صاح "كرم":"أيه اللي جاب "حلا" هنا وأصحي الاقيها ليه "
صرخ "شريف":" أنت مجنون .. "حلا" من أول ما اتنقلت للمستشفي من ست شهور وهي ملازماك تخلص الشغل تجري تلازمك وأنت في غيبوبة ومسبتكش لحظة يبقي ده جزاتها أنت معندكش قلب صحيح ولا تمييز"
فتمتمت "حلا":" حمد لله علي سلامتك وربنا يتمم شفاك علي خير ؛ أنا كده أطمنت عليك حأستأذنكم" وأختنقت العبرات داخل مقلتيها وأسرعت قبل أنهمارها لتتركهم وهي تفر كمن يهرب من آتون من نار وجحيم مقيم ؛ ظلت تجري مبتعدة وهي غارقة في لج دموعها العميق ؛ وأخذت تتنفس الهواء عند خروجها من باب المشفي الدوار ؛ ليسرع "شريف" و " نرمين " للحاق بها وأرتمت في أحضان "نرمين" وربت "شريف" علي كتفيها لعله يهديء روعها من بشاعة كلماته وعباراته القاسية .
وأصطحبهن "شريف" لمنزلهن لتنال "حلا" قسط من الراحة وهدهدتها "نرمين" لكي تغفو فنامت "حلا" وقد تناثرت خصلات شعرها الحالك علي وجنتيها كطفلة صغيرة أشتاقت لأبويها فانهمرت في البكاء حتي غفت دون تمهيد أو أنذار.
ومرت الأيام وتنامي لعلمها خروج "كرم" من المشفي وبممارسته لحياته وأوضح الأطباء له أن من له الفضل من بعد الله في أستعادته وعيه من غيبوبته العميقة وجود "حلا" الدائم وحديثها معه ؛كان سبب هام ورئيسي لأنقاذه من تلك الغيبوبة اللعينة التي لولاها لأنحدار لغياهبها دون أدني فرصة للنجاة ؛ وعندها أستشعر "كرم" بمدي غباؤه فلقد رأي مرأي العين فرحتها بمجرد فتح مغاليق عيناه التي تم وصدها بأقفال ستة شهور ؛ كم كان قاسي ومتعجرف ويتملكه الغضب أينما حل وأقترب منها ؛ وكأنما أنتعشت ذاكرة عقله الباطن لتزيد من تأنيبه لضميره لتذكره بطيفها المشوب بضباب فقدان الوعي وصوتها وأحاديثها وحكاياتها المبهمة التي يصعب عليه تذكرها ؛ وظل يفكر بجانب تأنيب الضمير لماذا أصبح فظا غليظ القلب مع "حلا" ولم يري منها ألا كل خير ؛ فبالرغم من أنه غريب عنها ولكنها لم تكل أو تمل أن تقبع بجواره تحاكيه من أجل يخرج من الغيبوبة ويتعافي سريعا ؛ وظل مؤرقا لا يدري كيف يتصرف تجاه شعوره بالغضب نحوها.
وبمجرد بزوغ أول شعاع للشمس أرتدي ملابسه وذهب إلي بوابة منزلها ينتظر نزولها للعمل فهو لا يجرؤ أن يطرق بابها في تلك الساعة المبكرة من الصباح وسينتظرها لحين نزولها حتي لو بات لأيام ؛ ووجدها تهرع إليه بعد رؤيتها له من بلور النافذة فهي كانت مؤرقة ووقفت بالنافذة تستنشق هواء الصباح الباكر العليل ؛ ولمحت "كرم" بالخارج وأمام المدخل فركضت بملابسها الخاصة بالمنزل وهي عبارة عن "ترينج" بلون الزهور لتنطلق كالسهام لتقف أمامه بعد فرملة منها وهي في حالة جزع عليه.
"حلا":" أنت كويس حاسس بحاجة بتوجعك ناخد تاكسي ونروح المستشفي" وأخذت تتحسس نبضه لتطمئن لينفجر ضاحكا:" يا قطة يا صغيرة أهدي بقي مافيش فايدة فيكي مندفعة كعادتك أنا بخير يا حضرة الدكتورة وملاكي الحارس" فجعدت كلا من أنفها وشفتها العلوية كمشمشة تماما ؛ ليستطرد:" أنا كويس والله اااااااه جعدنا الشفة والنوز كمان يا نهار أبيض لازم أضرب نفسي وأعضها كمان؛ أنا بجد آسف علي قلة تهذيبي وأدبي معاك في المستشفي وأي موقف بينا صدر مني ما يضايقك ؛ أنا أسف بجد عمري ما كنت كده ؛ وكأني بأتفرج علي شخص تاني مش أنا ؛ ممكن تسامحيني؟"
وصدر من "حلا" ما لم يتوقعه أبدا حيث قفزت لتعانقه ؛ وهي تردد " أنا مسمحاك ده أنت عيلتي من بعد جدتي ومبقاش ليا حد ؛ أنا اللي بأعتذر لك عن أي تصرف صدر مني أزعجك أنا عارفة أني مندفعة ومش باحسب لتصرفاتي حساب وده يمكن اللي بيزعجك مني "
وأوقفها "كرم" قائلا :" هششششش أنا اللي لازم أعتذر أنتي كل حاجة عاوزة تاخديها لنفسك كده يا قطة يا صغيرة بما فيها الأعتذار"
وضحكت ضحكتها الطفولية الجزلة وهي لازالت تعانقه لتقول:" أنا بحبك أوي أوي يا كوكو " لينتبه الأثنان لما لفظته في دهشة ولتخرج من عناقها له مرتبكة وتلعن لسانها الذي يزلف بالعديد من الكلمات التي دائما توقعها في مشاكل ومواقف محرجة لا حصر لها.
