الخلوة
" الخلوة هي اشتياقنا لانفسنا"
كان عمر شابًا متأنقًا يحب أن يظهر بالمظهر اللائق، ببشرة قمحية وعينين واسعتين بندقيتين، تظهر عليه علامات الجدية والصرامة، هادئ الحركة، في كلامه ثقل كأنه يطيل التفكير قبل أن ينطق بالكلمات، وكان كثير الصمت يشرد بعيدًا ويغوص في تفاصيل لا يراها إلا هو، تمازجه مساحات من الحزن في عز ابتسامته. لم يكن يعرف بداية رحلته الذاتية التي تلتهمه كثقب أسود شديد الجذب إلا "رحيل" تلك الشابة الجميلة التي كانت تحب عمر، والتي تعرف عليها في الجامعة. رحيل شابة رومانسية ولكنها تتقن فنون العقل، مثقفة إلى حد كبير، هذا ما جعل عمر يرتاح في الكلام معها فهو لا يضطر إلى تفسير كل ما يقوله، وكثيرًا ما كان يصرح لها بتلك الراحة التي يجدها معها فيقول: "إن أشد الحوارات مللاً تلك التي نضطر إلى تفسير كل كلماتها." أما هي فكانت تقول في مزاح أشبه بالحقيقة: "أريد حبك لي كما أحبك." ليصمت بعدها متأملًا وجه رحيل قائلًا: "الحب مادة رائعة نقدمها إلى من نحب، ولكن حياتي السابقة وذكرياتي التي تسيطر على ذاتي لم تمنحني هذه المادة، كل الذي عندي ويستقر في نفسي هو صور قاسية لحياة قاسية تركتني أرضًا جرداء لا تنبت إلا أشباحًا من الصور التي أعرفها ولا أعرفها." ثم يصمت ويشرد، ولكن رحيل تفهم صمته وتعرف دهاليز شروده وتعلم أنه سيعود منها ليقول: "رحيل... في بعض الأحيان تقفز إلى عقلي صور أرى فيها نفسي مع أناس لا أعرفهم، صور بتفاصيل دقيقة، وجوه وأحداث وأماكن، أشعر أني أعرفها جيدًا ولكني لا أستطيع تذكرها، لقد صار الأمر ثقيلًا جدًا ويخيفني!"
تمسك رحيل يده التي بدأت تبرد وترتعش: "أعرف أن حياتك كانت قاسية، لكن لا تترك للذكريات أن تسيطر على حاضرك ومستقبلك. حبيبي، الذكريات إما أن تكون وحشًا يلتهمنا أو أملًا جميلًا يصنعنا.... كن قويًا فأنا معك." وتبتسم ليرتسم خيط ابتسامة رقيق على شفاه عمر.
ولكن هناك أشياء كثيرة تتحول في نفسه وتنعق كغراب منكر الصوت في ذاته، لا تستطيع حتى رحيل فهمها! كان إذا شعر بذلك انطلق نحو ريف قريب من المدينة الصغيرة التي يسكنها، يمشي لساعات طويلة، لا يكاد يهتم لما حوله، فتلك الصور والذكريات التي تسيطر عليه، وتخلق بداخله عالمًا موازيًا يسحبه من واقعه، تفرض نفسها، فيعود لمراجعة كل شيء منها، يتذكر تلك الأسمال البالية التي كان يرتديها، والتي لم تكن سوى صدقات من الجيران وأهل الخير، ويتذكر أيضًا الحذاء الذي مل من إبرة وخيط سي لخضر، ولكم كان تنقبض نفسه ويتصبب عرقًا عندما تبرز صورته وهو يخفي جوربه المتدلي من فتق الحذاء الذي لم يفلح سي لخضر في رتقه، كان يخفيه حتى لا يراه زملاؤه فيضحكون عليه ويسخرون منه. ما زال يتذكر لقمته الحقيرة المكونة من خبز المطلوع البارد وفصين من الطماطم، وهو يرى زملاء الدراسة بلمجات فاخرة، يتذكر كدح سي لخضر وربيعة القافزة وفقرهما الذي كان يجبرهما على النوم بلا عشاء. ذكريات كأنها موج بحر لا تتوقف ولا تهدأ، صار يشعر أنه كومة من الماضي قذفت إلى حاضر لا يكاد يستوعبه، فيحدث نفسه: "يبدو أن القدر أعلن حكمه المؤبد على عقلي بأن أعيش الماضي بكل تفاصيله، لقد أدخلني القدر أنفاقًا مظلمة لا نهاية لها... وقد فعل الماضي فعلته وأرسل خيوطه المفتولة إلى حاضري ومارس علي لعبة الشد." ثم ينتبه فيعيد محاورة نفسه: "كل هذه الصور أعرفها هي ذكرياتي... أحفظها... ولكن ما تلك الصور التي أراها والتي لم تكن جزءًا من حياتي؟ من هم أولئك الأشخاص الذين أراهم؟ بعض الأماكن أعرفها، فهي في المدينة، و أخرى لم أستطع التعرف عليها، ويبدو أنها في دول أوروبية و أمريكية، وأنا لم أبرح الوطن أبدًا." وهكذا يأخذه التفكير حتى ينتبه، فيعود مرهقًا إلى البيت لينام على أمل أن يفهم ما يحدث له.
