ظهر النيل بجمال طلته عند الشروق، والنوادي المقامة على ضفته، والأبراج العالية في الجهة المقابلة، والسيارات الفارهة تقف أمام الفنادق ذات الوجهات الزجاجية. كان حسن يدفع من أمامه عربة البليلة وحمص الشام، يقف بها يوميًا على كورنيش النيل، عبر الطريق، دخل شارع جانبي ثم انحرف بالعربة لتبتلعه حارة متفرعة منه. انحنى يمينًا فيسارًا قاصدًا مسكنه خلف الأبراج العالية على النيل.
مر بالمقابر على يمينه، بادل التحية مع المارة، لا يحمل حسن نفسه عبء رفع عينه ليرى وجه من يلقي عليه بالسلام، يكتفي بهز رأسه ويسير في طريقة غير مبالً، مر ببعض ورش السمكرة والكاوتش وقطع الغيار المستعملة للسيارات، قرب نهايتها ظهرت عشش الصفيح ومباني قديمة بمساحات صغيرة ضيقة من الداخل تتكون من طابق أو طابقين على الأكثر، تتقارب البيوت بشكل كبير، يعرف السكان حكايات بعضهم وما يدور بداخل الحجرات ووراء الأبواب التى لا تحجب الأصوات، يُقحمون أنفسهم في حوارات بعضهم البعض دون غضاضة من الجار أو قصد في التنصت من الآخر وكان الفاصل بينهم قد ذاب مع مرور الزمن.
ترك حسن العربة أمام المنزل، ودخل ليجد زوجته سعاد نائمة على الأريكة بوسط الدار، ألقى بجسده على الأريكية المقابلة لها، أسفل النافذة، راح في نوم عميق، لم يُقظه منه إلا صوت أم سيد جارتهم تصيح في الصبية وتسبهم كي يبتعدوا عن بيتها، وكان الوقت قد قارب على أذان العصر.
آذن الفجر، وكانت ليلى في حجرتها تتصفح موقع الفيس بوك على محمولها، سمعت صوت أبيها يعلو ويصيح في أمها التى لم تتذكر، ليلة أمس، أن تنقع حَبَّ حمص الشام، يقوم هو بتسويته عندما يستيقظ من نومه، آخر النهار وقبل أذان المغرب بقليل، يحمل القِدر على عربته، بجانبه قدر البليلة وأطباق بها ترمس وبعضالتسالي، يبيعها للمارة والحبيبه على كورنيش النيل.
واصل حسن الصياح وإلقاء اللوم على زوجته التي ستضطره لوضع الحَبِّ على النار دون أن يُنقع من الليل، وسوف يأخذ وقتًا أطول في التسوية مما يتسبب في إهدار الغاز الموجود بالأنبوبة والتي يتعدى ثمنها السبعين جنيهًا الآن.
تعللت زوجته، قالت انها رجعت البيت ليلة أمس مرهقة بشدة، فهى تعمل في بيت إحدى السيدات الثريات التي كانت تستضيف أمس أحد الشخصيات الهامة في المجتمع، ويظهر على شاشة التلفاز، ولكنها لا تتذكر اسمه حاليًا، قالت سعاد أن الضيف كان يظهر أقصر في الحقيقة مما تظهره الشاشة لهم وأقل حجمًا، اصطحب معه زوجته وهي في غاية الجمال، ذات شعر ذهبي وأظافر طويلة مطلية تضع المساحيق على وجهها وترتدي القصير والمكشوف، قالت أنها عندما جاءت ليلة أمس لم تشعر بنفسها من التعب والإرهاق، ألقت بجسدها على الأريكة وذهبت في نوم عميق، واستيقظت بالصباح الباكر لتذهب للسيدة، ترتب لها البيت بعد سهرة أمس، وحين انتهت من عملها، عادت إلى البيت وما زالت لم تغير حتى ملابسها.
لم يقتنع حسن بمبررات زوجته سعاد، ظل يصيح، جاء صوتُ جارتهم العجوز من شبَّاك حجرتها المطل على الحارة ويكشف بيت حسن من الداخل، تنهر حسن قائلة:
- ما خلاص ياخويا يعنى نسيت التشريفة.
- خليكِ انتِ قي حالك يام سيد.
- حالي أحسن من حالك.
قاطعها حسن مغيرًا دفة الحوار:
- سيد لسه سايبك وبيتنطط في القطارات؟ مش هيرجع إلا لما يقع وتنكسر رقبته.
أشاحت أم سيد له بيدها، نظرت من شبَّاك حجرتها بعيدًا على مدى البصر، تنتظر عودة سيد وتشتاق لرؤيته فقد غاب هذه المرة على غير العادة.
جلست ليلى في مخدعها بالحجرة التي تضمها هي وإخوتها، تتصفح موقع الفيس بوك من شاشة جوال، اقتنته من أحد الباعة الذين يعملون في أجهزة المحمول المستعملة والمسروقة، تستطيع من عملها، مشرفة حافلة تابعة لمدرسة خاصة، توفير ثمن باقة شبكة الانترنت تمكنها التواصل من خلال مواقع التواصل الإجتماعي.
دخلت موقع الفيس بوك، بعد أن علمتها صديقة لها، كيفية انشاء حسابًا خاصًا بها على الموقع، ملأت بياناتها والتي كانت مغايرة للواقع ولا تعبر عن حقيقتها المعيشية، في خانة العمر كتبت بعد تفكير قليل، خمسة وعشرين عامًا بدلًا من اثنين وثلاثين، لم تفكر في مكان السكن، على الفور كتبت، المعادى، أضافت إليها كلمة (أبراج) ليصبح مكان السكن، أبراج المعادى. لم تكتفِ بذلك بل امتد طموحها في الخداع، إلى أن تضع بخانة المؤهل الدراسي حروف“AUC” أضفى ذلك عليهارونقًا وبهاءً واحساس بالفخر بنفسها، فأحبت ليلى الإفتراضية الموجودة على موقع التواصل عن تلك الحقيقية التي تخجل من تقديمها للعالم الجديد الذي اقتحمته عن طريق محمولها.
اسندت ليلى رأسها على الوسادة، وكانت معلقة عيناها بالسقف، أتتها خيالات طفولتها البائسة، دائما ما تنتظر الأفضل وتصبر على حياتها، تذكرت كيف كانت تعمل منذ نعومة أظافرها في مجالات عدة، تقف مع أبيها تبيع حمص الشام والترمس على الكورنيش، وأحيانًا تتركها أمها في المنزل تعتني بإخوتها الصغار، وكثيرًا ما كانت تأخذها معها تساعدها في خدمة البيوت، إلى أن أصبح عمرها مناسبًا للعمل، مشرفة حافلة لإحدى المدارس الخاصة، لم تكن طباع ليلى حميدة بالكامل، ففي أحد الأيام اشتكتها إحدى زميلاتها من المشرفات لمديرة المدرسة، قالت الفتاة أن ليلى سرقت منها موبايل كانت تمتلكه، أنكرت هي الإتهام ولم تستطع الفتاة إثبات الواقعة عليها، تغيبت عن المدرسة لعدة أيام وكانت قد استبدلت الموبايل بآخر من أحد الباعة الجائلين الذين يعملون في عِدَد الموبايلات المستعملة والمسروقة، بعد أن أعطته القليل من المال مقابل استبداله بجهاز أفضل.
أفاقت ليلى على صوت أبيها مازال يناكف أم سيد بالشباك، ابتسمت نصف ابتسامة قبل أن تنتبه لموقع التواصل على محمولها، أرسلت طلبات الصداقة لأشخاص بشكل عشوائي وأخرين أعجبها صورهم، اختارتهم من شكل ملابسهم وفخامة مستواهم الاجتماعي الذي أظهرته صورهم ومعلوماتهم على الموقع، كان من بين تلك الصور، صورة لرجل في الأربعين من عمره، يرتدى قميصًا أبيض مفتوحة أزراره، يعقد وشاحًا حريريًّا حول عنقه، وتتدلى منه سلسلة جنزير ذهبية طويل يصل إلى منتصف صدره، اكتملت فخامته بسيجار كبير في فمه يسنده بإصبعه، وشعره الأسود الناعم الممشط لأعلى. ابتسمت ليلى ورفعت حاجبيها وبدت معجبة بالرجل، وإن لم يكن إعجابها به هو ذاته، ولكن أحبت ثرائُه الذي اظهره شكل ملابسه وجسده المفتول يدل على صحة جيدة، لم تكتف بذلك بل بحثت في صوره الأخرى، ولم تتردد في ارسال طلب الصداقة.
