sedra12

Share to Social Media

الفصل الثاني عشر والاخير:

 

استيقظتُ بعد ليلة مُرهقة، مليئة بالتوتر والقلق…

لم أذق طعم النوم تقريبًا. كلما أغمضتُ عيني، عاد وجهه ليظهر أمامي… ذلك الغريب.

عودته لم تكن مجرد مصادفة، بل صفعة من الماضي، ذكّرت عمر أن ما دفنه بيديه… لم يُدفن فعلًا.

 

لقد ظهر فجأة، كأنه خرج من رحم الظلام. وقف عند باب القصر، حدّق في عيني عمر، وقال ما يكفي لإحياء الذنب والخوف داخله… ثم اختفى.

لم يقل الكثير… لم يطلب شيئًا… فقط أراد أن يُعلِم عمر بأنه ما زال على قيد الحياة… وأن الماضي لم يُغلق.

 

غادر كما جاء، بصمتٍ وغموض، وكأن الهواء انطوى خلفه ليبتلعه.

لكن رغم اختفائه، لم يختفِ أثره…

 

كانت سيلين قد رأت المشهد من بعيد، ولم تجرؤ على قول شيء،

أما سارة… فما زالت طريحة الفراش، تهذي باسم طفلها، وصوت طلال يبكي ما زال يُلاحق الجدران ليلاً.

 

وهكذا، بعد ليلة ثقيلة، فتحت الشمس عينيها، لكن القصر لم يعرف النور.

 

·     * * * * * * * * * *

 

دق... دق... دق...

ارتجف الصمت بين جدران القصر بصوت الطرقات الخفيفة على باب المكتب.

لم يكن عمر في غرفته منذ ليلة الأمس… بل قضى الليل كله جالسًا في مكتبه، يتأمل الفراغ، يتصارع مع أفكاره… ومع شبح الماضي الذي عاد حيًّا.

 

سيلين من خلف الباب، بصوتٍ حذر:

"عمر، هل يمكن أن أدخل؟"

جاء رده مرهقًا، خافتًا من الداخل:

"تفضلي…"

 

دخلت سيلين بهدوء، تحمل بيدها كوبًا من النعناع الساخن، وعيناها تراقبان ملامحه المتعبة، ووضعته على طاولة المكتب.

 

سيلين: "صباح الخير… أعلم أنك لم تنم بسبب ما حدث ليلة البارحة."

 

عمر (يحرك رأسه بإيماءة خفيفة دون أن ينظر إليها):

"نعم… لم يكن من السهل تجاهل ما حدث. ماذا تريدين يا سيلين؟"

 

اقتربت بخطوات هادئة وقالت:

"أردت أن آخذ الإذن منك للذهاب إلى والدتي… أحتاج لزيارتها اليوم. هل تسمح لي؟"

 

عمر: رفع نظره نحوها أخيرًا… كان في عينيه شيء من الحيرة والتعب، لكنه أومأ بالموافقة قائلاً بهدوء:

"نعم… يمكنكِ الذهاب. خذي الوقت الذي تحتاجينه."

ابتسمت سيلين بلطف وقالت:

"شكرًا لك، وسأعود قبل حلول المساء… اعتنِ بنفسك، سيد عمر."

 

خرجت من المكتب بهدوء، لكن قلبها كان مثقلًا بالقلق… تعلم أن ما حدث البارحة لم يكن نهاية شيء، بل بداية لما هو أسوأ.

     

·     * * * * * * * * * *

 

خرجت سيلين من القصر وهي تلقي نظرة أخيرة على نوافذه العالية، كأنها تتفقد ظلال الأسرار التي ما تزال تختبئ في زواياه. الهواء كان ثقيلاً بعض الشيء، والشمس بالكاد تخرج من بين الغيوم، وكأن السماء تشاركهم حزن الأيام الأخيرة.

 

مشيت نحو الطريق المؤدي إلى البلدة، والقلق يراودها... ليس فقط على سارة، ولا على عمر الذي بدأ ينهار بصمت، بل على ذلك الغريب الذي ظهر فجأة واختفى.

 

ركبت سيارة الأجرة التي كانت تنتظرها خارج القصر، وجلست قرب النافذة، تنظر إلى الأشجار التي تمرّ أمامها واحدة تلو الأخرى… في عينيها شيء لم يكن موجودًا من قبل. شيء يُشبه الشك، أو ربما… الخوف.

 

بينما كانت الطريق تمتد أمامها، بدأ ذهنها يسترجع ما رأت ليلة العزاء…

وجه الغريب.

نظراته الثاقبة.

كلماته المقتضبة.

همست لنفسها:
"من أنت يا سيد فهد؟ ولماذا عدت الآن؟ ولماذا شعرت أن قلب عمر توقف للحظة حين رآك؟"

وصلت إلى باب منزل والدتها، تنفست بعمق قبل أن تطرقه… لكنها لم تعلم أن ما ينتظرها في الداخل قد يكون مفاجئًا أكثر مما تتوقع…

طرقت سيلين الباب ثلاث طرقات خفيفة، فُتح بسرعة، وكأن والدتها كانت تقف خلفه مباشرة.

الأم (بدهشة ممزوجة بالقلق):
سيلين! حبيبتي، ما بكِ؟ لم أركِ منذ أيام… وجهك شاحب، هل كل شيء بخير في القصر؟

سيلين (تحاول الابتسام):
أنا بخير ماما… فقط احتجت لرؤيتك قليلاً… كل شيء كان مضطرب، وسارة... حالتها لم تكن جيدة.

خطت سيلين خطواتها الأولى داخل المنزل، وفجأة توقفت عند عتبة الصالون، تنظر نحو الحائط حيث لا تزال صورة والدها معلقة، يبتسم فيها بهدوء.

(بهمس داخلي)
"بابا... كم أشتاق لدفء هذا البيت لما كنت فيه..."

اغرورقت عيناها بالدموع لكنها مسحتها سريعًا حتى لا تلاحظ أمها.

الأم (تأخذ يدها وتدخلها بسرعة):
ادخلي، اجلسي، سأحضر لكِ شاي يهدئك، ثم تخبريني كل شيء… أنتِ قلقة وأعرف ذلك من نظرتك.

