وقفت دلال حافية القدمين في جلبابها الفضفاض فوق سور برجها العالي ترفع ذراعيها في الهواء تتمايل على أطراف أصابعها يمينًا وشمالًا وشعرها الأسود من سواد الليل يتطاير من خلفها. يرى أهل المدينة دلال فيأخذهم سحر جمالها تراهم سكارى بدون خمر منهم من يتوه عقله فينسى كل ما رُوي عن دلال وينهض ليتسلل ناحية البرج يحاول تسلقه وما أن يتدارك الوصول، فتصيبه سهام الحرس التي تُرديه قتيلًا في الحال.
ولوهلة لمحت دلال رجلًا ملتحيًا وسط الحشود، لم ترَ ملامحه من على بعد، أسَرها سمرة الرجل فأحست انقيادًا له، فكانت تفكر أن الحياة ربما تعطيها شيئًا بسيطًا من الأحلام التي غافلتها دائما. أشارت إليه فراح يلتفت حوله وأخيرًا فطن نظراتها التي تسأله الصعود إليها.
ظهرت دلال في ثوبها الجديد بعد أن تخلصت من ذلك العجوز الذي أنهك قواها سنوات طويلة، ترددت كثيرًا قبل اختيارها لمعشوقها الجديد، لم يكن تأخرها تأنِّيًا، وإنما رغبة منها في نيل المتعة وهي تراهم يتهافتون عليها ويصارعون بعضهم بعضًا من أجلها. ما زالت دلال جميلة رغم كل هذا العمر وكل تلك الهموم، تعلم هي ذلك فتتمادى في دلالها، عَشِقَها الكثير من شباب المدينة ورجالُها، وحتى عواجيزها، أيقظ فيهم جمال دلال روح الشباب وعنفوانه، أما هي فكانت في برجها العالي تنتظر رجلًا واحدًا فقط عشقته وانتظرته طويلًا؛ شاب شرقي الملامح لم يكن مفتول العضلات ولا طوله 7 أقدام لا يحارب الأسود ولا يطارد الوحوش كما تحكي دائمًا القصص والروايات عن ذلك البطل المغوار الذين تعشقه النساء، وإنما أرادت دلال شخصًا عاديًّا يكفي أنه يعرف كيف يُحييها، ذلك هو من سيحقق لها مبتغاها فهو وحده من يستطيع إصلاح ما أفسده الزمان بها.
يعرف أهل المدينة دلال بصبرها وقوة احتمالها، تظل لسنوات هادئة حتى ينفد صبرها فتغضب ويُسمع صوت صريخها يكاد يفتك بالمدينة بأسرها، يستمر الصراخ لعدة أيام وأسابيع وشهور يسري بالليل ليفزَع الأطفال والنساء ويترقَّبه الرجال ويحذرونه، وفي تلك الليلة أسفر الصراخ عن زلزال رجَّ المدينة بأكملها وتمايلت معه القصور واهتز البرج وضربت الشقوق جدرانه وقام الكهل العجوز من نومه يرتجف.
استعدت دلال بعد تلك الليلة لاستقبال حبيبها، الذي أُبعد عنها لسنوات طوال، هي تلك السنوات التي أنهكتها وكانت في كل ليلة تنتظر فارسها الشجاع ليخلصها ولكنه أبدًا لم يأتِ فتصرخ مستغيثة.
راحت تتزين وسارت قاصدة شرفة حجرتها لتقف فوق سور برجها العالي يترقبها أهل المدينة ترفع ذراعيها في الهواء وتتهادى بخفة على أطراف أصابعها يطير شعرها من ورائها وتتمايل بحركات راقصة.
كان خوف أهل المدينة من دلال رهبة من شيء خفي غير ملموس لا يدركه العقل، فقد عُرف عنها أن جمالها له تأثير السحر على ضحيتها، تناديه دلال فينسى كل ما قيل عنها ويذهب إليها فلا يعود أبدًا، ويُعثر عليه بعد أيام إمَّا غريقًا وقد حدفه النهر على حافته أو تائهًا في المدينة فاقدَ العقل مجنونًا أو يختفي فلا يعرف أحد أين ذهب.