دائما ما كانت تشعر بالغربة في مكانها بالحارة، فروحها متعلقة بمكان آخر بعيد عنها تقول دائما أنها خلقت في المكان الخاطئ تنظر لواقعها وكأنه ليل ثقيل ورأت أنها بوجهها الجذاب وجمال جسدها تستحق أكثر مما هي فيه بكثير، دائمًا ما تقف أمام المرآة تتأمل جسدها المتناسق تتحسسه بيدها، تدور يمينًا ويسارًا، وتروق لها نفسها وتتساءل:
- مَن يستحق نيل هذا الجمال؟
وكان ذلك كافيًا لترفض الكثير ممن تقدموا لها راغبين في الزواج منها، وحالهم في نفس حالها، ينقص أو يرتفع قليلًا.
انتبهت ليلى لنداء سعاد أمها، تصيح فيها لتساعدها في أعمال المنزل بدلًا من مكوثها فترة طويلة بحجرتها تنظر في ذلك الشيء الذي ابتليت به، كما قالت سعاد، لم تدقق من أين جاءت ابنتها بثمنه، ولكنها أرادت أن تصدقها عندما قالت لها أنها حصلت عليه من عملها، سلمته لها المدرسة الخاصة التي تعمل بها.
كانت أم سيد ما زالت بالشبَّاك تطل برأسها منه وتمد نظرها لآخر الحارة تنتظر عودة سيد الذي طال الغياب، تسأل عليه المارة، أما سعاد فقد استعدت للذهاب لعملها وكان النهار في آخره. خرج حسن من المنزل يجر عربته المزينة بأوراق ملونة وبعض الأجراس تصدر أصواتًا متناغمة، عليها قِدْر حمص الشام وآخر للبليلة وأطباق الترمس يتجه بهم للكرنيش.
عادت ليلى لمخدعها وانشغلت بمحمولها، فتحت موقع الفيس بوك لتجد أمامها ذلك الرجل وقد قبل طلب الصداقة، ابتسمت وراحت تتصفح صفحته، لتجده قد أضاف بعض الصور له مع أصدقائه، يحتفلون ليلة أمس بعيد ميلاد إحدى الشخصيات العامة من الفنانات المقربات لديه هو وزوجته، نظرت في الصور وجوه غريبة وملابس فاضحة وأجساد شبه عارية ، أحست أجواء صاخبة أظهرتها الصور، لمسات حميمة رقص وغناء وذلك الرجل الأربعيني يظهر بصحبة الكثير من النساء في معظم الصور، يرتدي قميصًا أسود فُتحت أزراره الى منتصف صدره يتدلى من عنقه الجنزير الذهبي ذاته، لمعت عين ليلى وشعرت برهبة من تلك الأجواء وكأنها خرجت من شاشة المحمول وانتقلت إليها في مخدعها.
طرق أحدهم الباب، لم تهتم ولم تتحرك من مكانها، ظلت شاردة تتأمل الصور، انتبهت للطرق على الباب وفكرت أن الطارق سوف يرحل، ولكن ازداد الطرق مرة تلو أخرى، وبعد فترة ليست بالقليلة اضطرت للقيام بضيق صدر لتكتشف أن من بالباب عمتها ومعها أطفالها. كانت العمة تبكي بشدة، عيناها متورمة وحولها أزرق، وجهها به سحجات، سألتها ليلى:
- مالِك يا عمتي؟ جوزك بردو زي كل مرة؟
- أيوة هو اللي ينشل في دراعه.
وعندما سألتها عن السبب، قالت العمة:
- مافيش سبب، دا كان هادي قبلها وقاعدين بقوله عايزة اودي الواد للدكتور الواد في بطنه كلكيعة بقالها سنة بتكبر، خايفة منها وعايزة اروح أكشف عليه، لسه بقوله راح قايم مرة واحدة فوقي بالضرب زي المجنون.
صنعت لها ليلى كوبًا من الشاي وجلست بجوارها حتى هدأت، أخذتها إلى حجرتها لترتاح حتى تعود أمها من عملها.
عادت لمحمولها، فتحت الشات، أحدهم يضع لنفسه اسم طائر الرخ، طلب التواصل معها عبر الخاص، لم تمانع فهي في حاجة لمن يسمعها وتحكي له ولا يعرفها، حكت له عن عمل أبيها في مجال البزنس والبورصة، وعن أمها سليلة العائلة العريقة، وتعليمها العالي في المدارس الدولية، حتى الجامعة الأمريكية.
ملت منه، راحت تتصفح الفيس بوك تقرأ بعض الأخبار التي لا تهتم بها كثيرًا عادت لتقرأ عن حادثة غريبة لأب يلقي بأطفاله في النيل أظهرت إشفاق عليهم، قرأت بعض التعليقات الرافضة لأنْ تصدق أن أبًا يفعل هذا بأبنائه، تعاطفت معه واتهمت أيادي خفية بالواقعة، انتقلت لخبر آخر عن ممثلة تخضع لعملية تجميل في الأنف.
تنفصل تمامًا عن واقعها وهي تتجول بين صفحات موقع التواصل، أفاقت على صوت شجار الصغار وحاولت منعهم وفض الاشتباكات ثم أغلقت المحمول وذهبت للقيام ببعض أعمال المنزل قبل مجيء أمها.
ومازالت أم سيد تنتظر سيد بالشبَّاك، تبحلق بالمارة، وتعايب على طريقة ملبسهم، تراقب أفعالهم وتنظر إلى ما يحملونه من أكياس فاكهة ومشتريات، تستوقفهم من تعرفهم وتسألهم عن سيد على أمل أن يكون أحدهم قد رآه. عبر رجل الروبابيكيا ينادى بصوت مميز على ب بضاعته، وتتتبعه أم سيد بعينيها حتى يبتعد بعيدًا ويترك الحارة. ظهر بعد قليل صبيان يتشاجران على زجاجة بيرا سرقاها من الفرح المقام له مسرح في آخر الحارة، استعد أصحابه لإحيائه في الليل، امسك الصبيان كلٌّ منهما ملابس الآخر ، وتجتهد أم سيد في منعهما بكلمات حادة وشتائم نابية اعتادت عليها، التقط أحدهما حجرًا من الطريق القاه عليها ليكسر نافذة شبَّاكها مما اثار غضبها بشدة، سمعت سعاد صوتها تصيح في الصبيين وكانت عائدة من عملها هدأت من غضبها وقبل أن تتركها لتدخل بيتها أعطتها أم سيد تقريرًا بمن دخل بيتها في غيابها، اخبرتها عن عطية أخت زوجها التي أتت بأطفالها متورمة الوجه، تبكى بشدة وسمعتها تقول أن زوجها ضربها دون سبب. دخلت سعاد البيت مسرعة سألت ليلى عن عمتها ثم توجهت للحجرة مباشرة، قالت لها ليلى في استهجان:
- خدتي التقرير من أم سيد؟
اشاحت لها سعاد بيدها، ودخلت مسرعة ترحب بعطية، شهقت بصوت عالٍ عند رؤيتها لوجهها المتورم، لحقتها عطية بالانفجار في البكاء.
اطمأنت ليلى لعودة أمها، عادت لمحمولها لتغيب عن الواقع وتندمج في ليلى التي اختارتها لنفسها في عالمها الافتراضي، تفاجأت بصديقها الأربعيني أضافها لجروب يضم صفوة المجتمع من الأثرياء، فنانين ومطربين ورجال أعمال ومسؤولين في الحكومة وشخصيات عامة وأبنائهم وزوجاتهم، وشخصيات خليجية أميرات وأمراء، وأسماء لامعة ومؤثرة في الاقتصاد والاستثمار، أطلق على الجروب اسم "الأكابر".
لمعت عيناها وافتخرت بنفسها وبأنها من ضمن أعضاء جروب يحمل كل هؤلاء الكبار من صفوة المجتمع، جلست تتابع تعليقات هؤلاء الأثرياء ومنشوراتهم التي تختلف كثيرًا عن واقعها، تستمتع بعالمهم وتتعلق به روحها السجينة داخل ذلك الجسد القابع في مكان لا ترغبه، راحت تقرأ المنشورات وتشاهد الصور، حلمت بأن تعيش هي تلك الحياة المرفهة...
تلك هي مولي ذات الشعر الأحمر الناعم وعدسات عينيها الخضراء، وجهها الملطخ بمساحيق الماركات العالمية، وفستانها المكشوف غالي الثمن، كتبت مولي فوق صورتها:
- مساء الخير الراحة لا تختبئ بين أوراق المال.
ولا أوراق الشجر...
