نظرت شباك تذاكر محطة القطار، مزدحم بالراغبين في شراء تذكرة سفر، تعالت الأصوات مطالبين الموظف بالعجلة فقد سمع نفير وصول القطار، حصلت على تذكرة بعد معاناة وركضت ألحق الركب. رأيته للمرة الأولى، شاب أنيق يسير بخطوات سريعة حريص على أناقته يبتعد قليلًا عمن حولة فيحافظ على حذائه اللامع من أن يدهسه المارة. كان يحمل حقيبة جلدية متجهًا من المدينة إلى المحافظة بالوجه البحري، بدا لي متقلب المزاج سريع الغضب فما أن ركبت بجانبه، بجسدي الممتلئ، بدأ في التأفف فأنا كثير التعرق خاصة في يوم صيف حار كذلك اليوم.
كنت متحرج وأنا ألاحظ عليه انزعاج من رائحة عرقي وحاولت جاهدًا أن أتدارك الموقف وابدأ معه حوار يحول المشهد لأُلفة بيني وبينه. نظرت له رأيت ملامحه جامدة وأحسست أنه لا يأتلف بسهولة، بدأت حوارًا عن حرارة الجو الملتهبة لكن في الحقيقة أنها لم تكن ملتهبة أكثر مما هو بداخل الشاب الأنيق، بدوت وكأني أحدث نفسي فلم أجد عند الشاب شغف الحديث ولاحظت ضيقه واقتضاب حاجبيه كلما تماديت في الحديث، قلت في نفسي:
ـ لعل الشاب الأنيق لا يحب الثرثرة، ربما يعاني مرضًا ما جعله يسافر للمدينة للعلاج وهو الآن في رحلة عودته، أو يواجه مشكلة ما، لعل زوجته غاضبة عند أهلها ويشتاق لرؤية أطفاله الذين أخذتهم معها، ربما أحدُ أطفاله يعاني حالة سيئة أو أن أمه مريضة ويسافر لرؤيتها، أو أنه يواجه مشاكل في العمل جعلتهم ينقلوه لمكان بعيد عن مدينته. ما علي، فقط أردت أن أهوِّن عليه ساعات السفر ولكنه يأبى الحديث معي فلا داعيَ لإزعاجه، أغمض عيني قليلًا لعلِّي أضيِّع الوقت في النوم ذلك أفضل من مشاهدة ذلك الشاب المتأفف بجانبي فالوقت معه مُمِلٌّ للغاية.
ثم أغمضت عيني ولدقائق معدودة ذهبت في نوم مصحوب بشخير عالٍ، أعرف ذلك من زوجتي فهي دائما ما تقول لي أني أشخر بصوت عالٍ أثناء النوم، استيقظت على فَرْك الشاب بجانبي وشعرت انزعاجه للمرة الثانية، تأسفت له، ولكن بدا عليه الضيق والقلق وازدادت حركته تدريجيًا وبدأ بالنظر من الشَّباك، وبعد قليل جاء عامل البوفيه، طلب منه الشاب كوبًا من القهوة السادة.
انصرف العامل وشاهدته يرمقني بعينه متأففًا مني، مرت الدقائق وأتى عامل البوفيه بالقهوة وهمَّ في تقديمها له ولكنها انزلقت من يده ووقعت على بنطاله فهب من مكانه واقفًا في الحال منزعجًا وصاح في العامل ناهرًا إياه بشدة.
رأيت توتر عامل البوفيه وحاولت تخفيف الموقف وحل الأزمة، طلبت من العامل الذهاب سريعًا وإحضار ماء ومنشفة لتنظيف بنطال الشاب الأنيق، الذي جلس مكانه وكان في شدة غضبه، وجدتها فرصة عظيمة لاستدراجه في الحديث، وبدأت في توجيه له بعض كلمات التهدئة:
ـ معلش دا حتى دلق القهوة خير إن شاء الله تروح مشوارك وربنا ينصرك فيه.
لم يبادلني الحديث، تابعت:
ـ يوحي مظهرك الأنيق بأنك على موعد مهم، يبدو أنك تعمل في إحدى الشركات الكبيرة.
