظرة رضا وأومأ بالموافقة وقال له:
- إذا علمهم.
تبسم الأخطبوطي وقال له:
- أنا؟؟؟؟
قال السرطاني:
- ومن أكفأ منك لتلك المهمة؟.
قال الأخطبوطي:
- أنا لا أصلح لتلك المهمة وكما وأنهم يرفضون أن يتعلموا الدرس القاصي لأنهم يجدونه دائما ضد شهواتهم ورغباتهم.
قال السرطاني:
- لذلك هم في حاجة لك.
قال الأخطبوطي:
- ماد دمت قد وجدت هدفك فاتركني وهدفي فقد وجدته.
قال السرطاني:
- لكن من هو مثلنا لا يجب أن يعتزل الناس.
قال الأخطبوطي وهو يضحك:
- أنك تفعل يا فتي.
تبسم السرطاني وقال:
- لا.....لا ...لا أفعل بل سأتواصل بشكل تام مع البشر لنقل خبراتي لهم لعلهم يدركون الحقيقة.
تبسم الأخطبوطي وقال له:
- البشر لن يصدقوا ما ستقوله لهم. هم اعتادوا على ذلك يفهمون فقط الكذب والباطل ويكذبون الحق, أتعرف لماذا؟. لأنه يصب في مصلحتهم.
قال السرطاني:
- لذلك دورك مهم معي. سأكون أنا من ناحية وأنت من الناحية الأخرى وغيرنا, سنعمل سويا وسيكون هنالك من يصدقنا ويصدق أهدافنا النبيلة مع الوقت والذي هو مجرد وهم ستنمو بذرة المعرفة الحق في النفوس وستصبح هي الفكرة الأكثر رواجا وتقبلا.
قال الأخطبوطي:
- ثم يكون هنالك أخطاء فادحة في التطبيق كما يكون دائما في كل فكرة ثورية وتقدمية حتى يكرها الناس.
قال السرطاني:
- هذا هو دورنا أن نمنع انحراف الفكرة, أننا سوف نحيا طويلا لذلك سنقدر على ذلك. لن نموت ونترك الفكرة لتخرب وتفسد وتنقلب رأسا على عقب.
قال الأخطبوطي:
- ومن يحمي الفكرة من أنفسنا وذواتنا؟.
قال السرطاني بثقة:
- نحن. ضمائرنا. وعينا. وكل شيء فينا. لا أريد أن أجعل ذلك عقبة في طريقنا. علينا العمل معا مهما بعدت المسافات وتغيرت الأوقات فكلانا يعلم الحقيقة ويفهما ويعيها, وهمية الزمان والمكان بل الوجود ذاته. بقليل من العمل والجهد سنغير العالم. أنني لا أنسى تلك المقولة العظيمة الخالدة خلودا أكثر من خلودي:
- لو كان البشر أقل سوء بقليل, لكانت الحياة أفضل بكثير. ليكن هذا هو هدفنا الأول ثم تأتي باقي الأهداف..
قال الأخطبوطي:
- لكنني لا أريد أن ترك هذا الصفاء النفسي الذي أنا فيه لأعود لبشر أسمى أمنياته أن يقضي على أخيه.
قال السرطاني:
- أعلم أن الأمر صعب ولكن عليك أن تحاول. أنني على يقين أنك لن تترك البشر أبدا في حاجة إليك. حين يصبح البشر في حاجة ماسة إليك ستجد نفسك تتحرك من تلقاء نفسك الصافية تجاههم دون تردد. سألتقي بك كثيرا في الفترة القادمة حتى تحين لحظة انطلاقي وسوف نناقش كل شيء بعقل مفتوح ووعي ناضج. يجب أن نسمو فوق أنفسنا, ليسموا العالم معنا