لم يطاوعه قلبه علي المغادرة دون أعتذار منها ؛ فهو لا يتكبر أن أخطيء في حق أحد بأن يعتذر ؛ فالأعتذار في عرفه قوة وليس ضعف ؛ ورجع إليها ليجدها غارقة في قيعان شلالات الدموع الحارة مما جعله يغضب من نفسه لتسببه في أن تصل الفتاة لتلك الحالة بسبب كلماته التي انطلقت كسياط تجلدها وتمزقها بلا رحمة .
“كرم" : " آنسة "حلا" باعتذر منك لو كان كلامي قاسي عليكي أنا بجد آسف أن كنت وجعتك بكلامي ... أنتي بخير ؟!! مالك بس أهدي وخليني أساعدك .. شنطتك هنا صح ؟؟!! طيب ردي عليا متقلقنيش عليكي .." وركع علي ركبتيه لينظر في عيونها الزرقاء يالها من عينان بالغة الروعة لم يجد بزرقتهما من قبل ؛ " يا ذات العيون كالبحار ردي علي الغلبان ... لو مردتيش حاغنيلك يا بنت السلطان لعدوية وصوتي وحش وحيطردونا من دبي ويقطعوا العلاقات الدبلوماسية يرضيكي !!" ضحكت كالاطفال وكأن " مشمشمة" تجسدت أمامه؛ " أيوه كده أفتحي شبابيكك واطردي التكشيرة ولوية البوذ دي ... ايوه كده قولي بقي يا ست البنات مالك بقي كلام واحد قاسي زيي يخليكي تبقي كده؟!! ده كلام بردو ... مالكيش حق يا ست "حلا" يالا احكيلي وقوليلي مالك ؟!!"
“حلا" باكية :" باعتذر لو عطلتك بس انا باعيط مش بسبب كلامك بس منكرش اني جريت اعيط لوحدي كعادتي من كلامك القاسي اللي فضلت أفكر أنا أيه عملته لكل ده ... ما علينا بس بعدها جاتلي رسالة قلبت حياتي وخلتني مش عارفة اتصرف أزاي "
“كرم" :" خير ... أحكيلي علشان أساعدك لاني حابب أساعدك بجد كتكفير عن ذنوبي يا ستي "
"حلا":" أنا مشكلتي كبيرة اوي ... بس ملخصها أني والدي ووالدتي اطلقوا وانا لسه سنة وربتني جدتي لابويا لان كل واحد منهم اتجوز وكانهم ما صدقوا ومفكروش فيا وخلفوا وعاشوا حياتهم ومحدش سأل فيهم عليا وكبرتني جدتي واتوفت من أسبوع واتكالب عليا عمامي وعماتي واخدوا الشقة وطردوني برا وحاولت ادور علي ابويا ألجأ له لاني استحالة ألجأ لأمي لانها حتي عاطفة الامومة قتلتها جواها من نحيتي وعرفت اوصل لعنوانه انه في دبي من سنين ومستقر كلمته فالاول كلمني كاني غريبة عنه ودي حقيقة وطلب من اثباتات اني بنته بجد وكانه نسي بوجودي ؛ آآآه وقولت استحمل وابدء حياة جديدة في دبي قدمت علي شغل واتقبلت بس احتجت مكان اقيم فيه فكان كل تفكيري انزل عنده لحد ما تستقر اموري واكيد مش حاتقل عليه ؛ ورتبت كل حاجة ولما جريت بعد كلامك اداري دموعي لتشوفها وتتشفي فيا المهم لقيته بعتلي رسالة بيقولي اتصرفي انا سافرت انا ومراتي واولادي فرنسا فسحة ومعرفش حنرجع امتي وانا معرفش حد هنا ولا عارفة حانزل فين وتحويشة عمري كلها كانت جدتي حبيبتي الله يرحمها خبيتهم ليا كانت عارفة غدر اولادها بيا حجزت منها الطيارة والتاشيرة ومفروض أستلم شغلي بعد يومين .. عندي حق أنهار ولا رأيك أيه ؟!!!! "
تعجب من حكايتها ومن معاناتها الشديدة التي أستشفها من حديثها
مشكلة كبيرة للغاية وأعتي الرجال لا يستطيع حلها للاسف.
"كرم":" طيب يالا بينا ننزل من الطيارة ونشوف حنعمل ايه قادرة تقومي ؟" فأشارت برأسها بالايجاب وحمل شنطها الصغيرة علي كتفه وارتحلا لخارج الطائرة .
وظل يفكر كيف يخلصها من هذا المصير المجهول؛ وأنتظارا بصالة الوصول لأستلام حقائبهما ؛ وكان من حسن الحظ وجود صديق مقرب له مقيم في دبي أسرع بالأتصال به لعله يجد لديه سبيل لحل أزمة "حلا" .