لم يهتم بالرد فكان مازال غاضبًا، نظر لملابسه في عصبية، وصاح في:
ـ اسمع يا حضرة، أنا لا أحب اتكلم مع حد ولا أحب الرغي، ومن البداية كنت أرغب في حجز كرسي منفردًا لكن للأسف لم استطع الحصول عليه بسبب تأخري في الحجز، فإذا سمحت لا تكلمني حتى يصل القطار محطته ونفترق.
امتصصت حرجي وصمت، جاء عامل البوفيه ومعه منشفة مبللة نظف بها بنطال الشاب ورحل. عاد الهدوء للقطار ورأيته يفتح حقيبته الجلد أخرج منها ورقة وقلمًا وانهمك في الكتابة، مَدَدْت عيني أحاول رؤية ما يكتب وابتعدت فور أن التفت إلي، ولكنه بادلني الحديث، قال معتذرًا عما بدر منه تجاهي منذ قليل:
ـ أنا آسف على العصبية اللي كلمتك بها من شوية.
قلت في سماحة:
ـ ولا أسف ولا حاجه شكلك مشغول أوي، رأيتك منهمكًا في الكتابة.
ـ بالفعل، أكتب سيرتي الذاتية ولا أعرف من أين أبدأ فلدي العديد من المؤلفات والنجاحات واشتركت في الكثير من المؤتمرات وعايشت أحداثًا هامة وكان لي رأي مهم في أزمات عدة مرت بها البلاد.
ظهر علي انبهارًا به، قال:
ـ من بداية أن رأيتك عرفت من مظهرك الأنيق أنك شخصية مرموقة في المجتمع، لكن اعذرني فأنا لست على دراية جيدة بالشخصيات العامة ويشرفني أن أتعرف بك عن قرب سيدي.
ارتسم على وجهه فخر وظهر اعتزازه بنفسه جليا وهو يعرض علي أعماله الهامة في مجالات عدة، بدأ في التعريف بنفسه، قال:
ـ أعمل في البورصة ولي العديد من المؤلفات عن سوق المال والاوراق، تتهافت عليَّ الشركات الكبرى لإنقاذها من الإفلاس والأزمات وما شابه، وأسعى الآن للعمل بالبورصة العالمية.
كنت أنظر له في اهتمام بالغ، رحت أرحب به وأعربت عن سعادتي بالصدفة التي جمعتني به في القطار، سألته على استحياء:
ـ لكن قل لي، كيف حققت كل ذلك في سنك الصغير هذا؟
وكانت إجاباته الواثقة تبهرني، قال:
ـ أعمل منذ ثلاثة عشر عامًا، كنت من أوائل الثانوية العامة وتخرجت من كليتي بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف.
فتح حقيبته يبحث عن شهادة الكلية، نظر إليها في فخر قبل أن يعطيها لي لأتحقق منها.
الاسم: مختار على عبد التواب، ناجح بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف.
اطلعت عليها واستنفرت في نفسي؛ فليس من الطبيعي أن يسير رجل هام في مركز الشاب الأنيق، حاملًا شهادة تخرجه من الجامعة معه، حاولت ألا أظهر اندهاشًا، أكمل حديثه:
ـ رشحني أستاذي للعمل في شركة من أهم الشركات الكبرى التي تحمل احتياطيًّا نقديًّا ضخمًا ولكنها لم تكن طموحي، قبلت بها وظيفة في بادئ الحياة العملية واجتهدت فيها وبذكاء أصبحت أهم موظف بالشركة، لي مؤلفات عدة خاصة بسوق المال والأعمال تستعين بها الشركات الكبرى في تحسين وضعها المالي ويطلبونني لتقديم نصائحي لهم.
أظهرت إعجابًا بما سمعت منه، قلت:
ـ ليت كل الشباب مثلك يتبعون مسيرتك نحو النجاح بدلًا عن الولولة على حالهم ليل نهار،
إذًا إلى أي مدى تريد الوصول؟ ألن تكتفي بتلك النجاحات في حياتك؟
اعتدل في جلسته، خلف ساقًا فوق أخرى، قال وكأنه يجري مقابلة صحفية لجريدة مشهورة:
ـ قلت لك أريد الوصول للعالمية، فأنا الآن منهمك في كتابة سيرتي الذاتية لتقديمها في إحدى الشركات الأجنبية الكبرى التي تعمل في مجال البترول ويمتلكها أكبر مستثمر أجنبي في الشرق الأوسط، أطمح إلى الحصول على مركز مرموق بها فهي قد أعلنت عن حاجتها لمدير مالي لفرعها في العاصمة.