وكانت دلال لمن يقترب منها لعنة، لم يتوارَ الراغبون فيها عن محاولة الذهاب لبرجها العالي والهروب من أعين قائد الحرس وأسهم جنوده التي تصيب كل من يتسلل الحديقة ويحاول تسلق البرج والصعود إليها، أما هي فلا ترغب إلا في واحد فقط، ذلك الفتى شرقي الملامح الذي طال غيابه.
يقول أهل المدينة: إن دلال لا تسمح لأحد بكشف أسرارها فهي تظهر في البداية مسالمة، لا تبدِ أي مقاومة، وإنما تعطي معشوقها ما أراد حتى تتملك منه ثم تنتقم ولا تتركه إلا جثة هامدة أو يختفي فلا يعود ثانية.
وجاءت الليلة الأولى:
وهي إحدى الليالي المقمرة، الليلة الأولى من نصف الشهر العربي، ظهرت دلال بجمالها الأخاذ فوق سور برجها تتمايل كعادتها، حين أشارت له، اختارته من وسط الحشود المجتمعة أسفل البرج، استطاع الرجل التسلُّل داخل الحديقة والوصول للبرج وتسلقه حتى وصل لأعلاه دون أن يلمحه صفوان، قائد الحرس، وجنوده، وصل الرجل لدلال. أخذته من يده لتدخل به غرفتها وتقفل النافذة، تلفَّت حوله ليجد نفسه في حجرة تغطي الستائر جدرانها يسيطر عليها الإضاءة الهادئة بمصابيح مثبتة بالأركان، الأرض مفروشة بسجاد منقوش بمنتصفها مخدع بأعمدة نحاسية وستائر بيضاء أمام المخدع يوجد صينية مستديرة من النحاس بأرجل قصيرة يوضع عليها ما لذَّ وطاب من الطعام يحيط بها وسادات مغطاة بأقمشة ألوانها زاهية.
هام الرجل في جمال دلال وسحرها ونسي ما قيل عنها من قتلها لعشاقها فلم يرَ إلا حسنها، وسار لا يحوِّل طرف عينيه عنها وكانت هي تتكلم وهو صامت يسمعها أو لا يسمعها سواء، فها هو قد سُحر، يصله صوتها كأنغام آلة موسيقية هادئة.
وعند الفجر لاحظ صفوان غياب دلال طوال الليل، فلم تكن فوق سور البرج كما اعتادت كل ليلة، كما أنها لم تبرحْ غرفتها من أول الليل وشكَّ بوجود أحد معها، فالغرفة مضيئة، كما أن صوت دلال يتحدث بالرغم من أنه لا أحد يرد عليها وفوجئ صفوان بعد الفجر بباب غرفة دلال يُفتح وخرجت منه دلال وخلفها الملتحي وقد ولَّته دلال إدارة شؤونها من اليوم، وعلى قائد الحرس أن يمتثل لأوامره.
لم يرُق لصفوان ما سمع، وأحس بغيرة في قلبه من الملتحي، الذي خدعه وتسلل من الحديقة وتسلق البرج ووصل لدلال دون أن يراه هو أو أيّ من جنوده. وبدأ صراع خفي يدب بنفس صفوان، تسائل كيف سوف يتلقى أوامره من شخص من عامة الشعب؟ وهو القائد العظيم، فذلك الفلاح بمظهره الرديء وجلبابه الرثِّ لا يعرف كيف يلبس ولا يأكل، لا يليق بدلال ولا تنفع له حياة الأسياد، بل هو خلق من العامة عبْدًا، لم يكن يحلم بأكثر من نَيْل عيشه من فتات البرج.
شُغل صفوان وراح يفكر، ماذا يفعل وصعود الرجل للبرج كان بإشارة من دلال؟ شهد عليها أهل المدينة بأكملها ووجود الرجل في غرفتها أصبح حقيقة يتعامل معها خدم البرج والحاشية والمقربون من دلال، وألحَّت عليه فكرة التخلص من الرجل.
قيل إن صفوان ما ترك للرجل فرصة إلا وأحرجه وسط العامة وأمام دلال، أوهمه أن أوامره تنفذ وأنه يدير البرج داخله وخارجه على غير الحقيقة، فالذي يدير شؤون دلال داخل البرج وخارجه بالفعل هو صفوان.