جلست سيلين على الأريكة، تنظر للصورة مجددًا وكأنها تطلب الطمأنينة من عيني والدها، ثم غابت قليلاً في أفكارها حتى عاد صوت أمها يحمل كوب الشاي، ويعيدها للواقع…

الأم:
هل حصل شيء بينك وبين عمر؟ أم سارة ما زالت تهلوس؟

سيلين (بهمس متردد):
لا يا أمي، هناك شيء آخر… شخص… غريب… ظهر يوم العزاء. لا أحد يعرفه، لكنه قال إن اسمه فهد. وبعد يومين… عاد وطرق باب القصر. لكن… عمر لم يخبر أحد بما دار بينهما.

تغيرت ملامح الأم فورًا، نظرت إلى ابنتها نظرة حادة لكنها لم تنطق.

سيلين (بقلق):
أمي؟ هل تعرفين شيئًا؟ رأيتكِ تصمتين فجأة...

الأم (ببطء):
فهد؟ هل قلتِ فهد؟ وهل... كان يرتدي معطفًا أسود؟

سيلين (مندهشة):
نعم! كيف عرفتي؟!

الأم نظرت إلى الأرض وهمست:
"لأنني أعرف من هو… لكنني لم أتوقع أنه لا يزال حيًّا..."

سكتت الأم طويلاً، ثم جلست بجانب ابنتها ببطء، وكأن وزن الذكريات أثقل من أن يُحتمل.

قالت الأم بصوت منخفض، فيه رعشة قديمة: "فهد… والدك عادل… وفؤاد...نزار والد كنان الصحفي … والسيد محمد والد عمر… كانوا خمسة رجال… اجتمعوا في زمان مضى، وخاضوا معًا مواجهة مع كيانٍ ليس من هذا العالم. كيان سكن القصر منذ أجيال… خرج من كتابٍ ملعون، وهدد كل من تجرأ على قراءة تعاويذه."

نظرت سيلين بذهول، لم تفهم كل شيء لكنها شعرت بقلبها ينقبض.

تابعت الأم:
"حبسوه داخل مرآة… مرآة قديمة مخفية خلف جدار من الأسرار، مستخدمين تعويذة كانت آخر ما تبقّى من ذلك الكتاب. ومنذ ذلك اليوم، اتفق الخمسة على ألا تُفتح تلك الغرفة، ولا يُلمس الكتاب… لأن الكيان لا يموت، لا يُحبس للأبد… هو فقط يُجمد. لكنه يستطيع… يستطيع أن يتسلل، أن يتحكم بالبشر كما لو كانوا دمى… دمى في مسرحه الجحيمي."

همست سيلين بدهشة: "يتحكم؟! مثل لعبة؟"

أومأت الأم برأسها، وشفتاها ترتجفان: "تمامًا… طالما أن المرآة سليمة، فهو لا يتحرر بجسده، لكنه قادر على زرع الرعب، أن يتحكم بمن يضعف، أن يوسوس، أن يهذي… أن يقتل دون أن يلمس."

وضعت سيلين الكوب على الطاولة بسرعة: "أمي… لماذا لم تخبريني؟ لماذا لم يخبرنا أحد؟"

نظرت إليها الأم نظرة حزينة: "لأنهم اتفقوا أن يحملوا السر معهم… لكن والدك، رحمه الله، ترك لي كل شيء، أخبرني قبل أن يُقتل أن فهد قد يعود… وأن الكيان لن يظل نائمًا للأبد."

سكتت الأم لحظة ثم همست بصوت يكاد يُسمع: "عودة فهد… تعني أن العهد انكسر."

سكتت الأم قليلاً، ثم التفتت إلى سيلين، وعيناها تلمعان بدموع محبوسة. مدت يدها تمسك بيدها برفق، وقالت بصوت مكسور لكنه حازم:

"سيلين… لا تتدخلي في أمور أكبر منك. والدك، قبل أن يُقتل، أخبرني بأن أحميك… أن أعتني بك، وأن لا أسمح لكِ أبدًا أن تتورطي في هذا الجنون. قال لي بوضوح: إذا استيقظ الكيان، لا تدعيها تقترب…"

شهقت سيلين بصوت خافت، وفتحت فمها لتعترض، لكن والدتها شدّت على يدها بقوة هذه المرة وأكملت:

"تذكّري يوم عزاء والدك… عندما تقدّم السيد عمر بطلب الزواج منك؟ ذلك لم يكن صدفة يا سيلين… لقد كان تنفيذًا لوصية أخرى."

نظرت سيلين إليها بذهول: "وصية؟ أي وصية؟"

الأم تنهدت، وكأنها تطفئ ناراً بداخلها وقالت:

"عمر ليس غريبًا عنكِ… هو قريبك بالدم والنسب. عمه مصطفى… وزوجته ورد… هما والديكِ الحقيقيين. نحن فقط… أنقذناكِ من الموت يوم احترق قصرهم، وكان كل شيء يُنهار فوق رؤوسهم. والدك عادل تبنّاك وربّاك كأنكِ ابنته، وأوصاني قبل أن يموت أن أُعيدك إلى مكانك… إلى نسبك الحقيقي."

انهارت سيلين على ظهر الأريكة، أنفاسها متقطعة، وكأن الأرض انقلبت من تحتها.

الأم تابعت وهي تمسح على شعرها:

"أعلم أن الأمر ثقيل… لكنك تستحقين الاستقرار، الحماية، والحب… وعمر يحبك، أنا أراه في عينيه. وافقي عرضه يا بنتي… عيشي حياتك بسلام، ودعي هذا الصراع لأصحابه… أنتِ تستحقين الأمان، لا الرعب."

نهضت سيلين بصمت من على الأريكة، والغصة تخنق حلقها، لكن وجهها كان جامدًا. تقدمت نحو النافذة تنظر إلى السماء الرمادية، ثم استدارت نحو والدتها وقالت:

سيلين (بصوت منخفض لكنه ثابت):
"سوف أتصل بعمر… سأطلب منه أن يأتي ويتناول الغداء معنا."

الأم (بهدوء وارتياح):
"أحسنتِ يا ابنتي… خطوة صغيرة نحو الحقيقة، وخطوة كبيرة نحو نجاتك."

أخرجت سيلين هاتفها، وبدأت تكتب رقم عمر… يدها كانت ترتجف قليلاً، لكنها أرسلت الاتصال، وانتظرت.

ثوانٍ مرت كأنها دهر.

صوت عمر من الطرف الآخر، صوته كان متعبًا:
"سيلين؟"

سيلين (بهدوء فيه دفء غريب):
"مرحبًا عمر… أمي تحضّر الغداء، ونحن نرغب أن تأتي وتتناول الطعام معنا…"

صمت عمر للحظة، ثم قال:
"هل كل شيء بخير؟"

نظرت سيلين إلى والدتها، ثم أغمضت عينيها وهمست:
"بعد الغداء… ربما لا يكون شيء كما كان من قبل."

