ظلام اعتدت عليه، هدوء لا يتخلله إلا دقات ساعة منتظمة، كثيرًا ما تسعدني بعض الأصوات، تأتيني متناغمة تطربني أشعر معها بالانسجام وتكسر ملل يومي، أحيانًا أشعر باحتياجي للاستمتاع قليلًا بالسباحة وبعض التمارين الرياضية علِّي أجد فيها المرح، أتحسس بيدي حبلًا يربطني، عالقًا أنا به، يومًا ما التفَّ حول عنقي، كدت أن أختنق لولا أني خلَّصت نفسي منه. بقيت طويلًا في هذا المكان يأتيني أحيانًا النعاس وأغطُّ في نوم عميق لساعات، أستيقظ لأكتشف أن حجمي قد زاد وأشعر بضيق المكان، ولكنه يحتويني ويعطيني الراحة والاطمئنان. لا بأس فربما عليَّ أن أثني قدمي، أعتقد أن حجمي لن يزيد عن ذلك أو ربما يزيد قليلًا لا أدري.
ما هذا؟ أشعر بشيء يدفعني للأمام، ما ذلك الشيء الذي أراه؟ نفق وضوء شديد في آخره وما زال ذلك الشيء يدفعني للأمام لا بد أن أقاومه، عيناي لا أستطيع فتحهما ضوء شديد ما هذا الصخب حولي؟ أذني تؤلمني، أشعر بالبرودة أين الدفء أريد الرجوع؟
أترين أن كنت واصلت الصراخ حينها أكنت عدت لما كنت؟ ربما خطئي الوحيد هو أني استسلمت للأمر وكففت عن الصراخ، أتعلمين يا سلمى كل ذلك يهون طالما أنتِ ما زلتِ بجانبي تُضحكيني، نجري ونلعب ونقضي أوقات مرحنا معًا، كل شيء يهون لدرجة أني الآن لا أفكر مطلقًا في الرجوع، أتتذكرين ذلك اليوم عندما وقعتُ في الطريق؟ كادت عظام ركبتي أن تتمزق، بكيت بشدة من الألم ورغم ذلك استطعتِ أنتِ إضحاكي في دقائق معدودة، أتتذكرين شجرة التوت؟ تسلَّقتُها دون خوف حتى وصلت لأعلاها أجمع ثمرها، كاد الفرع أن يسقط بي لولا أنك أمرتِه بالثبات فثبت مكانه حتى انتهيت، أتتذكرين يا سلمى ذلك اليوم الذي اشتكى مني فيه مدرسي لأبي؟ لم أكن أذاكر واجباتي، أنقذتِني أنتِ عندما ألهمتِني بالبكاء قبل أن يضربني فتركني وشأني بل ربت على كتفي وطمأنني وأفَلَتُّ أنا من العقاب، أتتذكرين حين أخبرتك بأني لا أحب المدرسة، أشرتِ عليَّ بادِّعاء المرض وصَدَّقتني أمي المسكينة وأبقتني بالبيت، كم كان كل شيء سهلًا بسيطًا أتتذكرين مخبأنا وطعامنا؟ جُبنًا وبيضًا وقطيطة من عجين الخبز تصنعه لنا أمي بالفرن، نأكل حتى نشبع ونخرج للمرح والغناء، أتتذكرين الإِوَزَّ والترعة أمام الدار وجذع النخلة نعبر من فوقه للغيطان؟ أتتذكرين أمسياتنا يا سلمى، جدتي وحكاويها، الخنفسة والجعران والشاطر حسن وابنة السلطان؟ بعدها تسحبني أمي من يدي لغرفتي تضعني في فراشي أستعد للنوم، تطفئ نور الحجرة وتتركني وتخرج لتبقَيْ أنتِ بجانبي، أتتذكرين تلك العجوز بالركن؟ كنت أخرج رأسي من الغطاء أراها تنظر لي فأدخلها سريعًا تحت الغطاء، لم أتذكر أنها قامت بإيذائنا يومًا ولم تتحرك هي أبدًا من الركن، لكننا كنا نخاف منها.
لم أنسكِ يومًا يا سلمى، لم أنسَ يوم مات أبي وتاهت عيناي وسط الحضور أتساءل ماذا حدث؟ لم يجاوبني أحد وأخذت أنتِ بيدي جرينا وسط الحقول لعبنا وضحكنا حتى تعبنا وألقينا بجسدينا تحت شجرة التوت نتناول ما يتساقط منها فوق رؤوسنا حتى شبعنا وغلبَنَا النعاسُ ونِمنا للصباح، استيقظت يومها على صريخ أمي وإخوتي، كانوا يبحثون عني طوال الليل.
ومرت السنوات وأنتِ تصاحبيني كنسمة صباح وكبرنا ونازعتني فيكِ أهوائي وتناجينا.