افتعل صفوان الأزمات التي كَلَّ منها الرجل، وازدادت الأقاويل عمَّا يفعله بالبرج. لم يطمئن الملتحي لنظرات صفوان التي كادت أن تقتله، مالَ على دلال وأخذ رأيها بشأن تغيير قائد الحرس، الذي لن ينسَ خداعه له ووصوله إليها رغمًا عنه، لم تُبدِ دلال أي اعتراض بل باركت الرأى.
حاك الرجل وقيعة صغيرة بين صفوان ونائبه، ووعد النائب بنيل منصب قائد الحرس مكان صفوان إذا ما خلَّصه منه، وبالفعل لم تغرب شمس اليوم إلا وقد اختفى صفوان من البرج وعُيِّن بدلًا عنه نائبُه ضرغام..
توسَّم الرجل خيرًا في ضرغام، قائد الحرس الجديد، ولكنه لم يستطع تقدير سقف طموحاته، وإلى أي حد سوف تقف.
وجاءت الليلة الثانية.
بدأت ليلة أخرى قمرية، جلس الرجل على الوسادة وأمامه أطباق الطعام والفاكهة على الصينية النحاس وبجانبها كؤوس الشراب، تتراقص أضواء المصابيح في أركان الحجرة لتصنع تلك الإضاءة الهادئة يتراقص معها خيالات الستائر على النافذة، تجلس دلال بجانبه وتحكي ما أصابها كل تلك السنوات السابقة، كشفت له عن سر صراخها الذي كان يدوي في المكان، ويستمر بالأيام والأسابيع وأحيانًا بالشهور، قالت: إنه من يوم أن أخذ صفوان زوجها لمكان بعيد وقتله بوحشية، وهي لم تعرف أبدًا طعم الراحة والأمان، فمن يومها وهي في شقاء تام، لم يستطع أحد الاقتراب منها إلا وقتله صفوان، ولا يسمح لأحد بالفوز بها إلا إذا كان هو نفسه من أتى به إليها.
حكت عن الأمير صاحب المقام والذي سكن القلعة ولكنه لم يستمر طويلًا فقد اختفى في يوم وليلة، قيل إن صفوان أطعمه للضباع والنمور الجائعة بالبر الآخر المهجور.
وفي ليلة سوداء قاتمة جاء لها بفتى أهوج عشقها لدرجة الجنون، كان يتخلص من أي أحد يحاول الاقتراب منها ليبقى هو بجانبها للأبد، حتى أنه قتل صديق عمره لشكه في سلوكه، مات الفتى الصديق بسنوات قليلة بعد أن تسبب لها في قطع إصبع من أصابع يدها- وأشارت بيدها التي بها الإصبع المقطوع- كما تسبب في كسر ذراعها التي التأمت عظامها بعد سنوات، ولكنه يؤلمها حتى الآن قالت أنه كان ساديًّا غبيًّا، حدث كل هذا على مرأى ومسمع من صفوان الذي تركه يفعل بها ما يشاء. تنهدت دلال وهي تقول: عشقني الفتى ولم يمت، ومات عندما عشق نفسه أكثر مني.
ظهرت الأقاويل بعد موته بسنوات تقول: إن الفتى مات مسمومًا، وتحكي أن صفوان هو من وضع له العقرب في سريره أثناء نومه.
قضت دلال تلك الليلة مع الملتحي من أحلى ليالي العمر، وقف أهل المدينة ينظرون للنافذة المضاءة بأعلى البرج ينتظرون صراخ دلال، وهلاك الملتحي الذي أسره جمالها ولكنهم سمعوا، بدلًا عن الصراخ، صوت الموسيقى يسري وخيال دلال على النافذة ترقص، ترفع ذراعيها لأعلى وتنزل بهما لأسفل، تطير في الهواء بحركة دائرية وتركع على ركبتيها وتتطاير خصلات شعرها من ورائها.
خفت صوت الموسيقى، وجلست دلال بجانب الرجل لتستريح وتكمل عليه باقي حكايتها، وكان الرجل في كامل نشوته وهيامه، بدأت دلال في قص ذكرياتها.
