" حياتنا مجرد مخبر نجرب فيه كل شيء حتى نصل إلى نتائج نحولها إلى نصحية "
"هل تعتقدين يا دكتورة ريمة أن الدكتور منير سيقوم بتطبيقات أبحاثه النظرية عن الذاكرة؟" هذا ما استفسر عنه الدكتور مزيان، وهو دكتور مختص في علم الأعصاب، قارب الشيخوخة، أبيض البشرة بشعر خفيف أبيض، ونظارة تستقر على أرنبة أنفه، ينظر من تحتها بعينين غائرتين، طويل القامة يميل إلى النحافة. أما الدكتورة ريمة فهي عالمة وراثة عجوز بشعر قصير أصفر يداخله الشيب الكثير، قصيرة وبدينة، ولكن حركاتها حادة، ورغم سنها المتقدم فهي نشطة وصاحبة ذاكرة قوية. كانت والدكتور مزيان يجلسان إلى طاولة قد ازدحمت بالمجاهر عالية التقنية وأنابيب المخابر والكثير من الأجهزة الطبية، ناهيك عن تلك الخزانة الكبيرة البيضاء المشحونة بالملفات وعلب الأرشيف. كان مخبرًا متوسط الحجم ولكن الظاهر أنه مجهز تجهيزًا متطورًا، وهذا المخبر في قبو فيلا توسطت شارعا قيل الحركة بسور عالٍ، مصممة بأحدث طراز معماري.
ردت الدكتورة ريمة بعد أن رفعت عينها من على المجهر مبتسمة ابتسامة لا يعرف معناها: "أنت تعلم يا دكتور مزيان أن الدكتور منير شاب عبقري وطموح، وبحوثه في الذاكرة لاقت رواجًا كبيرًا في الأوساط العلمية والطبية، أما بحثه الأخير فأعتقد كما أظنك تعتقد أنه الأهم والأخطر، لذلك فالدكتور منير يحيطه بالسرية الكاملة. وأنت تعلم أنه من عائلة غنية جدًا وهو وحيد أسرته، كل هذه العوامل تجعل من الدكتور منير لا يفرط في أول فرصة لتطبيق بحثه."
"ماذا تقصدين بأول فرصة؟" تبتسم الدكتورة ريمة في خبث ظاهر: "إنسان..... يطبق عليه استبدال الذاكرة."
بتعجب كبير ودهشة أكبر ممزوجة بالخوف يقول الدكتور مزيان: "تقصدين أنه سيطبق بحثه على إنسان... أقصد..... كيف.... كيف سيجده....... لا أدري." تستدير الدكتورة ريمة بكرسيها الطبي الدوار إلى الدكتور مزيان المذهول. وبنبرة حادة ووجه صارم كأنه وجه شيطان: "اسمعني جيدًا... نحن نعمل تحت سلطته، وبماله، وأنت تعلم قوته ونفوذ أسرته، لذلك وجب أن لا نناقش ما سيفعله، فقط علينا الطاعة هذا أسلم لنا جميعًا. ثم نحن أيضًا نحقق معه طموحنا العلمي، وربما تطبيقات بحثه ستكون ناجحة فتستفيد منها البشرية، ونكون من يذكره التاريخ." صمتت الدكتورة ريمة قليلًا لتعود وتضع عينها على المجهر لتقول مرة أخرى بلهجة هادئة ولكنها تحمل تهديدًا: "قد يكون الصمت أفضل ما تفعله."
في محاولة من الدكتور مزيان لتلطيف الجو المشحون بالتهديد سأل الدكتورة ريمة: "هل أم منير أجنبية كما سمعنا؟" التفتت الدكتورة ريمة صوب الجالس بجانبها بوجه متغير يشع غضبًا: "وما دخلك أنت أو غيرك في هذا الشأن؟ ورغم ذلك سأقص عليك الحكاية لكي لا تعود إلى السؤال مرة أخرى، ولا تسمع من الناس..... نعم هي برازيلية، تعرف عليها والد منير السيد عبد الرحمن في رحلة من رحلات أعماله في تجارة البن، وأنجب منها منير وهو وحيدهما، ولم يتزوج بعدها إلى الآن..... هل تعلم أني من ربيت منير وحببته في علم الطب وهو كما ترى طبيب ناجح."
