الفصل الحادي عشر:
صوت القرآن يعلو من جهاز صغير موضوع على طاولة في الزاوية، والمآذن تردد التلاوة في خلفية المشهد، كأنها تبكي مع الأم الثكلى.
الستائر نصف مغلقة، والجو خافت، والشموع المضاءة قرب صورة صغيرة لطلال تزيد المكان وجعًا وسكونًا، والناس تتوافد بالعشرات، يرتدون السواد، يتهامسون بالألم.
سيلين تحاول التماسك، تهمس أحيانًا:
– البقاء لله… الله يرحمه…
لكن عيناها لم تعد قادرة على حبس دموعها، فكانت تمسحها خفية عن سارة التي لم تتحرك، لم تذرف دمعة… فقط تنظر إلى الفراغ، وكأن جزءًا منها دفن مع طلال.
الغريب أن لا أحد رأى عمر منذ الحادثة… لا صوت، لا أثر… وكأن القصر ابتلعه هو الآخر.
حتى سيلين، لم تملك سوى الصمت حين سأل عنه البعض.
وفي خضمّ ذلك، دخل رجل غريب إلى القصر.
كان طويل القامة، يرتدي معطفًا أسود طويلًا، وقبعة سوداء تُخفي ملامحه.
توقف عند باب الصالة، حيث وقفت سيلين.
الغريب:
_ السلام عليكم… البقاء لله.
العمر إلها… وللبنت ليان.
سيلين (بابتسامة حذرة):
_ وعليكم السلام والإكرام… تسلم يا رب.
الغريب:
_ أين أجد السيد عمر؟
سيلين (بتوتر خفيف):
_ في الحقيقة… هو مختفٍ منذ الصباح. لا وجود له لا في غرفته ولا في أي مكان داخل القصر.
لكن إن كان لديك أمر مهم، يمكنني مساعدتك، فأنا السكرتيرة الخاصة به والمشرفة على بعض أعماله.
الغريب (يبتسم بسخرية):
_ أعلم من تكونين…
لكنني أريد أن أتحدث إليه هو شخصيًا.
سيلين:
_ حسنًا… سأبلغه إن عاد. لكن من أبلغه؟ ما اسمك يا سيدي؟
الغريب (يضحك ضحكة قصيرة مخيفة):
_ قولي له… "صديق قديم عاد لينتقم".
والآن، عليّ الذهاب، يا قطة. هههههه.
ثم استدار وغادر بنفس الغموض الذي دخل فيه، تاركًا خلفه برودة غريبة في الهواء.
سيلين (تهمس لنفسها بدهشة):
_ ما به هذا الرجل؟ يبدو كأنه من رجال العصابات... أو شيء أسوأ…
لكن كلماتها قُطعت فجأة عندما سُمِع صوت سارة تهمس بصوت مبحوح:
سارة (تشير بيد مرتجفة):
_ طلال… إنه طلال… هناك، عند باب مكتب عمر… ينظر إليّ بحزن…
سيلين:
_ أين؟! لا أحد هناك يا سارة! ما الذي تقولينه؟!
سارة (بعينين دامعتين):
_ لا… لا… إنه يقف هناك… ويبكي…
طـــلااااال!
ثم انهارت فجأة، وسقطت على الأرض مغمى عليها.
سيلين:
في تلك اللحظة، أمسكت بهاتفها بيد مرتعشة، واتصلت فورًا بالدكتور، بينما الرجل الغريب الذي يرتدي المعطف الأسود والقبعة لا يزال واقفًا في زاوية العزاء، يراقب بصمت وكأن الفوضى حوله لا تعنيه.
(بصوت مذعور وهي تمسك الهاتف بيدها المرتجفة):
_ ألو؟ ألو؟ دكتور محمد، أرجوك، تعال بسرعة! سارة سقطت على الأرض… فقدت وعيها!
الدكتور (بصوت هادئ لكن جاد):
_ متى حصل ذلك؟ هل كانت تعاني من شيء قبل الإغماء؟ ضيق نفس؟ بكاء شديد؟ نوبات هلع؟
سيلين (تحاول أن تسيطر على نفسها):
_ نعم… كانت بحالة صدمة… رأت شيئًا… أو بالأحرى قالت إنها رأت ابنها طلال يقف أمام مكتب عمر ويبكي… ثم صرخت ووقعت فجأة.
الدكتور:
_ حسنًا، لا تحركوها. أبقيها مستلقية على جانبها، وتأكدي من أنها تتنفس جيدًا. أنا في طريقي الآن، أقل من عشر دقائق وسأكون عندكم.