حكت له عن الأسمر الذي عشقته وجاء ليصلح ما أفسده الفتى، قالت:
- أحبني الأسمر وأعطيته ما لم يكن يحلم به، داوَى جراحي ولم أنتظر يومًا الخيانة منه فقد عشق غيري، فتاة شقراء ذات عينين خداعتين تبثُّ سمها ليل نهار بالبرج والمدينة بأسرها، استطاعت بمكر ودهاء أن تُوقعه في حبها، اهتم بعشيقته وترك نار الغيرة تأكل مني أنا دلال التي يتقاتل عليها العشاق، أمرت صفوان قائد الحرس بالانتقام لي بأبشع طريقة يشهدها أهل المدينة أجمع، فما كان من صفوان إلا أن نفذ رغبتي، وكان العيد القومي للمدينة قد اقترب موعده، وتم التحضير لحفل كبير، وأمر صفوان المنادي بالصياح في المدينة كلها أزقتها وحواريها وشوارعها حتى يجتمعوا في اليوم الموعود لمشاهدة الحفل الذي سيحضره كبير البلاد.
جاء يوم الحفل يوم سطعت فيه الشمس بوضوح، وجلس الكبير على كرسي عالٍ تم تحضيره له من قائد الحرس بنفسه ليشهده أهل المدينة بأكملها، وفي منتصف الحفل والكل منتشٍ يرقص ويغني والحبيب جالس على كرسيه، فوجئ بسهام تأتيه من كل اتجاه، رأيته يقف ومازالت قدميه تحملانه والأسهم تعرف طريقها إلى جسده حتى جاءه صفوان، نظر إليه وعيناه تتسعان عجبًا مما يرى، وبات يستغيثه فأغاثه صفوان بغدر سيفه، انتزعه لينزل به على رقبته فطارت رأسه في الهواء بعيدًا لتسقط وسط الحشود التي كانت ترقص.
سقط الرأس على الأرض وفزع الجميع وتوقف الرقص والغناء وابتعدوا عن الرأس المقطوع، وسرعان ما اقتربوا منها، التفوا حولها في شكل دائري يحققون النظر في الرأس الملقاة على الأرض وفور تعرفهم عليها ظهر عليهم الحزن وأصابتهم الشفقة على الحبيب الأسمر.
صمتت قليلًا تمسح دمعة تساقطت من عينيها، أكملت:
- كانت صرخاتي في تلك الليلة مدوية واجتمعت كل مشاعري المتناقضة فخرجت من نافذة حجرتي لأقوم برقصتي فوق السور كعادتي وكانت خطواتي حزينة، نظرت للأسفل لأجد الأعين تترقبني، حزنت واتشحت بالسواد لسنوات طويلة، لم أخرج من حالة الحزن أبدًا مع العجوز الذي أنهك قواي وأضعف جسدي.
علا صوت الموسيقى ثانية، وظهر على النافذة بأعلى البرج خيال دلال ترقص وتتمايل مع خيالات الإضاءة التي تعلو وتخفت، ظهر ظل الرجل من خلفها تجره دلال بوشاح يحيط بعنقه وتمسك هي بطرفه، تتمايل يمينًا وشمالًا ويتمايل معها بخفة وهيام، يظهر ظل الرجل على النافذة لأهل المدينة مخمور سكران وفي الحقيقة أن جمال دلال قد أسكره.
جاء نهار يوم جديد، ولم تتوقف المؤامرات باختفاء صفوان، وإنما ظهرت القصص والأقاويل، عن الملتحي الذي سكن البرج وكان من عامة الشعب، قيل إنه في ليلة ونهار أكل كل الطعام الموجود بالبرج والذي كان يعد للولائم والضيافات، قيل إنه أمر بذبح كل طيور البرج من بط وحمام وعصافير الزينة والبغبغانات وأكلَها بعد أن أمرهم بصنع تاج له من ريشها الملون.
لم يبالِ الرجل بتلك الإشاعات وبدا وكأنه لا يرى شيئًا ولا يسمع أحدًا إلا دلال، لم تمر تلك الليلة على ضرغام مرور الكرام، فكان صوت الموسيقى يُدمي قلبه، وضحكات دلال وخيالاتها على النافذة وهي ترقص، تشعل غيرته وظل طوال الليل ينظر لنافذتها المضاءة لا يحوِّل عينه عنها.