وكأنما القدر يكفكف دمعها الغزير وأجاب علي أتصاله "شريف" صديقه الصدوق وشرح له المأساة مبتعدا عن "حلا" حتي لا تبكي مجددا ؛ وصمت "شريف" مفكرا ليجيبه :" طيب بص يا "كرم" أنا ليا صديقة مغتربة وعايشة في شقة مع مغتربات حاقفل معاك وأشوفها لو للبنت مكان تسكن معاها "
"كرم": " حتبقي البنت في أمان معاها؟ دي مالهاش حد يا "شريف" من بعد ربنا "
"شريف":" واللي معاه ربنا محدش بيضيعه أطمن وقول يارب"
"كرم":" يااارب"
وأغلق المكالمة ليطمئن "حلا" وأستلما حقائبهما وأنتظارا اتصال "شريف" الذي لم يطل به الوقت إلا وعاود الأتصال .
"شريف":" يا ابني البنت دي مبروكة ولا أيه ماشاء الله أمورها متيسرة كلمت "نرمين" وكأني بأغيثها بمكالمتي لأن بنت فضي مكانها وكانت محتاجة بنت علشان تشاركها الأيجار هي وبنتين كمان وكأنها ما صدقت وادتني العنوان وهي مستنياها أطمن حابعتلك العنوان واللوكيشين وأديها رقمي معاها لو احتاجت لحاجة تكلمني أشوفك علي خير "
"كرم": " شكرا يا "شريف" جدا ربنا يجازيك خير ؛ نتقابل علي خير ".
"كرم":" ده أنتي طلعتي شيخة مبروكة يالا يا ست الشيخة بينا ربنا دبرها ولقينا سكن "
"حلا":" بجد ميرسي أوي خالص بجد الحمد لله يارب " وسجدت ع الأرض شاكرة حامدة ؛ فذهل "كرم" من تلقائيتها وأستشعر بأنها بثت في قلبه مشاعر الأبوة لطفلة صغيرة فهي نسخة مكبرة من "مشمشة" حبيبة قلب خالها ؛ ووجدها ترتعش من الفرحة وهي تتمتم حامدة شاكرة لرب العالمين.
وأنطلقا لوجهتهما وأطمئن عليها ف"نرمين" فتاة لطيفة ومحترمة رحبت ب "حلا" وأستشعر وكأنما بينهن عشرة سنين طوال؛ فلقد أحتضنتها "نرمين"كطفلتها الصغيرة وأنكمشت "حلا" بأحضانها كقطة صغيرة مرتعدة من المجهول .
وأعطي للفتاتين رقمه وأخذ أرقامهن وقبل أنصرافه جرت "حلا" نحوه تتشبث في كم قميصه كطفلة صغيرة:" حتطمن عليا حقيقي ولا حتدير ضهرك ليا ؟!! وجعدت شفتاها فرق قلبه لها ليطمئنها ويطبطب علي كتفها "لا تخافي صغيرتي حاطمن عليكي كل شوية متخافيش وأحتجتي أي حاجة في اي وقت كلميني حافتح تليفوني علي طول ومتخافيش من حاجة ابدا كلنا هنا حواليكي "
"حلا":" بجد ... يا استاذ "كرم" مش حتتخلي عني في يوم او ابقي تقيلة عليك وتتهرب مني ؟ ارجوك انا اتخذلت فباعتذر علي كلامي ده "
"كرم" :" أولا أنا كرم وبلاش أستاذ تاني حاجة أنا عمري ما أخد عهد مع حد وأنقض العهد ده تالت حاجة اتفائلي بالله خير وخلي دايما يقينك ان ربنا مش حيتخلي عنك .. اتفقنا يا ست البنات "
هزت رأسها طائعة كطفلة وديعة تجبرك علي الحنو عليها
"كرم": " يالا مش عاوز مس نرمين تشتكي لي منك وتاكلي المم بتاعك كله والا حاخليهم في الشغل يحطوكي في النوتي كورنر "
وضحكت "حلا" ملء فييها جزلة كطفلة تضحك من أعماق قلبها ؛
"كرم": " خلي بالك من نفسك وحابقي معاكي كل يوم ومتخافيش من حاجة اتفقنا؟"
"حلا":" أتفقنا .. ميرسي يا "كرم" علي كل حاجة عملتها ليا بجد ؛ أحيانا فيه موقف بيبان فيه الأنسان عكس حقيقته لكن بتبان بس حقيقة معدنه وأصله في الشدة والموقف الصعب عارف مستغربتش رسالة أبويا نهائي بس يمكن كنت باتمني يأجلها ليوم واحد لاني مكنتش ح اقبل يأويني في بيته زي ما لفظني سنين عمري كلها ؛ بس هو خان أمنيتي في التوقيت بس ويمكن حالة الضياع اللي شوفتني فيها أن حصلي ده وبلد لسه جديد عليا غير مصر الموقف ده حيختلف رد فعلي للنقيض علي كل حال لعله خير "
تعجب "كرم" من تحول شخصيتها وحديثها بعد أن كانت كطفلة ضعيفة منكسرة لا حول لها ولا قوة إلي فتاة كل حرف في جملها كنصل السيف حاد وقاسي ولكنه صائب عندما يستخدم لأسترداد حق ؛ ودعها "كرم" ويدور في عقله العديد من الأسئلة عمن هي "حلا" الحقيقية الطفلة الصغيرة المنكسرة الباكية المنهارة أم تلك الفتاة الناضجة القوية... سؤال قد تكشف الأيام أجابته .. من يدري!!.