                 * * * * * * * * * * *

منزل والدة سيلين – وقت الظهيرة

جلس الثلاثة حول الطاولة، الأم وضعت أطباق الأرز والدجاج بحرصٍ زائد، كأنها تحاول إخفاء ارتجاف يديها. عمر كان صامتًا أغلب الوقت، ينظر إلى سيلين بنظرات فيها قلق وشيء خفي لم تُفلح في قراءته.

الأم (بصوت خافت وهي تسكب الطعام):
"تفضل يا عمر… أعلم أنك متعب."

عمر (ينظر إليها شاكراً):
"شكراً خالتي… البيت دايمًا دافئ بوجودك."

سيلين كانت تنظر إلى طبقها، تحرّك الطعام فيه ببطء، دون أن تأكل.
نظرة الأم كانت تراقبها من تحت الرموش.

عمر (يحاول كسر الصمت):
"أين والدتكِ يا سيلين؟ كانت دائمًا تحب الحديث وقت الطعام."

سيلين (تبتسم بابتسامة هشة):
"هي هنا... لكنها تحمل أسرارًا لا تريد قولها."

سقطت شوكة الأم على الأرض.

الأم (بصوت حاد):
"سيلين… الطعام ليس مكانًا لكشف دفاتر الماضي."

عمر (ينظر بينهما):
"هل هناك شيء لم أعلمه؟"

سيلين (بهدوء تام):
"أمي… قولي له، من هو السيد فهد؟ ولماذا يعرف والدي؟ ولماذا تشعرين بالخوف منه؟"

ارتبكت الأم. ثم وضعت الملعقة، ورفعت رأسها ببطء.

الأم (بصوت منخفض لكنه يحمل سنوات من الكتمان):
"السيد فهد… كان شريكًا لوالدك… ووالد كنان… ووالدك يا عمر... كلهم اجتمعوا ذات ليلة منذ سنوات طويلة، في قبو ذلك القصر…"

صمتت لثوانٍ وكأنها تسترجع الصور القديمة في رأسها.

الأم (تكمل):
"حبسوا كيانًا… شيئًا ليس من هذا العالم… في مرآة، تعويذة من كتاب وجده جدك عندما كان صغيرًا. المرآة كانت الفخ… طالما بقيت سليمة، الكيان لا يتحرر، لكنه يستطيع أن يتحكم بمن يشاء، يجعلهم مثل الدمى... حتى أن والدك يا سيلين... دفع الثمن."

سيلين (بهمس):
"وهل ما زال الكيان... هناك؟"

الأم (نظرة حادة):
"لا تسألي… فقط اتركي الأمر… والدك قبل موته أوصاني ألا تسمحي لنفسكِ بالدخول في هذا الجنون. وافقي عرض عمر… واحمي نفسك."

عمر (بدهشة):
"عرضي؟ أي عرض؟"

الأم (بصوت منخفض وكأنها تُنهي الحديث):
"زواجك من سيلين… ليس فقط للعاطفة… بل للدم، للحماية، لأنكما الوحيدين اللذين ما زالا في دائرة الخطر."

عند باب البيت، وقفت سيلين ووالدتها وعمر.
نظرات وداع صامتة، وكلمات غير مُقالة تسبح في الهواء.

عمر (بنبرة قلق وهو يفتح باب السيارة):
"هيا يا سيلين، لنعد إلى القصر... سارة وحدها، وأنا قلق عليها."

الأم (تضع يدها على ذراع سيلين، ثم تنظر إلى عمر بجدية):
"انتبه لها… أرجوك، احمِ ابنتي، فهناك أشياء لا يمكنها مواجهتها وحدها."

أومأ عمر بثقل، ثم ساعد سيلين في الصعود إلى السيارة.
انطلقت العجلات على الطريق الحجري، والغروب يُلقي بظلاله الذهبية على الزجاج الأمامي.

داخل السيارة، الصمت كان سيّد المكان. لكن سيلين قطعت السكون بصوت خافت يحمل ارتجافه شك:

"هل كنت تعرف… بشأن ذلك الكيان؟"

عمر شدّ يده على المقود، نظر أمامه دون أن يلتفت، وصوته خرج متوترًا، مليئًا بالندم:
"لا… لم أكن أعلم الحقيقة كاملة… لم يخبرني أحد."

نظرت إليه سيلين مطولاً، تحاول قراءة ملامحه، لكنها لم تجد سوى ارتباك رجل يخشى ماضيه.

"وماذا عن السيد فهد؟" سألت، ونبرتها أكثر حدة هذه المرة.

أخذ عمر نفسًا عميقًا، وكأن الجواب يخنقه قبل أن ينطقه:

"عاد لينتقم… مني. قبل سنوات… كنتُ حديث العهد بالأعمال، ووقعتُ في صفقة مع فهد لشراء شحنة أسلحة. لكنه… غشّني. غشّنا جميعًا. وعندما واجهته… تشاجرنا… وضربته على رأسه، اعتقدتُ أنه مات."

سيلين شهقت بصوت منخفض، عيناها اتسعتا بصدمة.

"أنت… حاولت قتله؟ "صفقة سلاح؟! أنت… تحاول قتله لأنه غش؟ هذا… هذا كثير يا عمر!"

عمر بصوت متحشرج:
"لم أكن أريد قتله… كنت غاضبًا. خان ثقة والدي… وخان الشركاء.

سيلين (بهمس مرتبك):
"وظننت أنه مات… لكنه نجا…"

عمر (بصوت منخفض):
"كنت شابًا، متهورًا… ضربته على رأسه، ظننت أنه مات… وخبأت الحقيقة عن الجميع… حتى عن والدي."

سيلين (تنظر من النافذة):
"والآن عاد… ويعرف أنك السبب…"

نظرت سيلين من نافذة السيارة، وصوت الريح يمر بجانبها كأنها همسات من عالم آخر… عالمٍ لا يرحم من ينبش ماضيه.
سيلين (بصوت مخنوق):
"هل يمكن أن يكون هو من حرّك الكيان؟ أو أنه تحالف معه؟"

عمر (بصوت مرتجف):
"الكيان لا يحتاج لتحالف… هو يستخدم كل من يلمس سره، كل من يعرف اسمه، كل من ينظر إليه طويلًا في المرآة…"

سيلين (تضع يدها على صدرها):
"أنا… أنا رأيت شيئًا غريبًا في المرآة مرة… في القصر…"

عمر (ينظر إليها بدهشة):
"ماذا رأيتِ؟"

سيلين (بهمس وكأنها تخاف من قولها):
"وجهي… لكنه لم يكن أنا… كان يبتسم بطريقة شريرة… عيونه كانت سوداء بالكامل…"

عمر (يضغط على الفرامل فجأة):
"متى؟! متى رأيتِ هذا؟!"