انتشرت الإشاعات التي روجها ضرغام، بين ساكني البرج لتفتح الأبواب وتخرج لأهل المدينة، فقالوا إن الرجل نسي مشاكلهم وهمومهم وسكِر بجمال دلال وسحرها، قيل إنه أصبح ينام على ريش النعام ويلبس من جلود النمور والفهود، كما أنه يترك عشيرته تعبث بحديقة البرج كيفما تشاء، بل سمح لهم بالكثير من المكافآت والمزايا والأوسمة وتركهم- أهل المدينة- للفقر والجوع.
أشاع ضرغام في المدينة أن الرجل يُفشي أسرار البرج ويجلب الأعداء، قال إنه بالفعل قد باع الحديقة الخلفية لأحد الجيران، كما أنه أتى بعشيرته نصبوا الخيام بحديقة البرج الأمامية وأقاموا بها ، الأمر الذي أفقد البرج هيبته ومكانته، فقد أكلوا الأخضر واليابس بها، وقضوا على مخزون الذرة والقمح الذي يُخزن ليطعم منه أهل المدينة لعام كامل، وقتلوا الحيوانات الموجودة بحظيرة البرج، من خيول وبغال وحمير، سلخوا جلودها وأكلوا لحومها وعملوا على تقطيع الشجر النادر بالحديقة لحرقه والتدفئة عليه أثناء الليل وزرعوا الجديد والبصل بدلًا من نباتات الزينة، وبنوا الفرن للخبز بدلاً من النافورة التي كانت تزين المكان، وما زاد الأمر هياجًا، هو ما قيل عن أن البئر الموجودة بالحديقة ،ويُسقَى منها أهل المدينة، جاء بالمعدات لردمها.
سار ضرغام بالبرج، ينشر الإشاعات عن الرجل طوال اليوم بين الخدم والجنود حتى صدقوها، فعلى الرغم من أن أعينهم لم ترَ بئرًا رُدِمت، ولا بطًّا أُكل، ولا يزين رأس الرجل تاجٌ من الريش الملون لطيور الزينة، إلا أنهم تناولوا تلك القصص والحكايات في أحاديثهم على مدار اليوم حتى صدقوها ونشروها بين أهل المدينة خارج أسوار حديقة البرج، بل زاد عليها الأهالي من خيالهم الكثير من الخرافات، فقالوا إن شكل الرجل أصبح غريبًا فقد نفخ جسده كالبالون، ونما له ذيل وقرون، وأصبح لا يبرح مكانه بجانب دلال، يأتي له الخدم بالطعام والشراب في حجرتها.
وحين كان كل من بالقصر يتأمر عليه، كان الرجل لا يفكر إلا في ماذا كان وكيف صار، يستعيده بعقله ويردده على نفسه:
- لم أشعر يومًا بهذا الاهتمام من أحد قبلها ولم أتخيل أن أكون أنا من تُشاور لي في تلك الليلة وسط الحشود، أنا المنبوذ في مدينتي، لم يشعر أحد يومًا بآلامي أو بانكساري، بل كان كثيرًا ما يصيبهم مظهري بالاشمئزاز والقرف، لم يكن حضوري يسعدهم وإنما كان اختفائي يعني لهم الرضا والهدء، حاولت كثيرًا الاقتراب ولم أجد منهم إلا اللعنات والسباب يدفعون بصغارهم لإلقائي بالحجارة وإجباري على الابتعاد، كنت دائمًا ما أختبئ بعيدًا قاصدًا جبلًا عاليًا أرى منه دلال في نافذة برجها العالي أشاهد خطواتها فوق السور وتطربني أصوات الموسيقى التي تسري ليلًا في الخلاء، وفي ليلة بهية من لياليها طربتُ حد الانتشاء وسقطتُ في أعماق النفس حد المغشي علي، ورأيتها تقترب مني وكأن الريح تحملها حتى أتت بها إلي، وعندما هممت أن أمسكها اختفت فكان السراب.
استيقظت ونظرت للنافذة المضاءة بأعلى البرج وما زالت هي هناك ولم أشعر بنفسي إلا وأنا أسير وسط الحشود أتقدم لأول الصفوف وإذ بها تلمحني من بعيد تصيبني نظراتها وكأنها تسألني أين كنت كل تلك السنين؟! وحين كانت تدور فوق السور يتطاير شعرها في الهواء ويظهر عليها نشوة اللقاء أشارت إليَّ، قالوا كيف نأمن لمن كان في الجبل خفيًّا، لم أُلقِ لكلماتهم اهتمامًا فقد أشارت إليَّ دلال وهذا يكفي، تركت الجميع وتسللت الحديقة وتسلقت البرج وها أنا الآن في حجرتها ليس حلما ولن تختفى هي كالسراب.