في تردد واضح سأل الدكتور مزيان: "إنه قاسٍ بعض الشيء." هذه المرة لم تُعر الدكتورة اهتمامًا لما قال الدكتور مزيان غير أنها قالت مبتسمة وكأنها تفتخر: "بعض القسوة قد ينفع.... أنا من ربيته على المنطق والمنطق لا يعترف بالعواطف..... دكتور مزيان.... الدكتور منير ليس رجلًا عاديًا ويجب أن نقف معه في طموحه، يجب أن تدرك هذا وتعمل على مقتضاه." في هذه اللحظة دخل الدكتور منير فارتبك الدكتور مزيان وابتسمت الدكتورة ريمة وهرعت إليه كأم تستقبل ابنها.
الدكتور منير له هيبة، شاب تشع منه العبقرية وملامحه صارمة، مشغول كل وقته تظهر عليه آثار الثراء، لم يسلم إلا على الأم ريمة كما كان يحب أن يلقبها قائلًا: "لقد قمت بمراجعات لبحثي وناقشته مع أكبر دكاترة الأعصاب والمخ ودكاترة علم النفس الذين أثق بهم، ويبدو أنهم يجدونه نظريًا يعد ثورة في علم الطب بل سيغير البشرية تمامًا....." ابتهجت الدكتورة ريمة بما سمعته واحتضنته وهي تقول: "أنا متأكدة أنك عبقري وطفرة هذا العصر.... يبدو أن مرحلة التطبيق قد حانت..."
بنظرة ثابتة، يشكر فيها هذه العجوز على مساندتها له، رد عليها: "نعم يا دكتورة ريمة... نعم يا أمي.... لقد حانت." وبعد أن طاف بالمخبر يتفقده نظر إلى الدكتور مزيان قائلًا: "هل كل شيء على ما يرام؟" أجاب الدكتور مزيان في توتر وارتباك وبكلمات متقطعة: "نعم... دكتور..... كل شيء على ما يرام." قلب بعض الوريقات من دفتر موضوع على طاولة المخبر ثم نظر إلى الدكتورة ريمة: "سأذهب إلى النوم قليلًا، فالسفر والسهر أرهقاني كثيرًا... ولنا لقاء غدًا." ثم هم بالانصراف، والدكتورة ريمة تنظر إليه بعين حانية فيها الكثير من المشاعر المختلطة، مشاعر الفخر، والترقب، والخوف على الدكتور منير من الإجهاد.
ما إن خرج الدكتور منير حتى بادر الدكتور مزيان بسؤال الدكتورة ريمة: "والله إني أستغرب من هذا الشاب؟" وبدون أن تلتفت إليه قالت: "ما وجه الاستغراب؟" "أقصد الدكتور منير شاب ثري ثراءً فاحشًا، وحيد أسرته، يترك متع المال والشباب ويتفرغ لهذا الشقاء والتعب!" التفتت الدكتورة بوجه منتشي الملامح وبإصبع يتجه نحو محدثها: "هذا هو التميز... وهذه هي العبقرية..... سأخبرك سرًا الدكتور منير يكره وضعه... أقصد المال والنفوذ... لقد حدثني كثيرًا أنه يشعر بالنقص رغم كل الذي حققه.... أتعلم ما هو النقص الذي يشعر به.... لقد سأل نفسه يومًا كما حدثني: "ماذا لو لم أكن من أسرة غنية.. هل سأحقق ما حققته الآن؟" إن هذا الأمر هو وجع منير... أقصد الدكتور منير."