سيلين (ترتجف):
"في الليلة التي استيقظت فيها سارة وهي تصرخ…"

عمر (يتنفس بسرعة):
"الكيان يقترب… إنه يختار ضحيته التالية."

               * * * * * * * * * * * *

داخل القصر – تلك الليلة

عاد عمر وسيلين إلى القصر معًا، كانت سيلين شاردة تحدّق في النوافذ العالية، والمرايا التي يعكس زجاجها عتمة المساء. سارة كانت نائمة، وهدوء غير معتاد خيّم على المكان، وكأن القصر بأكمله يحبس أنفاسه.

عمر (وهو يخلع معطفه):
"إن احتجتِ إلى شيء… نادي عليّ، سأكون في مكتبي."

سيلين (بصوت خافت):
"شكرًا… أظنني سأخلد إلى النوم."

مشت بخطى هادئة نحو جناحها، والشموع على الجدران ترقص ألسنتها بنورٍ خافت، بينما الريح تعصف من خلف النوافذ بإلحاحٍ لا يُفهم.

دخلت غرفتها وأغلقت الباب خلفها. نظرت في المرآة لحظة… شعرت وكأن انعكاسها تأخر لحظة عن اللحاق بها.

همست لنفسها:
"تخيلات… فقط تخيلات."

أطفأت الضوء… وعمّ الصمت.

في صباح اليوم التالي – القصر

مع أول خيوط الشمس، انطلقت أصوات خفيفة في الأروقة… خدم يتجولون، أبواب تُفتح وتُغلق، خطوات ناعمة فوق الأرضية الباردة.

لكن...

عندما جاءت الخادمة لتوقظ الآنسة سيلين، طرقت الباب ولم تلقَ أي رد.

"آنسة سيلين؟… آنسة سيلين؟"

فتحت الباب… الغرفة فارغة، السرير مرتب، وكأن أحدًا لم يلمسه. النوافذ موصده، ولا أثر لملابسها، لا حذاء… لا معطف… لا صوت.

ركضت الخادمة إلى الطابق السفلي.

الخادمة (بصوت مرتجف):
"سيدي عمر!… الآنسة سيلين… ليست في غرفتها!"

عمر (ينتفض من مقعده):
"ماذا تقصدين؟ هل خرجت؟!"

الخادمة:
"لا… لا أحد رأى خروجها، البوابات مغلقة من الداخل!"

ركض عمر إلى جناحها بنفسه، دخل، راح يناديها:
"سيلين! سيلين!!"

لكن لا صوت، لا أثر، وكأنها… تبخرت.

وقف في منتصف الغرفة، يتنفس بعنف، يشعر بأن شيئًا ليس طبيعيًا يحدث…

وعيناه تقعان فجأة على المرآة الضخمة المقابلة للسرير…
ضوء الشمس ينعكس فيها بشكل غريب…

وكان هناك شيءٌ ما…
ظلٌ خافت خلف الزجاج… كأن شخصًا ما ينظر من الداخل.

                 * * * * * * * * * * *

وقف عمر وسط غرفة سيلين، يحدّق في المرآة الكبيرة، أنفاسه ثقيلة، عيونه تراقب كل تفصيله...
كل شيء كان يوحي أن سيلين لم تغادر الغرفة، بل اختُطفت من داخلها.

التفت فجأة، وركض خارجًا من الغرفة، صوته يدوّي في القصر:

عمر (بصوت غاضب وقلق):
"افتحوا الأبواب! فتشوا كل مكان! لا أحد يغادر القصر دون إذني!!"

ركض نحو القبو، ذاك المكان الذي أقسم ألّا يطأه مرة أخرى…
لكن الآن… لا وقت للوعود.

في القبو – أسفل القصر

المكان مظلم، رطب، رائحة العفن والسحر القديم تعبق في الهواء. خطى عمر ترتجف فوق الدرج الحجري، وهو يحمل فانوسًا قديمًا.

وصل إلى الباب الحديدي المغلق. فتحه ببطء، وصوت الصرير مزّق صمت القبو.
تقدّم، ونظر إلى المرآة القديمة المغطاة بقماش أسود. قلبه كان يعلم… الإجابة خلف هذا الزجاج الملعون.

نزع القماش دفعة واحدة.

عمر (بصوت منخفض):
"أنت تسمعني… أليس كذلك؟"

الصمت...

ثم… خفق ضوء الفانوس، والمراية بدأت تومض ببطء.

عمر (بغضب):
"أين هي سيلين؟! ما علاقتك باختفائها؟!"

ظهرت على سطح المرآة تموّجات… كأن سطحها ماء ثقيل…
ثم… ظهر وجه مشوّه، نصفه ظل، ونصفه نار… صوت الكيان خرج كالفحيح:

الكيان:
"لقد أتيتَ متأخراً… كما فعل والدك تماماً."

عمر (يتراجع خطوة):
"أين هي؟! إن أذيتها، سأمزق المرآة وأحرق الكتاب!"

ضحك الكيان بصوت رجّ القبو:

الكيان:
"لقد دُعيتْ إليّ… لم أختطفها… بل أتت من تلقاء نفسها.
كان عليها أن تعرف من تكون حقاً…
سيلين ليست كما تظن..."

تجمّد عمر في مكانه.

عمر:
"ماذا تعني؟!"

الكيان:
"اسأل والدتها… اسأل الكتاب…
فهي مفتاح اللعنة… والمرآة لا تفتح… إلا لها."

وفجأة، انطفأ الفانوس… وامتلأ القبو بصوت همسات خافتة…
والمراية… أغلقت على نفسها ببخار كثيف.

لكن فجأة…

عمر (بغضب قاطع، صوته يرتجف من القهر):
"أنت تكذب!!"

(يضرب الحائط بقبضته)

"سيلين ليست من عالمك… ولا لها علاقة بلعنتك!
تختبئ خلف الزجاج وتتلاعب بنا كأننا دمى، لكني لن أسمح لك بعد الآن!"