وجاءت الليلة الثالثة...
وكانت آخر الليالي القمرية في الشهر العربي، كشفت دلال للرجل عن خوفها وقلقها الدائم منذ اختفى العجوز، فكان صفوان يحسب لكل شيء ويعد لكل شيء دون أن يرجع لأحد أو يُطلع أحدًا على أسرار البرج عقد الصفقات وحاك الموائمات لتظل هي تحت قيادته حتى جاء هو وخلصها من قيدها الثقيل.
ما زالت الليلة في أولها وما زال الرجل يستمع لدلال، تحكي عن الأيام التي قضتها مع العجوز ولياليه المملة الباردة كالثلج، تشكو أنه لم يكن يبالي بشيءٍ، لم يهتم لأمرها، ولم يكترث لمشاعرها، فلا يثور لأوجاعها ولا يحزن لآلامها، أما أبناؤه من زوجته الأولى، فكانوا يعبثون بكل شيء بالبرج، أثاثه وتحفه ودواليبه، حتى أن أهل المدينة لم يسلموا منهم، قالت إنها سئمت منه ومن أبنائه ولم تفرح يومًا معه حتى تعالت أصوات أهل المدينة يستغيثون ويطالبون بإنزاله من البرج، فقد قتل أبناءهم جوعًا ومرضًا وقهرًا، أردفت دلال:
- كدت أطير فرحًا وأنا أرى قائد الحرس يستجيب لصراخي ولغضب أهل المدينة الذين كانوا يبيتون أمام البرج بالأيام والليالي منتظرين نزول العجوز وأبناءه. رأيت صفوان يكبل العجوز ويأخذه لمكان غير معلوم، قيل إنه وضعه في كهف بالجبل يقف على بابه اثنان من الأسود، ينهشون لحم من يحاول الخروج منهم، وقيل إنه يحبسهم في سرداب تحت الأرض بسبعة أمتار، ومنهم من قال إن قائد الحرس ألقى بهم في جزيرة بعيدة مهجورة تحيطها المياه من كل اتجاه، قال آخرون إنه ألقى بهم في البئر. لا أحد يعرف حقيقة مصيرهم ولكن على أي حال، فرحت المدينة بأكملها باختفائهم وإزاحتهم عن البرج، ونصبت الأفراح ودقت الطبول واستمر الرقص والغناء الليلة بطولها حتى طلعت شمس الصباح.
أكملت دلال:
- وبعد تلك الليلة بشهور، نشب الكثير من الخلافات، بين الخدم والحرس والعاملين بالبرج في الداخل، والأهالي بالخارج، فقد ظهر الفساد على السطح وتدنت الاخلاق فرأيت من برجي العالي الكل يأكل بعضه، القوي يضرب الضعيف والصغير يسب الكبير والأيادي تتشابك متناحرة والجوع والفقر ينهش في العظام، فكثر النهب والسرقة، رأيت الأخ يقتل أخاه في مشاجرة على الميراث والأم تُلقي بابنها في البئر بعدما جف لبن ثديها ولم تجد ما تطعمه به، والرجل يضرب أمه وضاع الأمن والأمان وانتشرت الخرافات والسحر والشعوذة بينهم.
وفي ظل كل ذلك انتظرت من يخلصني ويخلص المدينة مما جرى بها، ولكن وفي كل مرة يتقدم أحدهم لتقديم الخلاص يحيك ضده صفوان الخدع والمؤامرات فيبعده عن البرج، وإن لم يفلح يسلط عليه الجنود ليصوبوا نحوه سهامهم، حتى جئتَ أنت واستطعت بقوة وذكاء الإفلات من أعين وسهام جنود صفوان، والتسلق والوصول إلى هنا.
تابعت:
- ولكني ما زلت قلقة، فأنا أعلم أن صفوان شرس ولن يستسلم بسهولة فبالرغم من اختفائه إلا أني أشم رائحته في دهاليز البرج وأكاد أراه يدير الدفة من وراء الستار ولا أمان لنائبه...