ولا مع أشعة الشمس...
الراحة تنبع من القلب من الإيمان بالله...
نظرت ليلى إلى تلك الكلمات وتأملت صورة مولي، أفلتت ضحكة من بين شفتيها غير مقتنعة، فها هي أمها سعاد محجبة وكذلك عمتها التي يضربها زوجها بلا سبب، وخالتها المنتقبة، ليس رغبة منها ولكن لأن هذا هو سِلو عائلة زوجها، وعلى الرغم من ذلك حياتهم مليئة بالشقاء والتعب وليس فيها من الراحة ما يظهر على مولي في صورتها ذات الفستان المكشوف باهظ الثمن ووجهها المليء بالساحيق.
تجاوزت المنشور، ومرت خلال الصفحة لتقف عند زيزي، تلك الجميلة صاحبة الوجه المشرق ترتدي ملابس رياضية بيضاء وتقف بجانب دراجاتها الثمينة، اكتفت بكلمة واحدة كتبتها فوق الصورة:
"بنجور!"
أما تلك فهي جيهان، مرهفة الحس، تفيض مشاعرها في سماء الإبداع، كتبت تعلن عن كتابها الجديد، من عنوانه أدركت ليلى أن جيهان لا تعيش الواقع وإنما هي تطير دائمًا كعصفورة بين الأحبة، في مدينة ليست كهذه، ذات المجاري الطافحة والبلاعات المفتوحة والأرصفة المتهالكة، بل تعيش جيهان في مدينة مليئة بالفراشات الملونة والطيور التي تعزف وتغني والحيوانات التي تتكلم، يجلس بها الأحبة بين الأشجار يتقاسمون ثمرة جوز الهند.
امتعضت ليلى لتلك المشاعر الفياضة، تساءلت، أين هم من واقعها المرر؟ هل بالفعل كل ذلك الحب وكل تلك الراحة يمتلكها هؤلاء، ودت لو تعرف عن أي نوع من المشكلات تواجههم فمهما بلغت مشاكلهم لن تصل لحد الجوع الذي نهش أحشائها ليالٍ عدة نامتها بدون عشاء، توفره لأخواتها الصغار.
استوقفها فيديو الرجل الأربعيني في موسم الصيف الماضي بإحدى المصايف الشهيرة في مصر والمعروفة أنها للأغنياء فقط، يصور بكاميرا الفيديو راقصة مشهورة ببدلة رقص على الشاطئ، يلتف حولها باقة من الأثرياء وأبنائهم، ترقص ويصفق الرجال وتقلد رقصها السيدات في مشهد جرئ أبهر ليلى وقلب عليها أحزانها، تركت محمولها وأغمضت عينيها، راحت تكلم نفسها:
- ما كل هذا المرح! أليس لهؤلاء أي متاعب في الحياة، كيف يأتون بكل هذا القدر من السعادة والراحة؟ ألم يستحق أبي أن يعيش هو الآخر حياته بعد؟ وقد انحنى ظهره من جَرِّ عربة حمص الشام، وأمي! ألم تستحق هي الأخرى أن تكون مثل هؤلاء السيدات؟ تملك قوت اليوم ولا تبالى الغد، ألا أستحق أنا أن يخلقني ربي مثل أبناء هؤلاء؟ أرقص وأغني مثلهم، وهؤلاء الصغار إخوتي ألا يستحقون أن يستمتعوا بحياتهم؟ يلعبون ويمرحون شَبِعين دون أن يضرب الجوع بطونهم.
وأثناء ما كانت تفكر وتتحسر على نفسها وحال أمها وأبيها وإخوتها، بعث لها طائر الرخ برسالة على الخاص يطلب منها المساعدة، فهو في أزمة حقيقية، يريد أن يشتري هدية لزوجته في عيد زواجهم ولا يستطيع التفكير في نوعية الهدية، أشارت عليه أن يبتاع لها فستانًا شيك أو موبايل حديث، رفض قائلًا لها أن الموبايل كان هديته لزوجته العام الماضي، أما الملابس والذهب فهى كثيرة عندها وجاءها بها في أعياد الزواج السابقة وهو الآن في حيرة. أشارت عليه أن يهديها بكتاب إن كانت تحب القراءة، أو فسحة وتقضية يوم رومانسي في أحد المطاعم، أو يحجز لها حجرة في أحد الفنادق الكبرى، لم يروق له أيَّ من تلك الأفكار قال أنه، يتطوق لأن يأتي لها بهدية تكون ذكرى جميلة منه لا أن يكون يوم وينتهى. ضحكت ليلى من هذه الحيرة التي أدخلها فيها طائر الرخ، مازحته قائلة:
- هتلها ورد يا ابراهيم.
لكنه فاجئها بقوله:
- الورد دا بيجي على طول من غير مناسبة.
تمنت ليلى في داخلها لو تحظى بزوج مثل طائر الرخ هذا، الذي يحتار في هدية لزوجته في عيد زواجهما، فهو لا يحرمها من شيء قط، بل أتى لها بكل ما تتمنى، حتى أن الورد يأتيها بدون مناسبة، اقترحت عليه أن يزورا معًا مكان لم يزوراه من قبل.
عادت لواقعها حين طرق أذنها صوت بكاء عمتها، وكانت تشكي لسعاد ما فعله بها زوجها من ضرب وإهانة دون أي فعل قامت به هي وصفت حاله: وكأن شيطانًا تلبسه، قام في لحظة ورماها على الأرض وظل يضرب وجهها بقبضة يده حتى راحت في غيبوبة من شدة الضرب، وعندما أفاقت وجدت الجيران وقد تجمعوا على صراخها، أخذوها للمستشفى وخرجت منها إلى بيت أخيها، سحبت معها أطفالها الثلاثة فهي لا تأمن عليهم معه، قالت وهي تبكي وترتشف:
- دا متوحش عديم الرحمة والقلب.
هدأتها سعاد، قائلة:
- اصبري لما يجي أخوك وتحكيله، أكيد هيخدلك حقك، هو النهار يشقشق وتلاقيه جاي جارر العربية، منه لله البعيد جوزك عشان يعمل في مراته وفي عياله كده، العيال يا كبدي مخضوضين.
جاء صوت متعهد الحفلات من بعيد ينوه عن اسم المطرب الشعبي الذي سيحيي الليلة بالفرح، استعد أصحاب الليلة وأقاربهم وأحبابهم لاستقبال العريسين اللذين يدخلان الحارة بزفة تأتي بأصوات الموسيقى وضوضاء، تصنعها نفير الدراجات النارية، يُحيِّي المتعهد العريسين بالميكروفون ويبدأ الاحتفال بشاب أسمر يحمل زجاجة بايرسول ويشعل فيها النيران مع استمرار تفريغ البيرسول، تتصاعد النيران في الهواء لأعلى...
لم تبالِ ليلى بالعُرس، رقص الشباب بالمطاوى والسنج يثير عندها القرف من كل شيء حولها، فقد سئمت الحارة بل المنطقة بأثرها والأهل والجيران، كرهت البيئة الشعبية التي تنتمي إليها، وتلك الأفعال التي تشمئز منها تمنت لو ان قنبلة ذرية تنسف المكن.
قامت تحضر الطعام لإخوتها وأطفال عمتها قالت أمها انهم يتضورون جوعًا، منذ باكر لم تدخل اللقمة جوفهم.
التف الأطفال حول الطعام يتناولونه في نهم، يمدون أيديهم للصحن في سباق فيما بينهم، كانت ليلى تراقبهم بنظرات الشفقة، عادت لتفتح محمولها، رأت أمامها صورة شاب مفتول العضلات وسيم، يستعرض جسده، لا يكتب شيئًا فوق الصورة، بدى وكأنه يبحث عن معجبين دون أن يعلن ذلك، ابتسمت، تخطتها وراحت تبحر في جروب الأكابر، تنسى فيه واقعها الحقيقي تعيش الخيال والحلم، وقفت عند صورة إيمي بجانب حمام سباحة وفي الخلفية صورة فيلتها كتبت فوقها:
"رغم كل الألم في حياتنا، سنكمل لأن الأمل في بكرة أجمل".
قرأت الكلمات ونظرت لصورة إمي، رأتها تكاد تكون في أواخر الثلاثين من عمرها، في كامل زينتها، أحبت شعرها الكستنائي، شغفها عقد لولي يحيط بعنقها، همهمت مستنكرة لون العدسات الرصاصية والتي بدت بها عين إمي غير طبيعية، كالقطط، توقفت قليلًا عند فستانها الأبيض الشفاف، تأملته واشتهته.
