Naoot

Share to Social Media

فرجينيا وولف، الفَرَسُ الحَرُون

قراءةُ فرجينيا وولف ليست مهمّةً سهلةً. على أنها برغم ذلك، وحتمًا بسبب ذلك ، متعةٌ عَزّ نظيرُها. تعْمَدُ وولف إلى نَحْتِ جُمَلٍ شديدةِ الطول والتركيب، وتنهجُ تيمةَ تيار الوعي، والتداعي الحرِّ للأفكار، والمونولوج الداخليّ، والْتِفات الضمائر، وكذا تذويبِ الجُدُر الفاصلة بين المرئيّ الملموس والفانتازيّ المُتخيَّل. كلُّ ما سبق يجعل كلَّ قطعةٍ من أعمالها كأنما فَرَسٌ حرون، لا قِبَل لترويضه أو توقُّع خطوته القادمة، وهنا مكمنُ الفنِّ الرفيع ومتعة التلقي، ومكمنُ الصعوبة أيضًا. لكنْ على القارئ ألاَّ يتوقّعَ تلك المتعةَ التي يهبُها له عملٌ كلاسيكيٌّ قائمٌ على السَّردِ الحكائيِّ والتراتبِ الحَدَثيّ، والحبكةِ الدراميّةِ، والشواهدِ والتوالي، والعقدةِ والحلِّ؛ ذاك أن فرجينيا وولف ليست حكّاءةً، بالمعنى المفهوم؛ (اللهم إلا في قصة "الأرملةُ والببغاء"، التي أثبتت فيها وولف أنها ساردةٌ ممتازةٌ أيضًا، وقد تكون قصةً حقيقية كما قالت وولف)، بل هي، وولف، تجريبيةٌ جامحةٌ لا تعتدُّ بالحَدَثِ ولا بالشيء، بل "بأثر" هذا الحدث على ذلك "الشيء".
وكان أمامي خياران حال التصدي لترجمةِ تجربةٍ شائكة، وفاتنة، كتلك. إما أن أنتصرَ "للمعنى"؛ أي الفكرة والمضمون، على حساب "المبنى"؛ أي التكنيك الفنيّ. فأعيدُ، إذّاك، ترتيبَ ثم صياغةَ جُملةِ وولف المشظّاة على نَسَق أجروميتنا العربية، ما يسهّل على القارئ مهمتَه. أو، بالمقابل، أن أنتصرَ "للأسلوب" الذي اختارته وولف لتجربتها الرائدة، على ما فيه من صعوبة على القارئ، وعليّ كمترجمة. وكان أنْ طرحتُ على نفسي سؤالاً هو: هل وظيفتي كمترجمة نَقْل "ما" تقوله وولف؟ أم نقل "كيف" تقوله"؟ ولم أتردّد واخترتُ الخيارَ الثاني، الأصعب. ذاك أنّ النصَّ، في الخيار الأول، سيفقد، حتمًا، جزءًا ليس يسيرًا من فِتْنَته. لأننا ببساطة سنضحي، إذّاك، بتقنية وولف الخاصة، التي لا تشبه إلا نفسَها. فجزءٌ كبيرٌ من متعة قراءة وولف يكمنُ في تلك الرعونة اللغوية، والجموح الصَّوغيّ، وتهشيم الجملة والحدث، والارتباك الفنيّ المقصود. بل إن ذلك الخيارَ، الأول، سيكون بمثابة إزاحة تجربة وولف الإبداعية من مدرسة فنيّة إلى مدرسة أخرى! من التجريب إلى التقليد. ومَنْ ذاك الذي يمتلكُ جسارةَ ارتكابِ جريمة كتلك؟! إنْ هذا إلا عبثٌ بمنظومةٍ جمالية رفيعة أنشأتها وولف وأضرابُها من روّاد تيار الوعي. بل إن وولف ذاتَها سخرت كثيرا في مقالاتها من المدرسة التقليدية ابنة القرن ال19. قائلةً إن تلك الروايات التبشيرية الأنيقة منتظمة المبنى والمعنى تشبه محاولتنا تنسيق غابةٍ كثيفة شعثاء، وتعليم الضواري التي تسكنها فنونَ الإيتيكيت وطقوس الأكل بالشوكة والسكين، وهو وإن كان مستحيلا، إلا أنه أيضا ضدٌّ للطبيعة