وهنا خرج الرجل عن صمته وقال لها أن ما فات لن يعود، فقد أتى بعشيرته لتحميه من غدر صفوان قائد الحرس السابق ونائبه ضرغام الذي هو القائد الجديد. وعدها بحسن المعاملة ورد كرامتها التي أهدرت، وعدها بأن يصلح لها البرج الذي ساءت حالته ويحافظ على مياه البئر من التلوث وقد أتى بالفعل بالمعدات والعمال الذين يعملون الآن على تنقية مياه البئر وتحليتها بل إنه سيحفر بئرًا جديدة بجانب القديمة ليكفي أهل المدينة الذين زاد عددهم، قال إنه أمر بزراعة رقع أكبر من الأرض بالذرة والقمح لتحقيق الاكتفاء لأهل المدينة، حتى لا يموت أولادهم جوعًا وأنه سيعد جيشًا من أبناء المدينة من الشباب، ليحميها من الأعداء وسيعمل على تدريبهم على الفروسية والقتال وفنون الحرب والتخطيط، وَعَدها بالاهتمام بالصحة والتعليم وتوفير الطب والدواء.
وأثناء إلقاء الرجل وعوده على دلال كان ضرغام بالخارج يُلقيَ بأذنه على باب الغرفة يسترق السمع، فأسرع في الحال يأمر الحراس بفتح باب الحديقة للحشود الغاضبة بالخارج من أهل المدينة الذين أهاجتهم الشائعات والأقاويل وصدقوها، وخاصة أن الرجل لم يظهر ولم يعمل على تكذيبها منذ أن دخل البرج، فتح الحرس الباب على مصراعيه وإذ بالناس يأتون أفواجًا، يهرعون ناحية البرج ينظرون للنافذة المضيئة بأعلاه، منهم من حاول تسلقه دون جدوى يعلو صوتهم بالهتافات المطالبة بإنزال الرجل مطالبين ضرغام قائد الحرس بتخليصهم منه ، قالوا عنه أنه خائن بشع منفوخ كالبالون ذو ذيل وقرون ،عابوا عليه أنه نسي همومهم وسكِر بجمال دلال وسحرها.
سمع الرجل من داخل غرفة دلال الأصوات الغاضبة بالخارج فهمَّ لفتح الباب، وإذ بكرة ملتهبة من النار تكسر النافذة ، دخلت الحجرة وكادت أن تحرق الأرض لولا أن أطفأها الرجل بالضرب عليها بقدميه، وخرج مسرعًا يطل من سور البرج ليرى الحشود وقد اجتمعت ضده غاضبة يصرخون ويشعلون الحديقة ويضربون بأيديهم قطع الصفيح فتصدر صوتًا مزعجًا، حاول الرجل فهم أسباب غضبهم، اتهموه بأنه لا مكان له في البرج فهو غير ذي صفة لا يليق بدلال بل يستحقها من هو أعظم منه وأبهى، تعجب الرجل وأشار لهم بالتزام الهدوء كي يسمعوه ولكنه لم يجد استجابة لمطلبه، فعلا صوته متسائلًا:
- كيف ليس لي صفة! وأنا من أشارت لي دلال واختارتني من بينكم في تلك الليلة القمرية أنسيتم؟ أم استخف بعقولكم من هو ذو طمع فأطعتموه.
حاول الرجل الرد على الإشاعات التي ألقاها على مسمعه الأهالي، ولكن دون جدوى، بل إنه وقف فوق السور ورفع عمامته من فوق رأسه ونزع عباءته ورماها على الأرض ليكشف لهم جسده الذي بلا ذيل ولا قرون، رفع يديه في الهواء يدور يمينًا وشمالًا يلتف للخلف وللأمام، كاد أن يفقد اتزانه ويسقط فلحق بنفسه، وأعاد دورانه فوق السور في شكل بهلواني، علا صوته، قال:
- أنا من اختارتني دلال أنا من أشارت لي أنا الحلم والأمل والمستقبل.