سيلين (بهمس):
_ أرجوك تعال بسرعة يا دكتور… أشعر أنها لم تعد تتحمّل أكثر… كأن روحها تنهار أمامي...
الدكتور (بحزم):
_ تمسكي، لا تظهري لها خوفك… نحن بحاجة لها أن تقاوم. جهّزوا غرفة هادئة بعيدًا عن الضوضاء. أنا قادم.
سيلين (تنظر إلى سارة الممددة على الأرض، تهمس لنفسها):
_ يا رب... ما الذي يحدث في هذا القصر؟ من القادم بعد طلال؟ ومن هذا الرجل الغريب؟
كانت سيلين في حالة من الذعر، جاثية قرب سارة تحاول إيقاظها، يداها ترتجفان وهي تهز كتفيها برفق، وصوتها متهدج بالقلق:
سيلين (بهمس مرتجف):
"سارة... أفيقي، أرجوكِ... ما بك؟!"
بعد دقائق، كان الطبيب يسرع بالدخول إلى القصر، وعلى وجهه علامات التوتر من الجو الحزين والمشهد الغريب. اقترب من سارة فورًا، وبدأ بفحص نبضها، واضعًا يده على معصمها بلطف، ثم وضع يده على جبينها.
الدكتور:
"ما الذي حدث؟ هل سقطت دون أي إنذار؟"
سيلين:
"قالت إنها رأت طلال... كان يقف هناك، يبكي... لكنني لم أرَ أحدًا."
الدكتور لم يعلّق، فقط تابع فحصها بعناية، بينما التفت الغريب إلى سيلين وابتسم ابتسامة غامضة، كأن ما يحدث كان متوقعًا تمامًا بالنسبة له.
الغريب:
"يبدو أن الأمور بدأت تتعقّد..."
سيلين (بقلق وانزعاج):
"من أنت حقًا؟ ولماذا جئت إلى هنا في هذا التوقيت؟"
الغريب (بنبرة هادئة مخيفة):
"كما قلت لكِ... أنا صديق قديم لعمر. لكن بعض الصداقات، يا آنسة سيلين، تُخفي تحتها قصصًا لم تُروَ بعد."
في تلك اللحظة، بدأت سارة تستعيد وعيها تدريجيًا، أنين خافت خرج من شفتيها، ثم فتحت عينيها ببطء شديد، ونظرت حولها بذهول، كأنها عادت من عالمٍ آخر.
سارة (بصوت مكسور):
"طلال... كان هنا... كان يبكي."
سيلين (تمسك بيدها):
"لا تقلقي، نحن هنا معك."
الدكتور (برفق):
"هل تتذكرين ماذا رأيتِ؟ ماذا كان يقول؟"
سارة نظرت إلى الغريب، ثم إلى سيلين والدكتور، وكأنها تحاول أن تتأكد إن كانت ما رأته حقيقيًا.
سارة (بهمس):
"كان حزينًا جدًا... وكأن شيئًا ثقيلًا يعصر قلبه... كأنه لم يأتِ ليراني، بل... ليودّعني."
الغريب (يتمتم):
"ربما... لأنه يعلم أن النهاية قد بدأت."
نظرت إليه سيلين بعينين مشحونتين بالخوف والشك. ذلك الرجل لم يكن مجرد معزٍّ غريب… بل كان يحمل شيئًا في داخله أكبر بكثير من مجرد حزن أو انتقام.
سيلين (بصوت خافت):
"ما الذي تقصده...؟"
الغريب (بعينين باردتين):
"كلنا جئنا نحمل شيئًا من الماضي… وعندما تفتح الأبواب القديمة، لا أحد يعرف ما الذي قد يخرج منها."
· * * * * * * * * *
كان الليل قد غطّى القصر بثقلٍ خانق، والبرد يزحف من الجدران كالأشباح.
عمر نزل الدرج المؤدي إلى القبو بخطى ثقيلة، كل خطوة كأنها تهز غضبه المكبوت.
الدم يغلي في عروقه، وصوت الكيان لا يزال يتردد في ذهنه: "أنا من قتلته..."
فتح باب القبو بعنف، فصرخت المفاصل الصدئة كأنها تئن من رعب ما سيأتي.
عمر (بصوت مرتجف من الغضب):
"أخرج الآن... أخرج من جحرك أيها اللعين!!"
لم يجب أحد... لكن البرد اشتد فجأة، والهواء امتلأ برائحة نتنة، رطبة، كأنها من قبر مفتوح.
ثم جاءه الصوت... أجش، خافت، لكن يقطر خبثًا:
الكيان:
"لم أتوقع أن تعود بهذه السرعة... هل أوجعك موت ابن أختك؟"
عمر (بغضب مكبوت):
"أنت من قتل طلال... أليس كذلك؟"
خرج الصوت من الظلال، أجوفًا، كأن الجدران تنطق به:
الكيان:
"أجل... أنا من قتله."