الكيان (صوت متهكم، يضحك):
"كذب؟ أنت من كذب على نفسه طوال هذه السنين…
ألم تسأل يومًا لماذا لم تُصب بالجنون كما أصيب غيرك؟
لماذا لا تؤثر عليك طقوسي؟
لأنك مَسْلوب مني، لأنك مَن كسر العقد…"

عمر (يصرخ):
"أخرج!! أرني وجهك! تعال إليّ كرجال، لا كخيال خلف زجاج!!"

اقترب عمر بخطوات متوترة من الصندوق الخشبي القديم، ويده ترتجف فوق غلاف الكتاب الملعون الذي بدأ كل اللعنة.
حدّق في المرآة الكبيرة المعلقة على الجدار، انعكاسه فيها بدا مشوهًا، كأنه لم يعد يعرف نفسه.

بغتةً، صرخ بكل ما بقي فيه من غضب وقهر، وأمسك الكتاب بقوة، ثم رماه نحو المرآة بكل عنف!
تحطمت المرآة إلى عشرات الشظايا المتناثرة، وانتشر صوت تهشمها في القبو كصرخة روح تنكسر.

فجأة... خرج من داخل المرآة المحطمة صوت أجش، غليظ، كأنه قادم من أعماق جهنم:

_ "خطأك الأخير... لقد أيقظتني تمامًا، يا عمر."

اهتزت جدران القبو، وسقطت بعض الكتب القديمة من الرفوف، وارتفعت رياح باردة بين شظايا الزجاج المكسور كأنها أنفاس ميت.

ثم… انفلق الجدار خلف المرآة ببطء، محدثًا شقًا مظلمًا، كأنه باب قديم كان مغلقًا منذ قرون.
ومن ذلك الظلام... خرجت يد بشرية، لكنها سوداء كالفحم، بأظافر طويلة، تقطر دمًا.

عمر تراجع خطوتين للخلف، وعيناه تتسعان بالرعب...

_ "من أنت؟!"
_ "أنا ما خلّفته خلفك… وآن الأوان لنكمل ما بدأناه."

بدأت الأضواء تومض وتختفي، وصرخات خافتة تعلو من زوايا القبو، وكأن الأرواح بدأت تستيقظ واحدة تلو الأخرى.
تراجع عمر بخوف، لكن قبل أن يصل إلى السلم المؤدي للأعلى...

"طاااااخ"
أُغلق باب القبو بقوة خلفه، وانطفأت الأضواء فجأة.
لم يعد هناك سوى صوته المتسارع وأنفاسه الثقيلة...
ثم سمع همسة قريبة جدًا من أذنه:

"أغلقتُ الباب... كي لا تخرج أبدًا."

               * * * * * * * * * * *

الظلام دامس…
صوت أنفاس عمر يعلو، قلبه يدق كأنه سيخرج من صدره، يبحث بيديه المرتجفتين عن أي مصدر ضوء.

عمر (بصوت مرتجف):
"أين أنت؟! ماذا تريد مني؟!"

صوت الكيان (من كل الجهات، كأنه يخرج من الجدران):
"لا أسئلة بعد الآن… فقط تذكّر… كنتَ طفلًا عندما بدأت اللعبة… أنت من فتح الصندوق."

عمر (يتجمد):
"مستحيل… كنت طفلًا… لا أذكر…"

وفجأة، تنعكس على إحدى شظايا المرآة المحطّمة صورة صبي صغير، عمره ٨ سنوات، يحمل فانوسًا ويقترب من الصندوق، ويقرأ تعويذة من الكتاب…
كانت تلك ذكرى قديمة مدفونة في عقل عمر، نسيها… أو نُسيت عن قصد.

صوت الكيان (ساخرًا):
"فتحت الباب… والآن أغلقته على نفسك."

عمر (يصرخ):
"لم أقصد! لم أكن أعرف!!"

فجأة… يُفتح الشق الأسود الذي خرجت منه اليد أكثر… ويُسحب عمر بسرعة خارقة إلى الداخل!

يجد نفسه في مكان غير واقعي، مظلم… لكنه مألوف بطريقة مشوّهة…
غابة مشققة الأرض، سماؤها سوداء، وأصوات بكاء تأتي من كل اتجاه…
وفي وسط المكان…
سيلين ممددة، محاطة بأربعة تماثيل حجرية تشبه والدها، فهد، والد كنان، ووالد عمر... وكل تمثال يبكي دمًا.

الكيان (بهدوء شيطاني):
"أنت جلبتني... وسيلين ستكون الضحية... ما لم تختَر."

عمر (يصرخ):
"ماذا تختار؟!!"

الكيان:
"إما أن تنقذها… وتموت مكانها…
أو تعيد الكتاب… وتفقد روحها للأبد."

               * * * * * * * * * * *

الكيان، بصوت منخفض لكنه مرعب، كأن صدى من تحت الأرض:

"أجل يا سيلين... كنتِ هناك، يوم اشتعلت النار في القصر، لكنكِ لا تذكرين... كانوا يحتفلون بعيد ميلاده العاشر، عمر... وكنتِ أنتِ، لين، ابنة عمه. لكن الحريق... التهم كل شيء، والدته، مصطفى، ورد... والجميع ظن أنكِ متِ أيضًا، لكن والدك أنقذك... وربّاك بعيدًا عن الحقيقة."

سيلين، تهمس وهي تتراجع:

"ماذا... ماذا تقول؟ لا... هذا مستحيل..."

الكيان، بابتسامة مشوهة وهو يظهر جسده المظلم رويدًا رويدًا:

"لا شيء مستحيل يا لين... أو يجب أن أقول، سيلين... اسمعيني جيدًا، فأنا كنت شاهِدًا على كل شيء. كنتُ هناك حين كانوا يسخرون منه في المدرسة... حين تمزقت أوراقه وضُرب حتى بكى. كنتُ هناك حين قُتل حازم، ابن السيد فؤاد، وُجد جثةً مقطعة بسكين غير حاد... يتلوى من الألم حتى مات."

"ورأيتُ أصدقاء حازم، وقد سُلب منهم البصر لأنهم رأوا ما لا يجب أن يُرى... لقد رأوني."

سيلين، بصوت مرتجف:

"توقف... أرجوك..."

الكيان، يضحك بخبث:

"أوه، نحن لم نبدأ بعد... أتذكرين حفل الزفاف؟ عندما خانته الفتاة التي أحبها... سوسن... احترق الحفل بالكامل، ومات الجميع عدا العروسين. العروس فقدت عقلها، والعريس... اختفى. ثم جاء موت والده، سقط من المرتفع كما يُسقط الفريسة. وجثة ابن عمه الذي خان زوجته سارة؟ ممزق، بلا رأس أو أطراف... عشيقته كانت مرمية كالدُمية."