ظل يكرر كلماته بشيء من الحماسة، ولكن لم يسمعه أحد من الحشود المجتمعة بأسفل البرج، ولاحظ أنهم قد صُمَّت آذانهم وكُفَّت أعينهم، فلم يروا إلا ما أراد قائد الحرس أن يروه ولم يسمعوا إلا ما أرادهم أن يسمعوه ويصدقوه من أكاذيب وافتراءات عليه، حاول الرجل تهدئة الحشود التي تشاجرت مع من هم من عشيرته داخل الحديقة ولكنه جاء متأخرًا، واستغل ضرغام الصراع الدائر بالحديقة، وصعد لأعلى البرج وسار بالردفة قاصدًا حجرة دلال، وصل للنافذة ومشى على أطراف أصابعه ليقترب من السور، وحين كان الرجل يلتفت ويؤدي حركاته البهلوانية فوجئ بضرغام الذي عيَّنه بنفسه خلفًا لصفوان ووثق فيه، يقف أمامه ويزج به من فوق سور البرج العالي ليهوى جسده من أعلى وعيناه تتسعان ناظرتان بدهشة وحيرة لضرغام وفي ثوانٍ يرتطم بالأرض ، عيناه معلقتان بالفراغ وشفتاه تتحرك بكلمات حفظها ورددها:
ما كان البعد زهدًا بيننا
وكيف أزهد فيكِ وأنت أنا
ولكنَّها الأقدار خطت أمرنا
فضاق على وُسع الزمان لقاؤنا
وقف ضرغام بأعلى البرج ينظر جسد الرجل القابع وسط بركة من الدماء، كان يحدث نفسه:
قوة خفية هي تلك التي دفعتني لما فعلت، كنت أشعر دائمًا بشيء ما داخلي يحركني، أنا من حملت روحي على كتفي أترقب يومي وسرت بين الناس غدي ليس بملكي، أنا من يستحق الجلوس على عرشها، تواردت عليَّ الرؤى الواحدة تلو الأخرى ورأيتني أملك ما لم يملكه أحد غيري، كثيرًا ما طمعت في الفوز بها وطمعي هو العدل بعينه، وكنت أعرف أن السيطرة على عقول هؤلاء الأغبياء بالخارج تأتى من خواء بطونهم فخبأت مخزون القمح والذرة ورحت أروي عن الرجل الحكايات التي كانت تنتشر كالنار في الهشيم فتشعل قلوب الجائعين فلا يترك لهم الجوع فرصة التفكير بعقولهم، بل زادوا عليها من خيالهم، وتركتُهم يأكلون بعضهم البعض حتى أتيحت لي الفرصة لتحقيق ما حلمت به:
أنا المتيم بأرجاء المكان
أنا المُداوي لجروح الزمان
أنا من يستحق دلال
توقف الصراع بين الأهالي، وتجمعوا حول جثة الرجل الهامدة على الأرض بلا حراك يحققون النظر، يبحثون فيه عن ذيل وقرون والتاج المصنوع من ريش الطيور ينظرون لملابسه التي قيل إنها من جلود الفهود والنمور، لم يجدوا أيًّا مما سمعوا، رأي ضرغام الحشود بالأسفل تحتشد حول جثة الرجل، وأراد أن يتشفى فيه ويتأكد من موته. ترجل مسرعًا على درجات سلم البرج حتى وصل للحديقة وأخذ يخترق الحشود إلى أن وصل للجثة الهامدة على الأرض غارقة في الدماء، ألقى نظرة على وجه الرجل فوجده مبتسمًا، مات الرجل ولم يترك لضرغام فرحة التشفي به بابتسامة تعمدها على وجهه قبل انسحاب روحه منه.
نظر قائد الحرس للجثة في ريبة وانتابته رعشة بجسده، فقد كان الرجل مبتسمًا وعيناه معلقتان بأعلى، وكأنه ينظر لشيء ما، رفع القائد ضرغام رأسه ومد نظره لمكان امتداد نظرة الرجل، ليجدها هناك، دلال، في ثوبها الشفاف تمشي فوق سور البرج تتهادى على أطراف أصابعها ترفع ذراعيها في الهواء تؤدي حركات راقصة في خفة وهيام، وشعرها الأسود سواد الليل يتطاير من خلفها تنظر لضرغام، وتشير له بيدها ليلبي هو النداء ويهم ليصعد البرج لدلال.
***