في غرفته التي رغم تواضعها إلا أنها كانت أنيقة، مرتبة، كل شيء فيها قد اتخذ مكانه المناسب، ولا شك فعمر يقف على تفاصيلها. سريره الذي يحاذي النافذة ذات الستائر البنية منسق بشكل يعتقد من رآه أن امرأة عالية الذوق هي من فعلت ذلك وليس رجلًا، والطاولة التي اتخذها مكتبًا بكرسي خشبي قديم نوعًا ما، يقابلها صورة متاهة حجرية قد علقت بعناية، والجدار الذي خلف الكرسي مكتبة تملأ الجدار كله، قد تنوعت كتبها، كانت هي متعة عمر وعالمه الحقيقي، أين يجد نفسه ويتخلص من بعض تشتته وهو يبحث عن التفسير بين أوراقها.
يستلقي عمر على سريره ويضع كلتا يديه تحت رأسه، ويبحر في خواطره التي يجب أن يستحضرها عنوة كي يتمكن من النوم، ولم تلك الخواطر تستهويه مثل التي تتعلق برحيل... رحيل التي تعرف عليها وهو في السنة الثالثة جامعي وكانت هي في سنتها الأولى، وكان السبب بحثًا جامعيًا طُلب من رحيل، فلما طلبت المساعدة أرشدوها إلى عمر، وأخبروها أن مكانه المفضل المكتبة، وبالفعل وجدته منهمكًا في القراءة لا يكاد يشعر بمن حوله. جلست أمامه وسلمت فرفع بصره إليها مستغربًا: "وعليك السلام... أي خدمة؟"
في ارتباك واضح قالت: "طلبت المساعدة في بحثي فأرشدوني إليك..... آه.. أنا آسفة لم أعرفك بنفسي، أنا رحيل بن محمود طالبة سنة أولى."
أغلق عمر الكتاب الذي أمامه وركز في رحيل وهي تحتضن كتبها، وقد زاد الارتباك من جمالها. "هاتي بحثك." بهذا الرد المباشر من عمر زاد ارتباك رحيل، فقد ظنت أنه سيدخل معها في مناقشة عن من أرشدها إليه، أو أنه سيعتذر. قدمت رحيل بحثها إلى عمر، تفحصها ثم ابتسم: "الأمر بسيط... القليل من التركيز وستفهمينه." بدأ عمر في شرحه ورحيل تركز معه قدر جهدها، محاولة أن تلحق به، وتستوعب كل ما يقول، لكن وميضًا خالطها جعلها تدقق في عمر وتبتسم من وراء شفتيها، "إنه رائع" هكذا حدثت نفسها، وهامت بعيدًا. انتبه عمر إلى أن رحيل انفرط منها عقد التركيز فرفع بصره إليها، هذه المرة لم يستطع أن يرد بصره ولا أن لا يدخل مدن وجهها، هناك شيء يقع الآن، لحظات من الصمت صنعت عالمًا كاملًا بينهما ولكنهما لا يعرفان كيف يدخلانه. صوت من بعيد ينادي عمر فيخرجهما من تلك الحالة التي تجمدا فيها، هناك أشياء مصنوعة بداخلنا منذ أن خلقنا لا تكشفها إلا لحظة لا ندرك ماهيتها، لحظة لم ننتظرها.