أفرجت عن تنهيدة حزينة، راحت تتفقد منشورات باقي الأعضاء ، وإذ بصورة الرجل الأربعيني في كامل أناقته وبجانبه زوجته بفستان أسود باهظ الثمن يكشف أجزاء من جسدها، يقفان على سلم دائري رخامي، تخيلت ليلى نفسها بمكان تلك الزوجة، ترتدي الفستان الأسود الأنيق وتقف بجانب الرجل على السلم الدائري، حلقت بخيالها بعيدًا، تخطت حدود الزمان والمكان، أفاقت على بكاء عمتها التي كانت مازالت تحكي عن زوجها وأيامها السوداء معه وتحملها له ولضيق حاله منذ زواجها به، قالت إن أمه تلك المرأة الندابة، تنكد عليها كلما رأتها، ترميها بكلمات السوء والإهانة، تقول لها:
- وشك شؤم من يوم ما جيتي ماشفناش يوم حلو.
نظرت ليلى لعمتها مشفقة عليها، ثم عادت تنظر إلى صور الأكابر والهوانم بشاشة محمولها، دقائق والتفتت عنه، تدير عيناها بحجرتها تتأملها، وقع نظرها على أخواتها وأولاد عمتها يمسحون الصحون، يلتقطون الفتات مما تبقى منهم، حز بنفسها أن الناس بجروب الأكابر في ذلك العالم الافتراضي، ويعيشون في عالم موازي لعالمها الكئيب، لا يشعرون بالفقراء ولا يهتمون إلا بالرقص والسفر والحفلات.
لاحظت سعاد شرود ابنتها وعدم تجاوبها معها وعمتها في الحديث، حسدتها على هدوئها وبرودة أعصابها، وهي ترى عمتها المنهارة في البكاء، لم تكن سعاد تعلم أن وراء هذا الهدوء يكمن بركان يستعد للانفجار، ولم تسمع ليلى أيَّ من كلمات أمها لها وكانت شرارة الغضب والتمرد، تشتعل بداخلها.
"سوف أقف يومًا في منتصف الطريق أضع نقطة لكل هذا الفقر الذي يحيط بي، فلم أخلق لتعذب روحي وتهان نفسي بحجة القدَر والنصيب، من المستحيل أن يرضى الله للبعض من عباده العذاب والحرمان وآخرون يبالغون في الترف والنعيم، لن أنتظر الموت حتى أرى العدل في السماء، بل إني أريد رؤيته هنا في الدنيا، أريد نصيبي من الحياة ، كتلك التي يعيشها هؤلاء الأثرياء، لا يمكن أن يتركنا ربنا هكذا، لا بُدَّ أنه سينظر إلينا يومًا".
كانت تلك هي كلمات ليلى، كتبتها على صفحتها بالفيس بوك، بعد أن خصت لنفسها رؤيتها وحدها، ثم أبحرت في الصفحات تقرأ الأخبار والكومكس المضحكة ومنشورات الأصدقاء، هذا يمر بحالة نفسية فيكتب ما لديه، وذلك لا يعجبه حال البلد، وآخر لا يهتم فيطلق النكات وهذه الفتاة في حالة حب يظهر من كتاباتها المرهفة الحس، أما تلك الزوجة تحكي في جروب نسائي عن حالتها الميؤس منها، اندمجت معها ليلى لبعض الوقت.
وحين كانت مندمجة في قراءة التعليقات على منشور السيدة التعيسة، تفاجأت بمن يدعوها للحديث على الشات، تعرفه من منشوراته، رجل محترم يبدوا عليه التدين، فبصورته الشخصية يظهر ملتحي، يساعد الكثير من الشباب في إيجاد فرص عمل لهم بالخليج، رحبت به وبادلته الحديث، ظهر من كتاباته لبعض الكلمات لهجته الخليجية، أنبأت عن بقاءه لسنوات طويلة في الخليج، انطلق الرجل في حوار سريع مع ليلى، وكأنه يشتاق لرائحة شيء من بلده، قال إنه بعد أن تخرج ذهب ليعمل في الكويت وعاش بها، وبالرغم من كل تلك السنوات التي قضاها بها، لم يستطع أن ينسى لبنى.
لبنى هي الفتاة التي أحبها بمصر أيام الجامعة، تحدث عنها وكأنه يراها مازالت أمامه وهو في سن العشرين، قال أنها أذكى وأرقى وألطف شيء رأه في حياته، كانت هي تلك النسمة التي تعبر في يوم صيف حار، وأنها كانت تهوى كتابة الروايات الرومانسية وكان هو كل جمهورها، يقرأ لها ويندمج مع شخصيات رواياتها لدرجة أنه كان أحيانًا يطلب تغيير النهاية بأخرى أكثر حميمية...
لم يتوقف عن الحكي، حتى قاطعته ليلى بسؤاله عمَّا إن كان متزوجا؟
قال:
- تزوجت بالكويت وأنجبت واستقريت بها، لكني أبدًا لم أستطع نسيان لبنى.
جاء صوت متعهد الحفلات من بعيد يعلن عن وصول المطرب، وصفه بـ مطرب الجيل عندليب المنطقة، بدأ أول أغنياته بألبومه الجديد الذي ينوه عنه المتعهد من أول الليلة.
انتبهت ليلى لأحدهم يصيح في أذنها على الشات، يسألها الدعاء له فهو في كرب شديد، وقد طلب الدعاء من معظم الأصدقاء على الموقع، لعل وعسى تقبل من أحدهم دعوة بظهر الغيب، فيستجيب لها ويفرج همه، أثار الشاب فضول ليلى لتعرف مشكلته، قال انه في الرابعة والثلاثين من عمره ولم يتزوج إلى الآن، لا يستطيع توفير نفقات الزواج، قال إن الناس أصبحت تنظر له بعين الشفقة بعد أن كانوا قديمًا يرون فيه رجلًا، فهو يعمل منذ كان صبيًا في الثانية عشر من عمره، يصرف كل ما يجنيه من عمله على أمه وإخوته، بعد أن مات أبيه وأصبح هو العائل الوحيد لهم، بات لا يستطيع مجارات أصدقائه في اجتماعاتهم بعد أن تزوجوا وصاروا يتحدثون عن ابنائهم، فيقول أحدهم ابنتي فعلت، وآخر يقول ابنى فعل. أما هو فلا يوجد لديه ما يحكي عنه، فلا عيل له ولا تيل.
حاولت ليلى تهدئته ببعض الكلمات اللينة، إلا أن كلماتها زادت من حزنه على نفسه، قال إن تلك العبارات سمعها قبل ذلك عشرات المرات وقد ضاق به الحال ولا يستطيع أن يكمل حياته بهذا الشكل. يشعر بأنه ظلم نفسه كثيرًا، لكن ما بيده حيلة.
دعت له بصلاح الحال، أغلقت الشات وألقت بمحمولها بعيدًا واقتربت من المرأة، تنظر لنفسها وتتأمل جسدها تتحسسه، لم ترَ هذه المرة الفتاة الجميلة متناسقة الجسد، بل رأت ملامح أجهدت من كثرة العمل والإرهاق، وجسدًا لم يمسَّه أحد على الإطلاق، شعرت بدوار برأسها رأت الحجرة تدور بها، اهتزت المرآة وتموجت صورتها بها، وتبدل بصورة الشاب المقهور على نفسه.
جاء صوت أم سيد عاليًا، تسأل المارة عن ابنها سيد وتدعي الله أن يرجعه لها سالمًا، قالت:
- يااارب طمني على سيد، يااارب ماليش غيره.
طلت لها سعاد حدثتها بصوت حنون ونصحتها بأن تدخل لتنام لبعض الوقت، فالليل طويل وسيد قد يعود في الصباح، لكنها رفضت النوم، انتهزت فرصة حديث سعاد لها لتكشف لها عن سر جارتهم التي يتغيب عنها زوجها بالأيام بسبب عمله، أطالت رأسها لها توشوشها:
- بت يا سعاد، أقولك على حاجة يابت؟
بادلتها سعاد الاهتمام وراحت تنصت لها:
- قولي، شفتي إيه؟
- شفت الواد سنجه وهو داخل عند سلسبيل، في ساعة متأخرة زي دي، الواد بيداري وشه مني، فاكرني مابشوفش بس أنا عرفته.
- إخص عليها السفلة.
- ياعيني عليه جوزها غلبان وشقيان عليها هي وولادها.
- ما هو بردوا غلطان، سايبلها الحبل على الغارب ومسافر على طول.
- آآل على رأي المثل، إن غاب القط العب ييافار.