قلتُ:
- طباعك لينة كرشفة ماءٍ وملامحك هادئة كوردة في بستان، روح الدعابة لا تفارقك فتنسينني آلامي، تورُّد وجنتيك حياءً ونظرة عينيك شفاء.
قلتِ:
- حياتي معك يسيرة وأيامها خفيفة كريشة في الهواء، أملك مفاتيح عِقدها وأغزل خيوط لياليها وأصل نهارها بلهفة اللقاء.
قلتُ:
- معكِ لا أشعر بالوقت ولا أحسب لما هو آتٍ، أراكِ نسمة رطبة في يوم صيف حار، كأول قطرة من غيث بعد جفاء، قالوا عنك عقاب لمن هم مثلي من الضعفاء، شوقى إليك يكويني والبعد عنك يضنيني.
قلتِ:
- يا من كنتَ لي الأمان وبك أشعر بالاكتمال، تُرى ما هو سر هذا الجمال؟
قلتُ:
- السر يكمن في جمال الروح قبل الكيان، أنت هو السر والحلم، صوتك ناعم كآلة كمان، خصالك رقيقة والبساطة عنوانك، محياك جميل ومجلسك ينعم بالحياة.
قلتِ:
- ومن أين تبدأ الكلام؟
قلتُ:
- إن الرجل مثل كوكب في مدار، ليس من طبعه الثبات، بل إنه دائمًا ما يسعى وراء الشقاء وقربك مني يشعرني بالراحة والاستقرار، ممنون لذلك ولكني أشعر أنك لا تغنيني وأسعى للاكتفاء.
قاتِ:
- يا عزيزي، يمر بالكوكب فصول أربعة كنت أنا لك منهم الربيع، أكمل مدارك فلن تجد إلا العناء، والفراق في شرعنا خلاص، أنت قلت إني بسيطة كرشفة ماء، وأنا أقدر شغفك للجديد ولا أقبل أني لا أكفيك، أريد رجلًا لست فقط كوني أكفيه، بل أكون له الكفاية وسوف أسعى حتى يتمتم في صلاته بالحمد لبقائي في حياته للنهاية.
تركت ربيعي منذ سنين ودرت أسعى وراء الشقاء وصاحبني الأنين، أبحث لعلِّي أصل للاكتفاء. نهضت وذهبت أبحث عن ذاتي، أضعيف أنا أم تقودني ملذاتي؟ رأيتني أفقد بَوصلتي وألهث وراء السراب أشرب من كأسٍ قالوا لي أن فيها الشفاء، أشرب المزيد أدور وأدور أرقص وكلما رقصت علت روحي وسقط جسدي ودخلت عالم الفناء، رأيت أيوب بالطريق وبيده الماء، اغتسلت بللت لحيتي وثوبي وضحكت فرحًا بالنقاء، سمعت المنادي، فقت، التفت، لم أجد أيوب ورأيت من أمامي رجلًا بيده دلو ماء يُلقيه فوقي ويصيح بي: انهض فأنت ما زلت بدار الشقاء.
شعرت بالغضب يمتلكني واعتصرني الألم فصرخت، والآن وقد أضعتني في الطريق أبحث عني في العيون، وتُعكس صورتي بانكسار. وسرت أبحث عن سلمى في الوجوه، أتراها تتهرب مني أم أن قطار العمر ليس له سكة رجوع.
ومر العمر ولقيتني أنشد خريفي، وكلما التقيت بحبيب أفتش عن سلمى بداخله، براءة عينيها، دعابة روحها، جمال محياها وبساطة مجلسها. أشتاق وأيامي معها كنت إذا وقعت مدت يدها لتنقذني، تضحك فتضحكني، كانت آلامي بسيطة وعثراتي طفيفة، من بعدك يا سلمى كادت عثراتي تقتلني، التقيت يأجوج ومأجوج وكاد طوفان نوح يغرقني، ضربت ذبابة النمرود برأسي، من بعدك يا سلمى حاربت الطاغوت.
تعثرت وأيوب بالطريق، ضربت الأرض بقدمي وأطحت برأسي يمينًا ويسارًا، درت ودرت حتى دخت وكلما رقصت وصلت للتجلي ودخلت عالم الفناء وصرت أرى الله وملائكته والملأ الأعلى، ورأيتني أقرأ من عند العرش: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَاب}. اغتسلت وبللت ثوبي ولحيتي ورأسي وحين هممت لأروي ظمئي سمعت المنادي ينادي ولم يراعِ لوعتي واشتياقي: انهض يا رجل لقد أصابك الإغماء. رأيت دلو الماء بيده ورجالًا بجلاليب من حولي ما زالوا يرقصون، يضربون الأرض بأقدامهم يدورون ويدورون حتى يقع منهم من يصل مثلى للسماء، يتجلى، يرى الله وملائكته ويلتحم بالملأ الأعلى لا يرجعه إلا رجل يمسك بدلو الماء يلقي به فوق جسده ليفوق ويقوم عاهدًا على العودة مرة ثانية علَّها تكون الشفاء...
***