"أما الصحفي كنان... ذلك الوقح الذي ظن أنه قادر على كشف الحقيقة، مات لأنه اقترب كثيرًا من النور… ومات جلال الذي طمع بكِ، بلا عيون، بلا لسان، بوجه لا يُطاق حتى النظر إليه..."

"وفي النهاية... السيد فهد... لقد حاول قتله... لكن الدم لا يُقتل بسهولة."

الكيان يقترب من سيلين أكثر، يهمس:

"أتعرفين يا سيلين؟… أنا لا أُقتل. أنا فقط أعود أقوى، كلما ظننتم أنكم دفنتموني، أخرج من صدعٍ في مرآة... أو من رعبٍ في عقل."
"ونسيت أن أخبرك بشيء صغير جدًا... والدك..."

تتجمد سيلين بمكانها، تنظر إليه بعينين دامعتين:

"ما به والدي؟!"

الكيان يضحك بصوت يتردد كصدى في جدران القبو:

"أنا من قتل والدك... لكن ليس بيدي... بل بيد عمر، حبيبك."

يقهقه بجنون:

"هاهاهاهاها... مؤلم؟ مأساوي؟ أم فقط الحقيقة التي تأخرت كثيرًا؟"

سيلين بجرأة:
"أنت تكذب أيها الشيطان اللعين!"

الكيان يبتسم، ببطء، بسخرية مشؤومة. صوته ينخفض ليصبح همسة تخترق الروح:

«إذًا... دعيني أريك الحقيقة بعينيك.»

يمد يده السوداء فوق وجه سيلين... تلامس باردة تغمر جبينها، ويتلاشى كل شيء من حولها في لحظة...

[رؤية الماضي – بعيني سيلين]

غرفة مظلمة، جدرانها مشبعة بالدم... ضوء القمر يتسلل بخجل عبر نافذة مكسورة.

ترتفع الرؤية ببطء... وتثبت على السرير...

هناك... جسد ممدد بلا حراك...

أبوها.

مضجع على السرير وكأن نومه هادئ... لولا أن رأسه مفصول تمامًا، وموضوع بعناية على الوسادة، عيناه مفتوحتان تنظران نحوها مباشرة.

الدم يحيط بالجسد كأن أحدهم رسم به دائرة طقسية... وعلى الحائط مكتوب بخط مشوّه مرتجف:

«الخطيئة تُقطع، والرأس أولها.»

خطوات تُسمع في الخلفية... باب يُفتح ببطء... وصوت أنين...

ثم، لحظة صادمة... يَظهر "عمر"، يقف عند الباب، وعيناه بلا روح. في يده سكين مغطاة بالدم.

عيناه تلتقيان بعيني والد سيلين للحظة... قبل أن يسقط السكين ويركض خارجًا وهو يصرخ:

"ما الذي فعلته...؟! لا.... ما كنت أنا!"

سيلين تصرخ وتسحب نفسها للخلف، وكأنها خرجت من كابوس حيّ:

"لا... مستحيل... لااااااا!"

ركضت سيلين بعنف، أنفاسها متقطعة، وعيناها تلمعان بالدموع، وقد خرجت تواً من الرؤية التي أطلقها الكيان داخل عقلها… رؤية دمويّة لا تُمحى.

رأته واقفًا هناك... عمر، في منتصف الغابة، على بُعد خطوات قليلة منها، ينظر إليها بقلق شديد.

لم تتردد. تقدّمت نحوه بسرعة، ودموعها تهوي معها، ثمّ... بدأت تضربه على صدره بكل ما فيها من وجع:

"لماذا؟! لماذا فعلتَ ذلك؟!"

كان مذهولًا، لم يفهم، رفع يديه بتردّد محاولًا أن يهدّئها، لكنها دفعته بعنف.

"رأيتك!" صرخت، وعيناها تتقدان بالغضب، "رأيتك بوضوح! كنتَ واقفًا قرب السرير... ووالدي ممدّد، مقطوع الرأس!! ويدك تمسك السكين!"

اتسعت عينا عمر، وارتجف جسده.

"ماذا... ماذا تقولين؟" همس.

اقتربت أكثر، وقبضت على قميصه، نظرت في عينيه مباشرة، وقالت بصوت مرتجف:

"الكيان أظهر لي الحقيقة... أظهر لي كل شيء، من البداية وحتى النهاية... من أنت؟!"

وضع عمر يده على رأسه، يتألم، يتنفس بصعوبة:

"أنا... لم أقتل أحدًا... لا أذكر شيئًا...

يتوقف لوهلة، ثم يهمس وكأنه يتذكّر فجأة:

"كنت أنظر إلى يدي... وكانت ملوّثة بالدم..."

ظهر الكيان خلف سيلين بهدوء، قال بصوت خافت لكنّه اخترق السكون كالسيف:

"لأنّه لم يكن وحده، يا سيلين... لقد كنتُ معه.

تجمّدت سيلين في مكانها، بعدما سمعته يقول بصوته الغليظ:

"لقد استخدمته... كدمية."

استدارت نحوه، وعيناها مليئتان بالذهول والخوف، بينما تابع الكيان كلماته ببطء قاتل:

"أنا من قتل والدك... وكلّ أولئك الذين سقطوا في طريقكِ... ولكن بيدِ عمر. كان جسده أداتي... وروحه خيطًا بين أصابعي."

ارتجفت سيلين، بينما أكمل وهو يتقدّم خطوة نحوها:

"كان والدك رجلًا ذكيًّا... حين طلبتُ يدكِ منه، عرفت عيناه أن من أمامه ليس عمر الحقيقي، بل شيء آخر، شيء لا ينتمي لهذا العالم."

خفض الكيان نبرته، ليصبح صوته أقرب للهمس الزاحف:

"رفضني... احتقرني... وقال لي: 'لن أزوّج ابنتي لشيطان، ولو تنكّرت بألف وجه!'"

زمجر فجأة، فتقشعرّ جسد سيلين:

"فجعلتُ موته درسًا... وجعلتُ يدي عمر، هي التي تنفّذ العقاب. تسللتُ إليه ليلًا، حين كانت أنفاس البيت نائمة، وجعلتُه يدخل الغرفة... أمسك السكين... وغرسها... ثم قطع الرأس، بكل برود، كأنّه يذبح عروسًا لا أمل فيها."

غطّت سيلين فمها بيدها، تأنّ من شدّة الصدمة، والدموع تتساقط من عينيها دون إرادة.