ومحاولةٌ لوأد رعويتها الفاتنة. لذلك حاولتُ قدر الإمكان الإبقاءَ على طرائقها في تفتيت الجملة، وتشظية الحدث، وكسر استرسال السرد المتعمَّد. فقد يعثرُ القارئُ بجملة بدأتها وولف، ولا تكتملُ إلا بعد صفحةٍ أو صفحتين ربما. أو يصادفُ فِعْلاً لا يُعثر على فاعله إلا بعد عدة جمل اعتراضية طويلة. كذا سنصادف عند وولف جُمَلاً غيرَ مُكْتَمِلة، ومعانيَ ناقصةً على القارئ أن يُتمَّها من لدنه. وقد تنتهي فقرةٌ كاملةٌ تصلُ قرابة الصفحة والمبتدأ أو الفاعل أو الفعلُ لا يزالُ مجهولاً. فمثلاً في قصة "الفستانُ الجديد"، لن يعرفَ القارئُ ما المقصودُ بـ: "لم يكن جميلاً ولا مناسبًا" إلا بعد سردٍ طويلٍ وغامضٍ لا يُسْلِمُ نفسَه بسهولة. وأحيانًا تخترق وولف قواعدَ النحو الإنجليزيِّ فتحذفُ من الجملة أحدَ أركانِها الرئيسية مثل الفاعل أو الفِعل ذاته، وفي أوقات كتلك كنتُ إما أنقلُ الجُملةَ كما هي؛ إن كانت فنيّتُها متأتيةً من هذا النقصان، أو أُضطر إلى إعادة صياغتها على نحو مفهوم مخافةَ الطِّلَّسْميَّة نتيجةَ ارتحالِ العبارةِ بين لسانيْن عبر فعل الترجمة. هكذا تطرحُ وولف عبر قصصها فيضًا من إشراقاتِ الوعي، والتماعاتِ الذاكرة والتأمل، عبر خطوط سردية متقطّعة النَفَسِ، ليس من رابطٍ لها إلا وعي الراوية، الذي سوف يأخذ وظيفتَه وعيُ القارئ؛ باعتباره مُشارِكًا في عملية الكتابة. هكذا اخترتُ أن أنتصرَ للفنّ وإنْ شققتُ على القارئ قليلاً، فالفنُّ الجميلُ يلزمُه جهدٌ ومشقّة، ليس وحسب من صانعه، بل من مُتَلقيه أيضًا.
ينقذُنا من تلك المتاهات أمران. أولاً: تتبُّعُ السيموطيقا التي ترسمُها لنا وولف كدليل على تسلسل السرد، عن طريق علامات الترقيم. ذاك أن وولف، تَعتبرُ أدواتِ الترقيم جزءًا أصيلاً من بناء جملتها، لا تكتمل دونَه. فقد تبدأ وولف الجملةَ ولا تكملها، كأن تضع الفاعلَ مثلاً (الذي هو مبتدأٌ في لغتنا، لأن الجملة الإنجليزية اسميةٌ دائما، لا فعلية مثل العربية)، ثم تفتح جملة اعتراضية كبيرة بعد فُصْلَة (،) وبعدما تنهيها تضعُ الفعلَ الذي يُكْملُ الجملةَ الأولى. وربما أيضًا تتخللُ هذه الجملةَ الاعتراضيةَ مجموعةٌ أخرى من الجمل التكميلية، فنجد الجملةَ التي بدأت في أول الصفحة قد تكتمل في نهايتها. ولذا؛ فعلاماتُ الترقيم تلعبُ دورًا أساسيًّا في لملمة شِتات الفكرة المُشَظاة عبر السرد. لذلك راعيتُ في ترجمتي أن أنقلَ تلك العلاماتِ بمنتهى الأمانة وفي مواقعِها التي شاءتها وولف. وهذه هي الترقيمات التي استخدمتْها وولف ووظائفها: (، الفُصْلة: للعطف، أو لبداية جملة اعتراضية| ؛ الفُصْلة المنقوطة: ما يليها تفسيرٌ لما قبلها| - الشَّرْطَة الأفقية: انتقال بين العالميْن: الواقعيّ والخياليّ، وقد يكون فراغًا في السرد متعمّدًا من وولف ليكمله القارئ من لدنه|. النقطة: نهاية الجملة).
