Yahia10

Share to Social Media

الذاكرة
" الذاكرة هي طبقات وجودنا المترسبة و التي تدلنا على تاريخنا "

بعد تخرجه من الجامعة، لم يصرف وقتًا كثيرا وهو يبحث عن عمل يساعد به الأب الفقير الذي أرهقته العتالة. فتلك الأوزان الثقيلة من الأكياس الإسمنتية وصناديق البضائع، ومكوثه لساعات طويلة تحت الشمس وفي البرد الذي لا يرحم، جعلته يتقدم في السن بسرعة غير طبيعية وتظهر عليه علامات الشيخوخة رغم أنه دخل الكهولة قريبًا. انتشرت الأوجاع في كامل بدنه فلا يضع رأسه على الوسادة إلا والأنين يصاحبه، ولولا النوم الذي يأتي بعد أرق طويل من كثرة الإجهاد يزيح عنه بعض الذي يجد، لما استطاع التحمل. كان يعود إلى البيت بملابسه التي لم تكن إلا سروالًا من الجينز بدأت خيوطه تهرب من بعضها البعض، وقميصًا لبدلة رياضية قد تآكلت، تحتها القميص الصوفي ذو النجمة قد ارتخى واتسعت ياقته فيظهر من تحته قميص اللحم الأسود. كان يعود تفوح منه روائح الإسمنت والحديد والجبس، يحمل كيسًا بلاستيكيًا أسودًا فيه بعض الخضار ولوحة من الشوكولاتة الرخيصة، ولكنه كان يعود مبتسمًا.
كذلك الأم التي تبدأ يومها مع طلوع الفجر لتحضير خبز المطلوع والذهاب به إلى السوق لعلها تكسب الدنانير القليلة، تجلس في مكانها المعروف من السوق وتنادي على مطلوعها المشهور، كما اشتهرت بـ"ربيعة القافزة" لفرط نشاطها وحنكتها في توليد الدينار. ثم تعود هي أيضًا بما تحمله، لم تنسَ ابنها الوحيد عمر بقطع الحلوى والكعك والقليل من الفاكهة إن توفر لها المبلغ، تعود لعملها الشاق في البيت!
مع كل هذا الشقاء، وفي بيت حقير قد تطرف عن باقي البيوت، فهو عبارة عن بناية غير مكتملة، لا تمنع بردًا ولا تستر سرًا، وكم كانت الحالة تسوء في الشتاء حين يتسرب ماء المطر فتجد الأواني منتشرة في كامل البيت ليجمع فيها ما يتسرب من السقف.
كان جهد الأب والأم يتجه نحو عمر، لا يبخلان عليه بشيء حتى أتم دراسته الجامعية، وهو بدوره لم يدخر جهدًا في البحث عن عمل ينتشل به عائلته من الشقاء. في الأخير استطاع أن يحصل عليه في مكتبة تابعة لأحد الخواص، وإن كان هذا العمل لا يمت بصلة إلى اختصاصه، فقد درس علوم الحاسوب وكان من المتفوقين.
كان سعيدًا بكل شيء في حياته، خاصة وأن الوضع المادي تحسن كثيرًا، فقد استطاع الادخار والتعاون مع أبيه سي لخضر وافتتحا دكانًا محترمًا صار مصدر رزق وفير، خاصة وأن سي لخضر طيب القول والفعل، وكان من المحبوبين عند الناس. تخلص سي لخضر من الألم اليومي وظهرت عليه علامات الراحة، وربيعة القافزة صارت تلبس الأبيض وتتعصب به كأنها نازلة من توها من الحج، لقد ارتاحت هي أيضًا من الشقاء والتعب.
كان عمر يحمل في رأسه وذاته كل تلك الذكريات القاسية التي عاشها مع أبويه، وتلك الأقاصيص التي ما زال يسردها عليه سي لخضر حتى الآن، فلا تفوت ليلة من الليالي إلا وهناك شحن لعقل عمر بتفاصيل دقيقة من حياته وحياة أبويه، وكأن سي لخضر يريد من عمر أن يظل يعيش هذه الذكريات يحملها معه دائمًا. كان عمر يشعر أحيانًا بالضيق من ذلك، ولكنه يصبر على حديث أبيه وأمه حبًا فيهما وطاعة لهما.
وفعلًا عمر كان يضيف كل تلك الحكايا والأقاصيص والذكريات إلى دفتر ذكرياته العقلي، والعجيب أن جميع الذكريات كانت مرتبة في رأس عمر ترتيبًا يشبه شريط الفيديو، ربما ذلك راجع إلى هوسه بالتنظيم والترتيب ومبالغته في ذلك، فلا ينسى تفصيلًا من التفاصيل حتى يراقبه، في تسريحته، وفي لباسه، وفي وقته، وفي عمله. كان يبهر زملاءه في العمل من دقته وترتيبه وحفظه!
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.