ارتجفت يد عمر، لكنه ضغط على قبضته.
"لماذا؟ لماذا فعلت به ذلك؟ كان مجرد طفل!"
ضحك الكيان ضحكة خافتة، كأنها تتسلل من تحت جلده:
"لم أفعل شيئًا سوى أنني... ظهرت له."
عمر:
"ظهرت؟ أين؟ كيف؟"
الكيان:
"في حديقة القصر... أمام النافورة مباشرة."
صمت لثوانٍ ثم تابع بصوت يقطر وحشية:
"ظهرت على هيئة ماعز أسود... عيوني كانت حمراء، وقرناي يلامسان السماء...
عندما رآني، تجمد قلبه من شدة الخوف... وسقط في الماء."
كان وجه عمر شاحبًا كأنه شبح، وعيناه تقدحان نارًا.
عمر (بصوت مليء بالحقد):
"سأقتلك... أيها المسخ اللعين... بيدي هاتين."
· * * * * * * * *
سيلين كانت تتوسّل وهي تضع الكمادات الباردة على جبين سارة المرتجف:
"حرارتها ترتفع... تهلوس! يا رب ساعدها، يا رب. خسرت طفلها لم تعد تتحمّل، ساعدها تتجاوز الوجع. كمادات المي الباردة لا تنفع، حالتها تسوء... يا رب، أرجوك!"
نهضت فجأة، عيونها مليانة رعب وقلق:
"يجب أن أخبر عمر... يجب أن يعرف ما يحدث مع أخته!"
عمر، في أعماق القبو، كان يقف في مواجهة الكيان...
عمر (يصرخ):
"سأقتلك!!"
الكيان (بصوت بارد ومخيف):
"لن تستطيع قتل سيدك. أنا من منحك القوة."
عمر (بغضب):
"سأحطم تلك المراااااااه!!!"
في تلك اللحظة، ارتفع صوت سيلين من أعلى الدرج، تقطع الصمت الثقيل:
"سيد عمر!! سيد عمر!!! سارة حالتها سيئة! أرجوك تعال!!"
عمر (يلتفت بفزع):
"هذا صوت سيلين... إنها تبحث عني."
الكيان (يضحك بسخرية):
"اذهب إلى حبيبتك، أيها الخروف... هههههه."
ثم اقترب همس الكيان من أذن عمر:
"صدقني... هي من أنقذتك من تحطيم المرآة."
خرجتُ من القبو وأحكمتُ إغلاق بابه خلفي، ثم صعدتُ إلى السرداب متجهًا نحو مكتبي. أغلقتُ الغرفة السرية جيدًا، وذهبتُ مباشرة إلى سيلين، التي كانت ملامح الذعر مرسومة على وجهها.
عمر (بقلق): ما الأمر، سيلين؟ لماذا تصرخين؟
سيلين (بلهفة): إنها سارة، حالتها تزداد سوءًا. حرارتها مرتفعة جدًا وبدأت تهلوس، لا أستطيع السيطرة على الأمر.
أخرجت هاتفي بسرعة واتصلت بالدكتور محمد.
عمر (بصوت مضطرب): ألو، دكتور محمد؟ أرجوك، سارة حالتها سيئة جدًا. حرارتها مرتفعة وتهلوس، نحن بحاجة إليك فورًا.
الدكتور: أنا في طريقي، لا تقلق. مجرد مسافة الطريق وسأكون عندكم.
عمر: شكرًا لك، سنكون بانتظارك.
· * * * * * * * * * * *
لم تمضِ سوى دقائق حتى وصل الدكتور محمد إلى القصر، يحمل حقيبته الطبية وخطواته السريعة تكشف عن قلقه. دخل الغرفة التي ترقد فيها سارة، وبدأ بفحصها بصمت، بينما كان عمر وسيلين يراقبانه بترقّب.
الدكتور (بصوت هادئ): حالتها الصحية متدهورة نفسيًا، هذا ناتج عن الصدمة... فقدان طفلها ترك جرحًا عميقًا في قلبها.
عمر (بقلق واضح): هل هناك خطر على حياتها؟
الدكتور: لا، لا تقلق. لكن يجب أن تبدأ بأخذ العلاج الذي وصفته فورًا، سيساعد في تخفيف الضغط العصبي ويقلّل الحرارة.
عمر (ينظر إليه بشكر): شكرًا جزيلاً لك يا دكتور... تفضل بالجلوس قليلاً إن أردت.