علا صوت المطرب الشعبي بالمكريفون بأغنيته "غلطة" يرددها معه الحضور وبأيديهم زجاجات الخمر يتمطوحون ويتمايلون على بعضهم في انسجام مع اللحن.
قطعت سعاد الحديث مع أم سيد وذهبت للمطبخ تحضر كوب من عصير الليمون وكمادات، ساقعة لتضمض بها ورم عين عطية التي زادها البكاء تورمًا. طلبت من ليلى أن تحضر الفرشة بالأرض لينام عليها إخوتها وأولاد عمتها فقد غلبهم النعاس.
قامت ليلى تلبي طلب سعاد، وكانت في شدة الضيق من صوت المطرب بالميكروفون، استنكرت ما يقوم به هؤلاء أصحاب العرس، قالت أن الصوت عالٍ وهم لا يبالون بشيء، ماذا لو وُجد شخص مريض أو آخر لديه عمل بالصباح ويريد أن ينام، قالت لها سعاد محاولة استعطافها:
- معلش نستحملهم دا فرح والناس ما بتفرحش كل يوم.
لم تفلح محاولات سعاد في تهدئة ابنتها، قالت:
- يعني هما يفرحوا واحنا نتقرف بنهيق الحمار دا.
ثم عادت للفيس بوك، كرت الصفحات في ملل، قرأت بعض المنشورات للأصدقاء، هذا المنشور يلعن صاحبه كل رجل يترك حريمه متبرجات غير مبالٍ بتعاليم الدين، وأما هذا فينشر فضيحة لمخرج معروف، ومنشور أخر في الجروب النسائي لفتاة متزوجة حديثًا، تعرض مشكلة لها مع أم زوجها.
انتقلت بين الصفحات، شغفها الفضول للاطلاع على صفحة الرجل الأربعيني توقفت عند صوره له بحفلة رأس السنة. بالصورة وجوه كثيرة مألوفة ممن تشاهدهم على شاشة التلفاز، إعلاميون وفنانون وزوجاتهم، ملابس فاضحة وأضواء، وفيديوهات غناء ورقص ، هناك صورة للرجل مع رجل أعمال كبير يملك سلسلة من أكبر الفنادق في البلد، وآخر لبناني يمتلك أشهر البواخر في البحر المتوسط، وصور أخرى له مع شخصية خليجية مهمة وسفير دولة من دول البترول الغنية، تطلعت لصور أخرى للرجل على أحد شواطئ أوروبا مع أسرته، بعض الصور لزوجته في سياراتها الفارهة، وأخرى له والسيجار في فمه، كرت الصفحة لتصل لمنشور بجريدة حكومية، يعلن عن حكم محكمة، بتعويض ورثة عائلة الرجل الأربعيني، بأكثر من مائة مليون جنيه، نظير ما سلبته منهم الدولة من أراضٍ وأطيان جراء قانون الإصلاح الزراعي في الخمسينات.
امتعضت ليلى لذلك الخبر بالجريدة، فوجئت بصورة اخرى بتاريخ ليس بالبعيد، للرجل في المطار بملابس الإحرام، تأملته، الشعر أسود ممشط لأعلى كالمعتاد ولمعة العينين ذاتها الموجودة في كل صورة، قرأت التعليقات من أصدقائه، تتمنى من الله الغفران، وتطلب منه الدعاء.
انتاب ليلى شعور بالحيرة من أمر ذلك الرجل، وتساءلت، ماذا يفعل وكيف يناقض نفسه بتلك الطريقة؟ وماذا عن تلك الطبقة المحظوظة! أيفعل ما يحلو له في الدنيا ثم يذهب ليعتمر فيغفر الله له؟ عن أي من ذنوبه سوف يعتمر! هل تكفيه عمرة واحدة؟ ماذا لو مات في الأراضي المقدسة ودخل الجنة؟ أيتمتع بالدنيا ويفوز بالآخرة! ما هذا الحظ السعيد لهؤلاء الأثرياء؟ كانت تتساءل وعينيها مغرورقة بالدموع، غرقت في حزن لم ينتشلها منه أحد، غير بكاء عمتها، فكانت تفيق عليه وتعود فتلتهمها أفكارها، تمنت لو كان لها ولأبيها وأمها المال الذي يمكنهم من الذهاب لأداء العمرة والتمسك بستائر الكعبة والبكاء، ليغفر الله لهم ما اقترفوا من ذنوب، التي اعتقدت أنها بالتأكيد أقل بكثير من ذنوب ذلك الرجل الأربعيني.
لم تكن تعلم أن حياتها ستتحول للأسوأ بدخولها ذلك العالم الافتراضي، ها هي الآن تغلق الموبايل وتنظر حولها غير راضية، تساءلت في نفسها، ما كل هذا الذي تراه الآن ولم تكن تراه قبل ذلك بهذا الوضوح، فذلك هو مخدعها الذي على حاله منذ طفولتها، لا يروقها الآن، رمت برأسها تسندها على الحائط من ورائها، وكانت عيناها معلقتان لأعلى، تنظر للسقف، رأته متهالكًا وقد قارب على السقوط فوق رأسها، راحت تترقب الأطفال النيام على الأرض وعمتها التي لا تكف عن البكاء وتتحسر على حالها وتنعي حظها.
كانت شرارة الغضب والتمرد داخلها تزداد في كل ساعة، بل في كل دقيقة تتفقد فيها ذلك العالم الموازي. من خلال شاشة محمولها، على موقع التواصل، راحت تضغط الحروف تكتب منشورًا خصصته لها وحدها:
لقد تجرعنا كأس الفقر أيامًا وليالي، اعتدنا مذاقه حتى خمرنا وبدا علينا السكر والتخبط فلا نستطيع حمل أجسادنا التي تميل بنا يمينًا ويسارا، خانتنا كلماتنا فلا ننطق منها إلا تلك التي تزيدنا شقاءً، أولم يكف لنا تحمل عناء الحياة دون محاولة مضاعفته، لماذا بذل كل هذا الجهد للوصول للاشيء.
قطع أفكارها كلمات أمها سعاد، تحاول تهدئة عمتها وتطلب منها الصبر، فتقول لها:
- احنا الستات مالناش إلا الصبر، اصبري عشان ربنا يحبك وليكِ الجنة.
دعمت سعاد قولها ببعض الأمثلة الشعبية:
- يختي ضل راجل ولا ضل حيطة، هتروحي فين بكوم اللحم دول وهتأكليهم منين.
لم تتحمل ليلى كل هذا القدر من الخضوع والضعف، ودون أن تشعر صرخت في أمها، قائلة:
- أجل مين اللي أنتِ عايزاها تصبر عليه أنتِ مش شايفة وشها عامل ازاي؟ عايزاها تتذل له أكتر من كده، لحد امتى هتفضلوا تصبروا علي الفقر والغلب والهم.
تفاجأت سعاد بموقف ابنتها، حاولت إسكاتها دون فائدة، تراجعت، والتزمت الصمت مع استمرار صراخ ليلى فيها:
- ربنا مابيحبش الضعيف المذلول ربنا بيحب القوي، أنتِ مش شايفة عيشتنا عاملة ازاي دا سكن نعيش فيه! شايفة السقف اللي هيقع فوق دماغنا، شايفة الحيطان اللي اتشققت من الرطوبة، دا عفش نعيش عليه؟
سمعت أم سيد صراخ ليلى، انتابها الفضول لتعرف ما يجرى، نادت على سعاد واستمرت في النداء دون توقف:
- يا سعاد، يا سعاد، في اية عندك، بتتخانقى مع بنتك ليه؟
خرجت لها ليلى، وفي انهيار صاحت فيها. ارتعدت أم سيد والتزمت الصمت، لم تتحرك من مكانها، حاولت سعاد تدارك الأمر، سحبت ابنتها للداخل خوفًا على أم سيد منها، وكانت ليلى مستمرة في رشق الكلمات الموجعة:
- عاجبك شكل الحارة؟ عاجبك الجيران؟
وأشارت إلى أم سيد:
- دي مناظر دي نتصبح ونتمسى بيها كل يوم؟
وفي ومحاولات من سعاد لتهدئتها، بكت ليلى وارتمت على الأرض، جلست سعاد بجانبها، أخذتها في حضنها وربتت عليها، وقالت:
- مالك يابنتي ايه اللي جرالك؟ ما كنتي كويسة.
قالت سلمة وهي ترتشف وتتشحتف:
- إنتِ أصلك ماشفتيش الدنيا اللي أنا شفتها.
- وشفتيها فين الدنيا دي بس، احنا عمرنا ما خرجنا من الحارة.
