في الكافيتريا
" دائما ما نحاول البحث عن مكان نلتقي فيه بالأخرين "
على سطح بناية تتوسط المدينة، اختار منير ورحيل طاولة في آخر قاعة الكافيتريا التي كانت جدرانها من زجاج مقوى، تقبع المدينة تحتها فلا يكاد يفلت منها شيء، شوارعها الرئيسة والفرعية تُرى كأنها خيوط متشابكة والناس فيها كأنهم نمل لا يهدأ، ثم يمتد الفراغ من حولها إلى أفق بعيد ضبابي تتخلله مساحات خضراء من الأشجار في تجمعات صغيرة. الموسيقى الهادئة أضفت على المكان جمالًا آخر، كانت هذه الكافيتريا هي ملاذ منير في التأمل والهدوء، هنا يجلس مع نفسه بفنجان قهوة وسيجارة فاخرة.
نظرت رحيل إلى منير وهي تمسك كأس عصير البرتقال بين يديها تفركه في توتر واضح: "هل أنت مقتنع بما ستفعله؟" التفت إليها منير بعد أن أزاح نظره عن الأفق الضبابي البعيد الذي تاه فيه، وركز في وجه رحيل: "نعم بكل تأكيد.. إنه المنفذ الوحيد الذي سأتخلص منه من كل شيء... كل شيء يؤلمني." يصمت قليلًا، ليأخذ رشفة من القهوة ونفسًا عميقًا من سيجارته يكاد يصل إلى كل مكان في جسمه، ثم يعاود الكلام: "هل تشعرين بالتردد...؟" في نبرة تأكيدية ترد رحيل: "إطلاقًا.... أنا مؤمنة بك.. وأريد أن أكون السبب في تخلصك من معاناتك.... وأعلم أنك لا تريد فعل هذا تحقيقًا لذاتك وطموحاتك العلمية ولا تأكيدًا لعبقريتك ولا طلبًا لمكانة علمية.... أنا الوحيدة التي تعرف أنك تريد على عكس ما يعتقد من يعرفك، تريد التخلص من ذات تقلقك."
يجذب منير يد رحيل ليضعها بين راحتي يديه ويباشرها بنظرة تحمل الكثير من الحب والضعف: "اسمعي يا رحيل... صرت مؤمنًا أن الأشياء التي تؤلم ذواتنا ولا نستطيع ترحيلها ولا نسيانها لا حل معها إلا أن نرحل بذواتنا عنها صافية ونتركها.... الموضوع أكبر من بحث ربما سيغير البشرية.. الموضوع هو أن نغير ذواتنا التي تحمل تاريخًا من الآلام ... أريد أن أمكّن البشر من ميلاد جديد." "أفهمك تمامًا.. أنت تريد أن تميت السر الذي يحطمك مع كل ثانية تعيشها. وأفهم أيضًا أن بعض الأسرار تجعل من يقظتنا طائر رخ يأكل من رؤوسنا، ومن نومنا صندوق مسامير ينطبق على راحتنا، وهكذا لا نعيش الحضور ولا نستمتع بالغياب." استرسلت رحيل وكأنها تريد أن يتأكد منير أنها على قناعته.
ولكسر هذا الحديث الغارق في الألم والذكريات علق منير مبتسمًا: "لم أكن أعلم أنك تحسنين كتابة القصص؟" ترد رحيل في تفاخر ممزوج بالمزاح: "هل أعجبتك القصة... هذا من أثر إدماني على كتابة الخواطر؟" "نعم أعجبتني... ستعطيني حياة جديدة تمامًا بمشاكلها الخاصة وبألم يستطيع البشر تحمله والتعايش معه." شعرت رحيل بالفخر، وبأنها استطاعت أن تثقب جدار الألم الذي يحيط بمنير، لينفذ منه ويتحرر من قيده. شعرت أنها اليد الأخيرة الممتدة إليه، وأنها البديل الذي اختاره.