ـ وفقك الله، أنت مثال للشاب المجتهد الطموح الذي أحب أن أراه دائمًا، آسف لأني أزعجتك في بادئ الأمر فأنت رجل ذو فكر مشغول دائمًا كان عليَّ أن أنتبه لذلك لكن لا تؤاخذني أنت عائد من العاصمة فهل تعيش في المحافظة الصغيرة.
ـ لا، بل إني ذاهب لعمل، فقد انتدبتني إحدى الشركات الهامة هناك لمساعدتها في أزمتها وانتشالها من الإفلاس.
ـ أنا سعيد جدًّا بلقائك وأود رؤيتك مرة ثانية.
ابتسمت وفي رجاء، سألته:
ـ لا تؤاخذني، ولو أن فيها شيء من التطفل مني، تِسمحلي بكارت حضرتك؟
ـ أه، طبعًا.
فتش في جيب بدلته وحقيبته الجلدية، وقال في حسرة:
ـ آخ، آسف جدًّا من الواضح أن كروتي قد فرغت، الكثيرون يطلبونها مني، ولكني سوف أطبع غيرها بالتأكيد.
قلت وكنت أعض على شفتي، لاعنًا حظي:
ـ ذلك من سوء حظي.
ـ أستأذنك، القطار وصل محطته.
عرضت عليه خدماتي، قلت:
ـ معي سيارتي، أضعها دائمًا في جراج المحطة، وسوف يكون لي شرف إِقلالك سيدي إلى أي مكان تحب.
بدا منتشيًا، قال في سعادة بالغة:
ـ شكرًا، تنتظرني بالخارج سيارة الشركة وسوَّاق يُقلني إلى مقرهم.
اتجهنا معًا للخروج من القطار، توقفت حين لاحظت أني نسيت محمولي على المقعد، عدت ثانية أبحث عنه، نظرت أسفل المقعد وجدته بالفعل، وهممت أن انهض، لفت نظري ورقة أسفل مقعد الشاب الأنيق، قلت في نفسي:
ـ لعلها هي تلك الورقة التي كان يكتب بها سيرته الذاتية، سوف أحملها لأعطيها له لعله يحتاج إليها.
نظرت بالورقة وتعجبت فلم أجد إلا رسم كروكي لشجرة شامخةٍ فروعُها مُعوَجٍ جذعُها لم أفهم حينها مكنون الورقة ولكني تجاوزت الأمر وترجلت متوجهًا إلى مخرج القطار، بحثت عنه لأعطية الورقة لكنه كان قد ذهب.
اتجهت لعملي وبعد انتهاء اليوم، فكان شاقًا، ذهبت أتسوق من إحدى المتاجر الكبيرة لدينا بالمحافظة، اعتدّت التردد عليها أتبضع منها مخزون البيت الشهري من دقيق وأرز ولحم وبعض المُعلَّبات، استعين بابني عبد الرحمن ليحمل معي المشتريات. وقفت في الطابور أمام الكاشير بعد أن انتهيت من التسوق إلى أن جاء الدور علي، صحت في عبد الرحمن:
ـ يا عبد الرحمن ساعدني، احمل عني بعض الأشياء وضَعْها أمام الكاشير.
مد عبد الرحمن يده يلبى ندائي له.
بدأت في عد المشتريات ويضرب موظف الكاشير كود السلعة تلو الأخرى على الماكينة، وفور أن انتهى، نظر لي يبلغني بإجمالي التكلفة لمشترياتي وإذ بي أراه للمرة الثانية، إنه هو شاب القطار الأنيق.
تعرَّق وجه الشاب بينما تلعثمت أنا، أخرجت محفظتي ودفعت ثمن مشترياتي، صحت في عبد الرحمن كي يحمل معي الأكياس والعجلة، توجهت للخروج مسرعًا من المتجر دون أن ألتفت ورائي محاولًا إظهار عدم قدرتي على التعرف على الشاب الأنيق.
***