- أنا ماخرجتش، هي اللي جاتلي لحد عندي.
فطنت سعاد تلميح ابنتها، قالت في ضيق قاصدة ذلك الجهاز بيدها:
- هو الهباب اللي أنتِ جبتيه دا وماسكاه في أيدك ليل ونهار، بدَّل حالك وشقلب كيانك ما كنا عايشين كويسين من غيره وبنحمد ربنا.
التفتت سعاد لأم سيد تطيب خاطرها مما فعلته ابنتها بها، انتهزت أم سيد الفرصة للحديث، حكت أن منذ قليل اخبرها أحد المارة العائدين من الفرح بأن هناك مشاجرة كبيرة بين بعض الشباب، منهم من تحرش بفتاة كانت برفقة أخيها وهي إحدى صاحبات العروس، حدثت مشادة بين الشباب والاخ الذي أخذ أخته وذهب بها بعيدًا عن المنطقة، عاد بعد قليل ومعه شباب من منطقته، ليثأر لنفسه ولأخته، ظهرت السنج والمطاوي والأسلحة البيضاء في أيدي الشباب، وقامت مشاجرة كبيرة أصيب فيها أخو الفتاة بجرح عميق في البطن ونُقل للمستشفى في حالة خطيرة، قيل إنه تُوفي بها...
هدأت ليلى وعادت لمخدعها، نظرت لمحمولها، ترددت في فتح موقع التواصل، دقائق قليلة وعادت لعالمها الافتراضي، وإذ بطائر الرخ يعود من جديد يحمل بشرى سارة، فبعد تفكير طويل وجد الهدية المناسبة التي سوف يقدمها لزوجته في عيد زواجهم، قال إنه قرر أن يحجز تذكرتين له وزوجته للأراضي المقدسة لأداء العمرة فهذا هو المكان الذي لم يزوراه معًا قط، ووعدها بهدية لإحائها له بالفكرة، وسألها أن تطلب أي شيء تريده وسوف يحققه لها أن كان بمقدوره.
فكرت ليلى في عرض طائر الرخ، خاتم سليمان، الذي سوف يحقق لها ولو جزء بسيط من أحلامها، فقد أوضح لها من كلماته انه على مقدرة عالية، ماذا تطلب؟ فستان سهرة ام حذاء بكعب عالي؟ لمعت الفكرة في عينيها قبل أن تنظر لإخواتها، رأت ملابسهم البالية، فكرت أن عليها التخلي عن أنانيتها وتطلب كسوة لهم، تحميهم برودة الشتاء، انطفأ داخلها ودمعت عيناها وهي تعيد قراءة الرسالة، تقول:
- اطلبي ما تريدين وسوف أحققه لك. احتارت ماذا تطلب، نظرت حولها رأت كل شئ ينقصها، لم تهتدي لشيء، قالت وعينها تقطر الدمع في صمت:
- ادعيلي عند الكعبة، ربنا يرحمني ويرفع عني عذاب الدنيا.
اندهش طائر الرخ من كلماتها وسألها إن كانت تعاني بعض المشاكل في حياتها، قالت:
- لا، فقط أشتاق لأمي التي سافرت إلى باريس لتحضر عرض أزياء لذلك المصمم الشهير هناك.
عادت سريعًا لليلى التي اختارتها وتفضلها عن تلك التي في العالم الواقعي، ففي ذلك العالم الافتراضي هي خريجة المدارس الدولية وتسكن في أرقى الأماكن وتنعم بشكل مجتمعي ممتاز جعلها تنضم لجروب الأكابر..
بدلت صورتها على الصفحة بصورة أخرى لها بعد أن كانت قد عدلتها في برنامج الفوتوشوب صارت أكثر إثارة.
ابتسمت عندما تذكرت أنها واحدة من أعضاء جروب الأكابر، قرأت المنشورات، تركت تعليقاً على أحد الفيديوهات الموجودة على الجروب لحفل شهري يقام لأعضاء في أحد الفنادق الكبرى، حضره فنانات وإعلاميون ومطربون، صورة للحفل منشورة على أحد مواقع الأخبار الإلكترونية على النت، حكى الخبر تفاصيل الحفل وذكر أسماء بعض المشاهير الذين تواجدوا به وقدم التحية لمقيمَيْ الحفل الرجل الأربعيني وزوجته، تأملت الصور تلك هي المذيعة الشهيرة وبجانبها مطرب من الجيل القديم، كم مرت عليه من السنوات التي غيرت ملامحه؟
فتحت أحد الفيديوهات بها الضيفة المشهورة، لفت سمعها طريقة الكلام الممطوطة التي تتحدث بها الضيفة، على الرغم من حب ليلى الاحتكاك بالأثرياء والانتماء لهم افتراضيًا، وتعرف أن تلك الأمنية لن يكتب لها أن تتحقق أبدا في الواقع، لكنها لم تستلذ تلك اللهجة المعتادة من أبناء الطبقة المرفهة، فهي تكره النغمة المصطنعة التي تخرج مائعة من أفواههم، تهزأ منهم وتقلدهم بسخرية، فتضم شفتيها على شكل قلب، وتمد في الحروف والكلمات عند نطقها.
أوقفتها مجموعة أخرى من الصور، الرجل الأربعيني في مكان هام، يرتدي بدلة كاملة، على غير العادة، وقد تخلى عن سلسلته الذهبية، وحول عنقه كرافات، بدلًا عن الوشاح الحريري، بجواره رجال مهمين بالدولة، وزراء حاليون وسابقون وأعضاء مجلس شعب وآخرون يتقلدون مناصب حساسة، ومنهم من له يد في التغييرات السياسية التي مرت بها الدولة. أظهرت الصور هؤلاء الرجال في قمة أناقتهم ببدل وربطات عنق باهظة الثمن، انتبهت ليلى للوجوه المبتسمة وبريق الأعين الذي لا ينطفئ أبدًا، مررت أناملها على الشاشة تتحسس الأشخاص بالصور، أرادت أن تتأكد من حقيقة هؤلاء، هل هم حقًا أناس حقيقيين مثلهم، أم جنس آخر لا تعرفه؟ سرعان ما حركت الشاشة لأعلى بإصبعها، لتبعد الصور عن عينيها. ها هي صديقتها الافتراضية جيهان، تلك الحالمة التي لا تهتم إلا بالحب، وتلك هي رولا، تشكي ارتفاع مصروفات مدرسة أبنائها، تضاعفت بسبب ارتفاع قيمة الدولار الذي تتعامل المدرسة به، وهذه جوكا، عرضت فيديو تكريمها في سهرة لأعضاء جروب الأكابر، يحضر التكريم سمو الأميرة وسمو الشيخ، يقدم لها هدية ثمينة، يوثق الحفل مصورين وإعلاميون ويسلمها التكريم الرجل الأربعيني الذي يغدق الكثير من المال على أصحابه وأحبابه.
لم تنس ليلى أن تضع قلبًا أحمر على منشور جوكا. ثم شردت تفكر وتتساءل كيف لا يشعر بها أحد، فكل ما يفصلها عن هؤلاء هو شارع أو اثنين، لماذا لا ينظر الأغنياء وراءهم فيروا الفقراء أمثاله، ما الذي يمنعهم عن ابداء أية مسؤلية تجاههم، يكتفون بأنفسهم وكأن لا أحد يستحق الحياة غيرهم يغدقون على الأغنياء منهم بالهدايا والأموال ويبخلون بها على الفقراء المحتاجين لها بالفعل، يأكلون حتى تصرخ بطونهم من التخمة، يرتدون أبهى الملابس، ويمرحون طوال الوقت.
أدارت عيناها بالمكان، تنظر لحالها وحال إخواتها، وداخلها وحش لا يكف عن النهش، تتساءل، لماذا لا يسعى أحد هؤلاء الأثرياء لإنقاذ المنسيين على الأرض من عنائهم المستمر مع الفقر والجوع؟ تقرأ منشوراتهم التي تلعن المال وتتعجب كيف يحسدون الفقراء على سعادة وهمية لا يشعرون بها وأمعائهم تتقلص من الجوع، وأجسادهم ترتجف من البرد ليلًا. أغلقت المحمول وهي تردد:
سعادة إيه دي اللي من غير فلوس؟
فتحت التلفاز تشغل نفسها بمشاهدة برامجه، تفاجأت بالرجل الأربعيني في أحد البرامج السياسية، مع مذيع معروف بموالاته للنظام، يرتدي البدلة وقد أحكم عنقه بكرافات أنيق، يظهر تواضعًا، فلا يمسك السيجار ولا يحيط أصبعه خاتم بفص أزرق كبير. يتكلم بلباقة بحكم منصبه في مكان مهم بالدولة، عن التنمية الشاملة التي تهتم بها الدولة في كل المجالات.