وفطن "كرم" لأرتباكها فيسرع ويقول:" وأنا كمان يا "لولوه" وبجد لولاكي كنت في غيبوبة الله أعلم كنت حأفضل فيها لأمتي ؟!"
وكأنما محي الزمن موقفها الحرج لتصيح:" حلو أوي أسم "لولوه" وأخذت تردده وهي جزلة وفرحة ؛ أنت و"شريف" و"نرمين" بجد بقيتوا كل عيلتي " وأطرقت برأسها لأسفل خجلة.
"كرم":" متخجليش أحنا يشرفنا تعتبرينا عيلتك؛ وبجد أنا باعتذر لك علي كل كلمة صدرت مني وجرحتك او وجعتك بس للأمانة معرفش فيك حاجة بتستفزني أوي معرفش ليه ؟! وحاولت أدور علي سبب لده ملقتش ويمكن ده بيخليني أندفع في كلامي للاسف وأنا مش كده خالص "
وكأنما تحولت في بضعة ثواني لأنثي ناضجة تودع الطفلة الفرحة التي أسرعت لمعانقته والأرتماء لمصدر الأمان البشري المتبقي لديها بعد أمان وسند من الرحمن .
"حلا":" متعتذرش يا "كرم" لأني بألتمس ليك أعذار كتيرة ومنهم أنك أول مقابلة بينا صدرت ليك أضطراب شخصية غريبة وعملك ده ازعاج وانزعاج فطبيعي تحس بعدم أرتياح لأن الأنطباع الأول دايما اللي بيدوم ؛ وطبيعي اللي صدر منك وبما أننا أتبادلنا الأعتذارات يبقي نقطة ومن أول السطر ونفتح صفحة جديدة ؛ لعلنا نكون لبعض الصحبة والسند في الغربة أيه رأيك؟!" وأؤميء برأسه علامة الموافقة
ومدت إليه يدها مصافحة وكأنما تلك لحظاتهما الأولي في التعارف لتقول :" أنا "حلا" وأتشرفت بمعرفتك" ؛" وأنا "كرم" ومتشرف بمعرفتك بجد "
"حلا":" وبعد المبادرة الهايلة دي أيه رأيك أعزمك علي فطار شهي ولذيذ؟!"
"كرم":" وأنا موافق يالا أستعدي وأنا حانتظرك يا لولوه"
"حلا":" هوا يا كوكو "
وأسرعت كفراشة محلقة لتهرع نحو المدخل وهي تلوح له بسلام مؤقت ؛ ولم تمضي بالزمن كثيرا وأصبحت جاهزة فهي سريعة بأرتداء ملابسها ولا تضع مساحيق تجميل وتعتمد علي جمالها الرباني دون تزييف .
وأندهش " كرم" لسرعتها في المجيء فهي ترتدي طاقم كلاسيكي جميل يتناسب مع قوامها الممشوق ولا تضع أي مسحوق تجميلي وأكتفت بالكحل لعيونها الزرقاء فأضفت عليها جمال يزيدها جمالا؛ وتوجها لمطعم لطيف جدا ذو أطلالة ساحرة وألتهما الفطور بشهية مفتوحة آثارت دهشة "كرم" فهو لأول مرة يشعر بذلك الكم من الأرتياح منذ أن تم ألغاء زفافه وهرب عروسته دون وداع.
وكأنما تبدلت"حلا" وأصبحت شديدة الهدوء والحكمة فكانت منصتة له طوال الوقت مما دفعه لحديث مليء بالأحداث التي مرت عليه وأنتهاءا بعدما تذكره أي شيء أثناء الغيبوبة ؛ ومضي الوقت سريعا معها كأنه قطار سريع يلحق بالزمن لعله يسبقه؛ ونظرت "حلا" إلي ساعتها الرقيقة لتعلن بأنها ستضطر للأستئذان فحديثه الممتع لا يمل منه ومعه تنسي العالم وما وراءها من أعمال ؛ كم كان لقاء وأفطار ممتع وبصحبتها الرائعة أصبح يومه جميل وندم علي معاملته لها وأصبح سعيد بأنها أقترحت بفتح صفحة جديدة بيضاء لبداية تعامل بينهم جديد.
وأصرت أن تنصرف بسيارة أجرة حتي لا تعطله عن عمله ؛ لتسرع مودعة وتلوح له بالسلام ليراقبها وهي تسرع لتشير لسيارة اجرة وهي تصفر له ليصحبها مما إثار ضحك "كرم" وانتابته موجة ضحك عالية لا يستطيع كبح جماحها ؛ ولم يبالي بألتفات النظرات إليه متعجبة من ضحكه بدون صحبة ليضحك هكذا بملء فيه .