الدكتور (وهو يلمّ حقيبته): لا داعي، سأمرّ لاحقًا لأطمئن عليها من جديد. اعتنوا بها جيدًا.
خرج الطبيب بهدوء من الغرفة، بينما بقيت سيلين إلى جانب سارة تمسح على جبينها بقطعة قماش مبللة.
سيلين (بلطف): سيد عمر، لا تقلق... سأهتم بها بنفسي.
عمر (بصوت خافت): شكرًا لك يا سيلين... أنتِ دائمًا بجانبها، وأنا ممتن.
· * * * * * * * * *
بينما كان عمر واقفًا قرب الباب، ينظر من بعيد إلى سارة التي بدأت تغطّ في نوم مضطرب، دخلت سيلين الغرفة بخطى سريعة وملامحها شاحبة كأنها رأت شبحًا.
عمر (قلقًا): ما بكِ يا سيلين؟ لم أركِ بهذا التوتر من قبل.
سيلين (بصوت متردد): سيد عمر... هناك شيء يجب أن تعرفه، ولم أشأ أن أخبرك به وقت العزاء.
عمر: تكلّمي.
سيلين (بهمس): في يوم العزاء... جاء رجل غريب.
عمر (بحدة): رجل غريب؟ من يكون؟
سيلين (تنظر حولها بخوف): لا أعرف... كان يرتدي معطفًا أسود وقبعة سوداء... قال لي جملة غريبة جدًا.
عمر: ماذا قال؟!
سيلين (تنطقها ببطء): قال لي: "البقاء لله... العمر لها ولبنتها ليان... أما عمر، فأنا جئتُ للانتقام منه."
عمر (تجمّدت ملامحه): انتقام؟!
سيلين (تكمل وهي ترتجف): وعندما سألته عن اسمه... ابتسم وقال: "قولي له... أنني صديق قديم."
عمّ الصمت الغرفة، لحظة ثقيلة خانقة، وعيون عمر اتسعت وهو يهمس:
عمر: هذا... مستحيل...
وفجأة—
دقّ... دقّ... دقّ..
دوّى صوت طرقٍ ثقيل على باب القصر، ثلاث طرقات بطيئة، غريبة، كأنها تأتي من كائن لا ينتمي لهذا العالم.
وقف عمر في مكانه لثوانٍ، ينظر نحو الباب الكبير بتوجّس، فليس من المعتاد أن يزوره أحد في هذا الوقت المتأخر... لا أحد يجرؤ.
تبادل عمر وسيلين النظرات، وسارة ما زالت تهذي في سريرها، ترتجف وتهمس:
سارة: لا تفتحوا الباب... لا تفتحوا... إنه هو...
تقدم عمر ببطء نحو الباب، قلبه ينبض بشيء من القلق دون أن يظهره، وضع يده على المقبض الحديدي، وفتحه.
فتح الباب بهدوء... وهناك كان يقف "هو".
الغريب... بنفس المعطف الأسود، نفس القبعة، ونفس الابتسامة المريبة على وجهه.
الغريب (بصوت هادئ): مساء الخير، سيد عمر... ألم تشتق إليّ؟
عمر (بجمود): ماذا تريد؟ لماذا عدت؟
الغريب (ينظر نحو الداخل): جئت لأكمل ما بدأناه... أنت تعرف جيدًا لماذا أنا هنا.
ظهر في عينيه بريق أحمر خاطف كشرارة جهنمية، ثم تابع:
الغريب: ألا تتذكرني يا سيد عمر. هههههه
عمر (بصوت مصدوم): مستحيل... أنت...
الغريب ابتسم ابتسامة خفيفة، باردة... ثم نزع قبعته.
الغريب: مضى وقت طويل... أليس كذلك، عمر؟
عمر (بصوت متهدج): فهد؟ مستحيل... أنت... أنت ميت! أنا... رأيتك تموت!
فهد (يتقدم خطوة): الموت... ليس كما تظنه.
أنا مَن تذوق طعمه... ثم لفظه وخرج ليُكمل ما بدأه.
عمر يتراجع للخلف، وجهه شاحب، الذكريات تنهشه. الضربة، الدم، الجسد الذي ظنه بلا حياة.
عمر (بصوت غاضب وخائف): لماذا عدت؟ ماذا تريد؟!
فهد (بنبرة هادئة لكنها تحمل سمًا): لم أعد لأسألك عن الماضي يا عمر...
بل لأريك أن الماضي... لم يمت.
وفي تلك اللحظة، صمت المكان. وساد بينهما توتر قاتل، كأن الهواء تجمّد.
أما سيلين، فكانت تراقب من أعلى الدرج... دون أن تشعر بنفسها، شهقت بخوف.
· * * * * * * * * *