راقبت ليلى طريقة كلام الرجل وحديثه، رأته رجل عادي، حديثه ممل، تحدث عن إنجازات لم تشعر هي بها، يعد بالأفضل، ولم ينس أن يذكر الرئيس الملهم، كل دقيقتين، يرجع له كل ازدهار حدث بالبلد، منوهًا عن أن كل ما يحدث هو بناء على تعليمات الرئيس.
جاء صوت أم سيد تلك المرة بالمريخ والعويل، خرجت ليلى مسرعة للحارة وقفت في دهشة هي وأمها سعاد وعمتها عطية، وهم يرون زوج سلسبيل جارتهم، يقف وبيده سكين ملطخ بالدماء وعيناه مفتوحتان في ذهول وعلامات الجنون على وجهة.
قالت أم سيد أنها غفلت قليلًا، وهي في الشبَّاك تنتظر عودة سيد، ولم تشعر بزوج سلسبيل عند عودته للحارة، ولكنها قامت على صوت ضرب ومشاجرة، انتبهت لصوت صراخ أتٍ من بيت سلسبيل، بعد دقائق رأت سنجة، يخرج مهرولًا من البيت يلملم ملابسه ومن ورائه زوج سلسبيل وبيده السكين ملطخًا بالدماء، قتلها وأطفالها يبكون ويصرخون من الفزع والخوف.
ازدحمت الحارة بالأهالي، وجاءت أم القتيلة باللطم والعويل، دقائق وأتت الشرطة.
كان الزوج واقفًا مكانه وبيده السكين، لم يتحرك ولم يتحدث إلى أحد وعلامات الذهول على وجهه، بقيَ حتى حمل رجال الإسعاف جثة سلسبيل، وأخذته عربة الشرطة. احتضنت سعاد الأطفال وأخذتها معها الى شقتها. انفض الجمع ولم يتبقى بالحارة إلا نسائها، بدأ بينهم الهمز واللمز، وأم سيد تتزعم النميمة، أخبرتهم بمارأته على سلسبيل أول الليلة وهي بالشَّباك.
قارب الليل على الرحيل، عادت ليلى لحجرتها تنظر للتلفاز المفتوح دون أن ينتبه له أحد، تذَكرت الرجل الأربعيني الذي كان يتحدث عن الرخاء والإنجازات لتكتشف أن البرنامج قد انتهى، عادت للمحمول تحاول نسيان ما حدث، فتحت الموقع لتجد صورة الرجل يقف بجانب صديق له يحمل سلاحًا يتباهى به، دققت النظر، عرفته انه هو أشهر بلطجي للنظام، والذي كان يأتي للحارة، في موسم الانتخابات، يأخذ الشباب من المسجلين والأشقياء فقد كان له دور هام في العمليات الانتخابية وتقفيل اللجان لصالح النظام، لفت نظرها، الرجلان يرتديان تيشرتات سوداء، كتب عليها باللغة بالإنجليزية، تتدلى السلسلة الجنزير الذهبية على صدريهما، كتب الرجل الأربعيني فوق الصورة:
"أجدع واحد في البلد"
رفعت سعاد صوتها على ابنتها تأمرها بالذهاب لإخبار أبيها بما حدث وإحضاره ليرى حلا في مصيبة عمتها وأطفالها. لم تبالِ ليلى بغضب أمها، هربت إلى عالمها الافتراضي، راحت تتصفح موقع التواصل، أحدهم أرسل إليها طلب صداقة باسم تعرفه شعرت بشيء ما بداخلها ناحية الاسم، تفقدت صفحة الشاب تأملت صورته، تذكرته:
إنه إبراهيم، ذلك الشاب الذي كان يهيم بها في صغره، تغير شكله، فقد أصبح أكثر نضجًا وله لحية قصيرة، يرتدي قميصًا غامق وبنطلون جينز ويقف داخل أحد المولات الكبيرة. قبلت ليلى طلب الصداقة وبعد دقائق معدودة سمعت صوت الرسائل التي تأتيها منه وفي لهفة فتحت الشات.. ها هو الفتى المتيم ينطق بكلمات الترحاب والمودة، ظهر من بينها حبه القديم، لم يزل ينبض به قلبه إلى الآن.
لم تلتفت ليلى لأمها التي نهرتها ثانية، قرأت الرسالة، أعادت لذاكرتها أيام مراهقتها عندما أحبت إبراهيم الذي هام بها من أول لقاء، ظروف حياته المتعثرة منعتهم من الارتباط، سألته: كيف وصل إليها؟ فقال، إنه لم يتعرف عليها في البداية، ولكن عندما دقق النظر لصورتها عرفها على الفور، قال إنها ما زالت جميلة كما تركها، سألها عن تلك البيانات التي تضعها على صفحتها والمغايرة لواقعها، أجابته في استهزاء:
- يعني عايزني اكتب محل السكن إيه؟ حارة المراكيب.
صمت إبراهيم ولم يكتب شيئًا، قطعت ليلى الصمت بسؤاله عن حاله وأحواله وإن كان قد تزوج، قال لها إنه تعرض لمشاكل عدة اضطرته للسفر هربًا من ديونه ومشاكله، انتقل لإحدى البلاد العربية الغنية، وعندما تحسنت ظروفه تزوج من فتاة مصرية وأنجب منها بنتًا وولدًا، لكنه وإلى الآن لم يشعر مع زوجته بالحب الذي أحبه لها، نبض قلبها بقراءتها الكلمات، ذكرتها ببراءتها ونقائها، قال إنه وبعد أن تركها تعرف على الكثير من البنات، لكنه لم يجد أرق منها ، يشتاق عيونها الحالمة وروحها الملائكية، لم يحسها في أي فتاة غيرها ولا حتى زوجته، فبالرغم من حبه لها ولأطفاله منها، إلا أنه لم يصل بإحساسه معها ذلك الذي كان يحسه ويشعر به بجانب ليلى التي أحبها.
أفاقت ليلى من شرودها على غصة بنفسها جراء كلمات ابراهيم التي ألمتها، نظرت لنفسها بالمرآة لم تجد ليلى التي تكلم عنها، بل رأت فتاة آخرها صنعتها قسوة الحياة، ولم تعد روحها ملائكية.
أفزعتها أمها بصوتها العالي، تنهرها بشدة وقد نفد صبرها، لتقوم من مخدعها وتذهب لأبيها تستعجله المجيء ليتصرف في تلك الورطة التي وضعته فيها أخته عطية بغضبها من زوجها ومجيئها إلى هنا بثلاث أطفال، فمن أين سوف يطعمهم؟
ارتدت ليلى طرحتها، لم تحكم رباطها جيدًا، تدلى منها أطراف شعرها، تركت الحارة من ورائها في حالة غليان، قاصدة الكرنيش، انزعج حسن عند رؤيته لها، فالوقت متأخر، إلا أنها لاحقته بأخبار الحارة المزعجة وما حدث لعمتها عطية، حكت له عن سلسبيل وما فعله زوجها بها، وأخبرته أن سيد لم يعد حتى الآن وأم سيد ما زالت بالشبَّاك قلقة عليه.
ضرب حسن بيده كفًّا على كفٍّ وأشار عليها بالانتظار، فآذان الفجر قد أوشك، وها هو سوف يعد عدته ويذهب معها للحارة.
جلست ليلى على السور من ورائها النيل، تتأمل الفنادق الشهيرة، في الجهة المقابلة، والأبراج العالية تذكرت ذلك العالم الموازي على محمولها، تخيلت نفسها تسكن إحدى شقق تلك الأبراج، وبينما كانت تبحر بخيالها، رأت سيارة إسعاف وقفت أمام أحد الفنادق الشهيرة صعد رجال الإسعاف للفندق وبعد دقائق خرجوا منه حاملين رجلًا طاعنًا بالسن وقد شرب الخمر حتى الثمالة.
كان الرجل شبه فاقد للوعي ومن حوله امرأتان إحداهما عرف من حديثها أنها ابنته، أما الأخرى كانت تلقي بجسدها شبه العاري عليه وتحاول إفاقته. أثارت المرأة غيرة الابنة التي غمرتها بسيل من الشتائم ونعتتها بأفظع الصفات ونهتها عن الاقتراب من أبيها، صاح أحدهم لطلب الماء للعجوز لإفاقته، لكن العجوز رفع رأسه الثقيل وطلب الويسكي بدلًا عنه.