قام عمر وقد رفع كتابه ونظر إلى رحيل: "يمكنك الاعتماد علي.. أنا هنا كل يوم في نفس الوقت." بقيت رحيل واجمة في مكانها وحركت شفتيها بكلمة: "شكرًا".... وما إن تحرك عمر نحو الصوت الذي ناداه حتى اندفعت من أعماق رحيل كلمة لم تعلم من أين انطلقت وكيف فكت قيد الخجل وكسرت سلاسله: "غدًا!" ابتسم عمر قائلًا: "إذن... غدًا."
تطورت علاقة عمر برحيل، حتى عُرفا بذلك وشاع خبرهما في الناس، وتمنى الكثير من المحبين أن يكونا مثلهما، ولكن هيهات فطبيعة علاقتهما لم تكن مقصورة على تبادل مشاعر الحب فقط، هما يتعانقان عقلًا وينسجمان شعورا، وكأن أحدهما تكملة للآخر. كانت رحيل تستطيع أن تتخلى عن أنوثتها في تلك الحالات التي يكون فيها عمر يحتاج إلى عقل بحت، كما كانت تسمع منه أكثر مما تتكلم، وتراقب فيه كل شيء حتى كلماته كانت تفلترها في عقلها، ثم تناقشها وتلمس وجعه. وكثيرًا ما قال لها: "أنت الوحيدة التي يترجم لها وجعي سره، وأنت الوحيدة التي تخاطبها نفسي بعيبها ويكشف عقلي لها عن ثقوبه."
وفي خضم هذا التداعي الذي كانت بطلته رحيل، تذكر محاورته القاسية معها: "إن معاناتي مع تلك الصور التي تراودني والتي لا أعرف مصدرها ولا حقيقتها تشعرني أنني أعيش زيفًا كبيرًا. إن تلك الصور تحاول أن تخبرني بشيء ما، وما أخشاه أن يكون لها أصل في حياتي ولكنني لا أستطيع الوصول إليه، لتكون حياتي التي عشتها وأعرف تفاصيلها زيفًا سُجنت فيه."
استمعت رحيل إلى كلمات عمر واكتستها مسحة من حزن وقلق: "هل تعتقد يا عمر أننا يمكن أن نعيش الزيف بهذه التفاصيل حتى يكون أشبه بالحقيقة والواقع؟" "نعم،" يرد عمر بنبرة تأكيدية وبعينين مركزتين على رحيل كأنه يريد أن يقول لها إن الأمر حقيقة لا يقبل النقاش، "الزيف في حياتنا كثير، وربما نحن من نصنعه ونعطيه مشروعية العيش بيننا فقط لنستطيع أن نستمر أو لكي لا نصطدم بحقيقة لا نتحمل وقعها علينا." وفي محاولة من رحيل لإخراج عمر من هذه الحالة التي شعرت أنها تأخذه إلى أفق غامضة قالت ممازحة له: "وأنا... زيف أم حقيقة؟" أمسك عمر يدها وضمها إلى صدره قائلًا: "إن كنت زيفًا فإني أجمع له كل حقيقة في حياتي وأرميها بداخله وأعيشه مقتنعًا، وإن كنت حقيقة فسأتلحف بك وأحمي نفسي من كل زيف." بعد هذه الكلمات شعرت رحيل أنها مستقرة بداخل عمر وأنها قوته وعنوانًا وحيدًا يلجأ إليه... وبصوت خافت فيه الكثير من الأسى والخوف يضيف عمر: "أعلم يا رحيل أني شخصية غير سوية، وأعلم أنك تعانين معي، ولكن للحب ثمن يجب أن ندفعه....." تنتفض رحيل من حضن عمر وتضع رأسه بين يديها الرقيقتين، وتقابل عينيه بعينين جادتين: "كل ما أعلمه الآن وأشعر به أنني أريدك، والذي تسميه ثمنًا للحب هو عندي هبة قلب المحب للمحبوب... وأنت المحبوب."