زادت ملامح الاستغراب والتعجب ظهورًا على وجه الدكتور مزيان: "تقصدين أنه يتمنى أن يعيش حياة البسطاء؟". ترد العجوز وهي تتجه نحو كرسيها الدوار: "ليس بالضبط... هو فقط أراد أن يتخيل لو كان منه نسختين، النسخة التي تراها ونسخة أخرى من عائلة فقيرة بظروف صعبة، هل تستطيع النسخة الفقيرة منه أن تكون منير الذي تراه الآن؟" "تفكير غريب!" هذا ما علق به دكتور مزيان كأنه دخل حالة من التخدير. غير أن الدكتورة ريمة استرسلت قائلة: "ليس تفكيرًا غريبًا.. بل صدمة... منير في الثانوية كان يحب فتاة كانت من طبقة متوسطة، ولكنها فضلت عليه شابًا آخر يكاد يكون من أسرة معدمة، فلما ناقشها منير في ذلك قالت له: "ستبقى هبة المال والثروة والنفوذ! أما من فضلته عليك فهو هبة نفسه وجهده." هذه الكلمات جعلت حياته تتغير إلى الشكل الذي تراه... الشكل الصارم والذي لا يهدأ... كل هذا ما زال جمر كلماتها مردومًا في نفسه يحرقه." ...تتوقف الدكتورة ريمة عن الكلام لتذهب في لحظات من الصمت بعيدًا تفكر بحال منير لتعاود مخاطبة الدكتور مزيان: "ربما ثقتي بك جعلتني أكشف لك عن سر من أسرار الدكتور منير.... وأرجو أن تكون أهلًا لها.... بل يجب أن تكون كذلك!!"
****** *****
بعد أن أخذ منير قسطًا وافرًا من النوم ثم حمامًا ساخنًا أزاح عنه تعب السفر ورد إليه قوته الجسدية والذهنية، طلب من الخادمة فنجان قهوته البرازيلية وهو ما زال بلباس الحمام في غرفته الفاخرة، قد وضع فيها سرير مستدير بأغطية وشراشف بيضاء ناصعة، تقابله إطلالة زجاجية قد استوعبت الجدار كله، بستائر فرنسية، من ورائها حديقة الفيلا كأنها أدغال إفريقية. أما الجدار الذي يقابل باب الغرفة فقد علقت عليه صورة كبيرة ببرواز ذهبي للوحة العشاء الأخير ليوناردو دافنشي، وتحتها استقرت طاولة خشبية مرصعة بخيوط ذهبية، قد وضعت فوقها بعض إكسسوارات منير. نظر منير اتجاه السرير إلى النائمة على بطنها وقد سترت مؤخرتها بشرشف ليبقى ظهرها العاري مكشوفًا كما كُشف أسفل جسدها حتى فخذيها، بشعر مفرود على وسادتها... نظر إليها منير مبتسمًا: "رحيل..... هيا حبيبتي.. استيقظي." تململت على فراشها لتستدير إليه مستندة إلى وسادتها بصدر عارٍ، وبابتسامة فيها رائحة الغنج والدلال: "يبدو أن شوقك إلي كان جارفًا." رد عليها وهو يلتقم سيجارته ليشعلها بقداحته الذهبية: "أكيد.. حبيبتي... ، خذي حمامًا وارتدي ملابسك... لدينا عمل كثير، هذه الأمسية."
في غضون ذلك تأنق الدكتور منير ثم اتصل بالدكتورة ريمة هاتفيًا: "أهلًا أمي... كيف حالك؟" "أنا بخير... أرجو أن تكون قد ارتحت قليلًا." "أنا في كامل نشاطي... أريد منك أن تجهزي اجتماعًا مع كل الدكاترة المشاركين في البحث هذه الأمسية.... سنضع اللمسات الأخيرة." "حاضر... دكتور سأفعل." "مع السلامة!" "مع السلامة."
جلس منير على حافة السرير، يفكر في اجتماع اليوم وفجأة تقف رحيل بلباس رسمي وجسد ممشوق الطول في كامل أناقتها وأنوثتها. وقف منير وأمسك بذراعها يحثها السير وهو يقول: "جميلة... ومثيرة كما كنت دائمًا." ثم خرجا.