همس عمر خلفها، وكأن صوته يخرج من قاع جرح قديم:

"أنا... فعلتُ ذلك...؟"

ضحك الكيان ضحكةً مجنونة، صداها ارتدّ بين الأشجار:

"أنتَ فعلت، يا عمر... لكنك لا تملك شرف الذكرى، لأنني أنا من كنتُ هناك."

سارت سيلين ببطء نحو عمر، نظرت في عينيه، لكن لم تعد ترى سوى الهاوية.

"أنتَ... كنتَ السبب؟"

هزّ رأسه بانكسار، همس:

"كنتُ ضعيفًا... وكان هو أقوى منّي..."

ترددت خطواتها... ثم سقطت على ركبتيها بينهما.

الكيان وقف فوقها، عيناه تلمعان في الظلام.

"ألم أقل لكِ، يا سيلين؟... نحن لم نبدأ بعد."

اقترب الكيان بخطواتٍ واثقة، وصوته يزأر في أرجاء الغابة:

"أنا من عشقكِ يا سيلين، لا ذاك البشري الضعيف..."

تراجع عمر خطوة إلى الوراء، وعيناه على سيلين، كأنّه ينتظر قرارًا سيفتك بقلبه.

 

تراجع عمر خطوة إلى الوراء، وعيناه على سيلين، كأنّه ينتظر قرارًا سيفتك بقلبه.

رفع الكيان ذراعيه نحو السماء، والهواء أصبح أثقل، كأنّ الليل نفسه توقف ليستمع:

"أنا من يحق له الزواج بكِ... أنا من كنتُ أراكِ في كل مرآة، في كل ظل، في كل حلم... أنا من طاف ألف عالم فقط ليراكِ واقفة هُنا، بين يدي."

ثم خفض ذراعيه فجأة، ونظر مباشرة في عينيها:

"والآن، عليكِ الاختيار..."

أشار نحو اليمين، حيث يقف عمر مذهولًا:

"إن اخترتِ عمر... فسوف تموتين أنتِ وهو معًا. سيندلع حريق في القصر، ويمتدّ إلى البلدة كلّها... ستحترق البيوت، وتُفنى الأرواح، ولن يبقى حجر على حجر."

ثم أشار بيده إلى جهة أخرى، وظهر خلفه فجأة قصر عظيم من العدم، يتلألأ بالنور وسط الظلام، أبوابه من الذهب، وأبراجه تلامس السماء:

"أما إن اخترتِني... فستكونين ملكة. ملكة أكبر قصر في هذا العالم. ستملكين الذهب، والسلطة، والخدم، وستسجد لكِ الممالك... ستكونين أغنى امرأة على الأرض، ولن يجرؤ أحد أن يلمس ظلّكِ."

توقفت الريح.

ساد الصمت.

ثم همس بصوت ناعم، يتسلل كالأفعى إلى قلبها:

"فما اختياركِ يا سيلين؟"

صرخ الشيطان بصوتٍ أجشّ، يهزّ الأشجار من حولهم:

"أنا من عشقكِ يا سيلين، أنا من يستحقكِ، لا ذاك الحثالة الذي تقفين بجواره!"

تتراجع سيلين خطواتٍ إلى الخلف، نظراتها تتحرك بين الكيان وعمر، ثم تهتف بحنق:

"أنت تكذب… عمر! قل شيئًا!"

لكن عمر لا ينطق، عيناه غارقتان في شرود غريب.
كأن شيئًا داخله انكسر للتو… ثم… يهمس:

"أبي… قالها لي حين كنت صغيرًا… إذا أردت أن تحبس الوحش… ارسم نجمة… وابقَ بداخلها…"

ثم يجثو على ركبتيه فجأة، وبأصابعه المرتجفة يبدأ برسم نجمة كبيرة فوق الأرض المبللة بالدم والتراب.

ضحك الكيان، ضحكة عميقة شريرة تتردد كالرعد:

"ماذا تفعل يا أحمق؟! هل تظن أن شعوذة الطفولة ستنقذك الآن؟"

لكن عمر لا يتوقف… عيناه تقدحان نورًا خافتًا من الإيمان والأمل.

سيلين تنظر إليه بذهول، لا تفهم… لكنها تشعر بشيء يتحرّك من حولها…
كأن الريح بدأت تنقلب… والأرض ترتجف تحت أقدامهم.

يقف عمر داخل النجمة التي رسمها على الأرض، تقف سيلين خلفه، ويبدأ يردد التهويدة ... صوته يرتجف بالبداية، ثم يعلو مع كل كلمة.

نم يا ظِلّ القَلبِ السّاكنْ،
فَالنُّورُ حَراسُكْ إنْ بَاتوا،
خَطُّوا فِي الأرضِ نَجمَةَ مَنعٍ،
وانغَلِقْ… وانسَ الذينَ أتَوا،
بِاسمِ النّومِ، باسمِ الطّفلِ،
باسمِ النّارِ التي انطفأتْ،
عُدْ حيثُ لا بابَ ولا مَخرجْ،
عُدْ حيثُ مَرآتكَ انكسَرتْ…"

تبدأ الريح تدور بعنف داخل الغابة، الكيان يصرخ، يتشقق جلده، وكل صرخة منه تردها المرآة كأنها تمتصه.

تُفتح المرآة فجأة كأنها فمٌ يبتلع الكون، وتُقذف سيلين وعمر عبرها بقوة… يهويان إلى أرض القبو، جسديهما يصطدمان بالأرض بصوت مكتوم، والمرآة ترتجف فوقهما.

الكتاب يُفتح تلقائيًا، أوراقه تتقلب بسرعة، ثم يتوقف عند صفحة تحمل نفس كلمات التهويدة، قبل أن يُغلق وحده ويعود إلى داخل الصندوق، الذي يُقفل تلقائيًا بقوة.

رداء أسود يسقط من السقف كأن أحدًا ما أنزله من السماء، ويغطي المرآة بالكامل.

تسود الغرفة سكونٌ رهيب.

ينظر عمر إلى سيلين... يداها ترتجفان، لكنها حية.

يهمس عمر بصوت مبحوح:

"انتهى؟"

وترد سيلين، بعينين تدمعان:

"أظنّنا أغلقنا الباب… إلى الأبد."

                 * * * * * * * * * * *

مرّ شهران كاملان منذ انغلقت أبواب الرعب، ومنذ أُعيد الكيان إلى ظلمات المرآة، شهران من التئام الجراح، ومحاولات النهوض من تحت رماد الذكرى.