وضع رجال الإسعاف الرجل بالسيارة ومعه ابنته والمرأة وبينهما سيل من الألفاظ البذيئة وتهديد ووعيد، قبل أن تترك السيارة المكان مسرعة لوجهتها.
اندهشت ليلى من المشهد، كادت ان تضحك، لولا أن انتبهت لرجل ضخم ومعه امرأة شقراء وبعض النساء والرجال يخرجون من الفندق، كانت وجوههم مألوفة لها، يرتدون ملابس سوداء غريبة عليها أرواب فضفاضة بأكمام واسعة ورسوم ذهبية، فوق رؤوسهم يضعون الطراطير، استقلوا سياراتهم الفارهة وانطلقوا بها مغادرين.
صمتت للحظات لم تتخيل أن ترى الرجل الأربعيني بالفعل في الواقع، ولا ترغب أن تعلم بوجود هؤلاء إلا بالعالم الموازي. نَهَر حسن ابنته، فقد نادى عليها أكثر من مرة وهي ما زالت شاردة بعيدًا بأفكارها.
سمع آذان الفجر يجوب السماء، حين كان حسن يدفع عربته وبجانبه ليلى يعبرون الطريق، اتجهوا للشارع الجانبي، ثم انحرفوا لتلتهمهم الحارة المتفرعة منه، سار في طريقه لمسكنه، ظهرت المقابر على يمينه وبعض المارة يرفعون أيديهم بالسلام ويرد عليهم دون اهتمام، شهد عمال الفراشة يرفعون الكراسي وخشب المسرح الذي أقيم عليه الفرح، غض بصره عن شاب وفتاة، يستتران في الظلام يتبادلان القُبلات، قابله بالطريق رجل ملتحٍ يتوجه نحو الزاوية الصغيرة ليلحق بالمصلين في صلاة الفجر، يُفاجَأ بالشاب والفتاة، ويستغفر الله بصوت عالٍ، كان طريق العودة ملغم بالسكارى العائدين من الفرح، مر بورش السمكرة والكاوتش والحدادة، ظهرت عشش الصفيح وبيوتهم الصغيرة لا يفصلها عن بعضها إلا أمتار قليلة، لم تكن الحارة كعادتها ساكنة.
سار حسن يدفع عربته، شاهد أهل الحارة وقد أصابهم القلق والوجوم، النسوة جالسات على الأعتاب يتحسرن على سلسبيل وما حدث لها، وأم سيد بالشبَّاك تنتظر عودة سيد، تضرب بيدها على الأخرى وتردد:
- لطفك يا رب.
وقف حسن يركن العربة أمام باب البيت، سألته أم سيد السؤال الذي تكرره طول الليل على كل من يمر أمامها:
- ماعرفتش حاجة عن سيد يا حسن؟
أشاح حسن بيده في قلة حيلة، تركها ودخل بيته رأى عطية أخت، ركضت نحوه تحتضنه، بكت بشدة وكشفت عن جسدها تريه الكدمات والسحجات وتشكي له فعل زوجها بها.
نظر حسن لها في ألم، ذهب بعيدًا عنها دون أن ينطق بكلمة، تركها ليدخل حجرته.
نظرت عطية لسعاد وليلى في اندهاش، وذهبت كلٌّ منهما في صمت دخلت سعاد الحجرة لحسن، حاولت الحديث معه بشأن عطية، قالت أن عليه أن يأخذ لها حقها من زوجها ذلك المفتري. لم يرق لحسن كلام سعاد، خرج من الحجرة يواجه عطية، قال أنه لا يستطيع تحمل نفقاتها ونفقات أطفالها وأنه على قد حاله، كما ترى، وفي رقبته كوم لحم يعافر هو وزوجته حتى يستطيع إطعامهم، قال أنه سوف يخرج الآن ليبحث عن زوجها ويأتي به لأخذها هي وعياله منها، فهو المسئول عنهم.
لم تحزن عطية كثيرًا من موقف أخيها، بل عذرته، وذهبت لتوقظ أطفالها وتستعد للذهاب لدارها.
كان النهار قد دب مخالبه بأركان الحارة، عندما خرج حسن يبحث عن زوج عطية، ليُفاجَأ برجل الشرطة يتقدم من بعيد ويتوجه ناحيته، سأله عن بيت سيد، نظر حسن إليه في ريبة ودون أن ينطق شاور له على شبَّاك أم سيد التي انتفضت من مكانها مفزوعة:
- في ايه يا بيه؟ سيد عمل ايه؟
- والدة سيد على العزب؟
- أيوة يا بيه، هو عمل أيه؟
طلب الشرطي منها المجي معه، حاول حسن الاستفسار منه عن سبب الاستدعاء، قال:
- ليه يا باشا؟ دا أم سيد ست غلبانة وطول عمرها في الحارة ماشفناش منها حاجه لاهي ولا سيد ابنها، دا بياع غلبان، صحيح بيتنطط في القطرات وسايب أمه قلقانة عليه ليل نهار، لكن كله عشان أكل العيش وانت عارف يا باشا الوضع على قده والحال مش قد كده والحياة صعبة على الناس.
قاطع الشرطي حسن، قال في صوت يملؤه الألم:
- عايزنها في المستشفى، تتعرف على جثة ابنها سيد وتستلمه من المشرحة.
صمت الشرطي وسط ذهول حسن وأم سيد، التي لم تصدق ما سمعت، تابع بصوت مخنوق:
-خانه وزنه، ووقع تحت عجلات القطار ليلة أمس، بعد مشاجرة بينه وبين رئيس القطار على التذكرة، التي لم يستطع دفع ثمنها، الأمر الذي جعله يقفز من القطار وهو يسير بسرعته، مما أدى إلى وقوعه تحت عجلاته، وانفصال رأسه عن جسده.
تجمع أهل الحارة حول شبَّاك أم سيد، حين كان الشرطي يعرض على حسن بطاقة سيد للتأكد من شخصيته وأنه هو الموجود بالمشرحة بالفعل. دخلت أم سيد في نوبة صدمة، ظلت تردد كلمات وجمل غير مرتبة، لا معنى لها.
وقفت ليلى في الشبَّاك، سمعت ما جرى لسيد ورأت الصدمة على أمه، دخلت حجرتها واحتمت بمخدعها، لم تنطق شفتاها بكلمة، أسندت رأسها للوراء وعيناها تنظران لأعلى في صمت وانكسار، لم تشعر بكم من الوقت مر عليها، تحسست محمولها هاربة به إلى موقعها الافتراضي، فاجئتها صورًا للرجل الأربعيني وزوجته بالملابس الغريبة ذاتها، تلك التي شاهدتهم بها منذ قليل حين كانت على الكورنيش تستدعي أباها للعودة للبيت. أوضحت الصور شكل الفندق من الداخل، تأملت الصور، يجلس الرجل على البار ويضحك، بيده كأس الخمر، وبالآخرة يمسك ذراعًا تنزف وصورة لزوجته تمسك بيدها ساقًا تقطر منها الدماء ومن حولهما أشخاص بملابس سوداء وأقنعة مخيفة يمسكون برؤوس وكأنها بشرية يحاولون قضمها.
سار في جسد ليلى رعشة، تماسكت لتقرأ ما كتب فوق الصور، وعلمت أنهم يحتفلون بعيد الهالويين، وتفاجأت أن ليلة أمس كانت ليلة الهالويين.
أغلقت المحمول بعد أن أوقفت حسابها على موقع التواصل نهائيًا، واكتفت بالنظر لسقف حجرتها المتهالك تفكر في ليلة رعب حقيقية قضتها بالحارة، حين دخلت عليها أمها تقول في حسرة:
- يا كبدي عليك يا سيد، الولية أم سيد مخها ضرب بعد ما سمعت خبر ابنها.
شاهدت سعاد على ابنتها حزن عميق، وكانت ليلى قد استسلمت لبقائها في قاع البئر، لم ترَ به إلا ظلام حالك، قالت لها سعاد مشفقة عليها:
- مالك انت كمان؟
- ماليش يا أمي، سيبيني لوحدي عايزة أتأمل سقف أوضتي.
- والله، وإيه بقى الدموع اللي في عينيكِ دي، عارفة انك حزينة على سيد وأمه، بس كمان عارفة إن حالنا مش عاجبك، نعمل إيه، ما حلتناش حاجة، وإلا بقى نسرق أو نبيع نفسنا ونفسد.
جاوبتها ليلى:
- مش احنا الفسدة يا أمي، لو عاوزة تشوفي الفسدة واللصوص، افتحي التليفزيون، إحنا اللي عملنا من الكلاب أسياد.
***