وفي هذه الليلة… انطفأت الأضواء للحظةٍ خاطفة، ثم أُضيئت بنعومةٍ ذهبية كأنها نور قمرٍ هبط من السماء، وعمّ الصمت أرجاء القاعة. توجّهت الأنظار نحو السلّم الطويل، وهنالك… ظهرت هي.

كانت سيلين كأنها أسطورة نزلت من صفحات الزمن، تسير بخطوات هادئة تفيض أنوثة، ترتدي فستانًا أبيض نقيًّا، خُيِّل للحاضرين أنه خُيط من ضوء الفجر. قماش فخم، مرصّع بأحجارٍ برّاقة تشبه نجوم السماء في ليلة صافية. الأكمام طويلة وشفافة، يتداخل بها تطريز ناعم كأنها زخارف ندى فوق بتلات ورد.

طرحتها الشفافة تنسدل خلفها كستارٍ ملكي، وتاج اللؤلؤ والماس يزيّن شعرها المصفّف بعناية، أما عقد اللؤلؤ على عنقها فكان كأنّه يحرس أسرار قلبها.

وقف عمر في نهاية الدرج، يُحدّق بها بعينين تلمعان بالذهول والحنين. لم يرَ أحدًا سواها، ولم يسمع شيئًا سوى صوت قلبه، وهو يتمتم:
"أخيرًا… عروسي."



اقتربت سيلين بخطواتها الهادئة حتى وقفت أمام عُمر، والابتسامة على وجهه تحمل مزيجًا من الحب والانتصار، كأنهما نجيا معًا من عاصفةٍ لا ينجو منها أحد.

مدّ يده بثبات، فوضعت يدها داخله.
خواتم الزفاف وُضعت على وسادة صغيرة مكسوّة بالمخمل الأسود، وقد زيّنت بنقوش تشبه نجمةٍ خفيّة...
أخذ عمر الخاتم أولًا، وألبس سيلين خاتمًا من الفضة المرصّعة بحجر أسود صغير يلمع كعينٍ قديمة...
ثم أخذت سيلين خاتمًا مماثلًا، وألبسته لعمر برعشة أناملها، وكأنها تُحكم حلقة لا تنكسر.

صفّق الحضور، ودوّى التصفيق في القاعة كقلبٍ ينبض لأول مرة بلا خوف.

بدأت أنغام الرقصة الأولى تعزف… لحنٌ غريب، مألوف رغم أنه لم يُعزف من قبل، وكأن القصر نفسه هو من صنعه من الذكريات والألم والمحبّة المختبئة.

ضمّها عمر إليه وسط الدائرة…
تتمايل سيلين بين ذراعيه، فستانها ينساب بخفةٍ كأنها قطعة ضوء ترقص على نغمة القدر.
كل خطوة كانت كأنها تقول: “نحن هنا… رغم كل ما مضى.”

بعد الرقصة، تقدّما معًا نحو طاولة الكعكة.
كعكة الزفاف كانت بيضاء بثلاث طبقات، وقد نُقشت عليها رموز ناعمة تشبه نقوش المرآة القديمة، دون أن يدرك أحد مغزاها…
أمسك عمر بالسكين وسيلين تضع يدها فوق يده، وقطعوا الكعكة وسط تصفيق وضحك الحضور، كأن الحياة اختارت أخيرًا أن تبتسم.

ثم رفع الكأس، وشرِبا نخب الحياة الجديدة.

تسلّمت سيلين باقة الورود، ثم رمتها للخلف، وارتفعت أصوات الفتيات في فرحٍ بريء…
لكن في تلك اللحظة… شعرت سيلين بشيءٍ يمرّ خلفها كنسمة باردة، همسة… لم تكن من البشر.

همس عمر في أذنها: — "لا تخافي… نحن معًا."

ابتسمت وهي تميل عليه: — "وما دام الكتاب مغلقًا… لن يُفتح شيء بعد اليوم."

لكن من بعيد، عند إحدى الزوايا المعتمة، كان يقف السيد فهد… يراقب.
وجهه جامد… عيناه فارغتان… وفي جيبه ولاعة صغيرة، وعلى يده آثار مادة مشتعلة.

اقترب بهدوء من أحد الستائر الحريرية، سكب شيئًا خفيًا، ثم أشعل.

في لحظات، بدأت النار تتمدد في صمت...
شعلة صغيرة فوق الستارة تحوّلت إلى ألسنة لهب تزحف في الظلال.

وفجأة…
انفجار صغير، تبعه صراخ أحد الضيوف: "نار! القاعة تحترق!"

تحوّلت الموسيقى إلى صدى ذعر، والضحكات إلى صرخات، والدخان بدأ يملأ المكان.
سيلين أمسكت بعمر، عيناها تتسع رعبًا:

— "ماذا يحدث؟! عمر!"

— "إلى الخارج! بسرعة!"

بينما النيران تبتلع الزينة، والورود، والستائر…
والناس يركضون هلعًا نحو المخرج.

وعند الباب… وقف السيد فهد. يبتسم.
كأنما كل ما حدث هو جزء من عزفٍ قديم...
هو وحده من يعرف لحنه.

* * * * * * * * * * * * *

الضيوف يصرخون، يركضون نحو البوابة الكبيرة للقصر…
سيلين ممسكة بيد عمر، ثوبها الأبيض تلطخه سحب الرماد، والدموع تختلط برائحة الدخان.

لكن هناك…

عند بوابة القصر القديمة… يقف السيد فهد.

بوجه جامد، وعينين خاليتين من الرحمة.
يمسك بمفتاح نحاسي صدئ… وبلحظة واحدة، يديره بقوة.

"طَق"
الباب يُغلق بقوة… ويُقفل.

صرخة جماعية تهتز بين الجدران:

— "الباب!! افتحوا الباب!!"

فهد، يبتسم بهدوء مرعب، ثم يقول بصوت خافت، وكأنّه يُلقي ترنيمة موت:

"باب القصر لن يُفتح… النار ستلتهمكم كما التهمت كل مَن خان عهد آل محمد…"

يتراجع خطوة للوراء… ثم فجأة، يختفي وسط الدخان… كأن الأرض ابتلعته.

سيلين تصرخ:
— "لااااااا!!"

يحاول عمر كسر الباب، لكنه من الحديد، قديم ومحصّن.
والنار… تزداد… والصرخات تتعالى…

"لا أحد نجا... ولا أحد عرف الحقيقة.
وحدها المرآة… ما زالت هناك، مغطاة برداء أسود، تنتظر من يجرؤ على كشفها… من جديد."

                        تمت 
                                          بقلم: سدرة غنام
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.