وثانيًا: تنضيدُ الحروفِ العربية أو تشكيلُها. وقد راعيتُ ألا أبخلَ بتشكيل الحروف، التي أراها جزءًا أصيلاً من الحرفِ العربي، من دونها تختلُّ طاقةُ الإيصال، ويختلُّ، كذلك، الجَمالُ والاكتمالُ السيموطيقي للحرف العربي الساحر. هذان العاملان: الترقيمُ والتشكيلُ، سيكونان عونًا للقارئ كبيرًا في فهم جملة وولف المُرْبِكة، وتمييز الفاعلِ في الجملة، عن المفعول. ومع هذا لا نَعِدُ دائمًا باكتمالِ جملةٍ أو معنًى حالَ الكلام عن فرجينيا وولف، وهنا مكمنُ جمال كتابتها وفرادتها. فَسِرُّ اكتمالِ نصِّها هو النقصُ.
كذلك عَمَدْتُ إلى وضع بعض الهوامش التوضيحية من أجل تذويب جُدُر صعوبة السرد لدى وولف. وقد ميّزتُ هوامشي بعلامة (ت)، بما يعني: المترجمة، كيلا تُحسَب على النصّ الأصلي فتُثقلُه، أما الهوامش الأخرى فنسبتُها إلى مصدرها. وكذا وضعتُ أصولَ بعض الكلماتِ في لُغتها الإنجليزية؛ حالَ رَغِب القارئُ في البحث عن معنى الكلمة بنفسه، لا سيّما إذا كانت مُصطلحًا عِلميًّا أو اسمَ طائرٍ أو حيوانٍ أو مكان. لأن وولف تتوجه بالأساس إلى قارئها الإنجليزيّ العليم بتاريخ المملكة المتحدة وجغرافيِّتها، ومن ثم ستكون تلك الهوامشُ مفيدةً للقارئ العربي. أما الكلماتُ التي أرادتْ وولف أن تؤكدَها عن طريق كتابتها بحروف كبيرة Capital Letters، فميزناها في الترجمة عن طريق كتابتها بحروف مائلة أو ثقيلة.
وتجدر الإشارة إلى بعض تقنيات وولف الأسلوبية ، كما رصدتُها خلال عملية الترجمة. ذاك أن الترجمةَ عمليةُ قراءةٍ فوق العادة، وأداةٌ دقيقة لسبر جوهر النصِّ تقنيًّا وفنيًّا، وليس وفقط، مضمونيًّا.
من هذه التقينات تيمة: "الالتفات في الضمائر". نجدها تنتقلُ برشاقةٍ في التعبير عن الموجودات خلال الإشارة إلى ضمائرها في وثباتٍ مباغتةٍ تستلزم من القارئ تركيزًا وإعادةَ قراءة. فقد تتكلمُ وولف، مثلما في "المرأة في المرآة"، عن امرأةٍ ما، تُشبِّهُها بنبتة اللبلاب، ثم تستطردُ في وصفِ النبتة عبر مفردات المرأة، ثم وصفِ المرأة عبر مفرداتِ النبتة، ثم تشبّه "المقارنة" بينهما أيضا بنبات اللبلاب المُتَسَلِّق. فيغدو لدينا ثلاثةُ "مُشَبَّه، ومُشَبَّه بهم": عاقلٌ، هو "السيدة إيزابيلا"- غير عاقل، هو "نبات اللبلاب"- ثم ثالثًا، قيمة معنوية مجردة هي "المقارنة". ثلاثتهم تداخلت تشبيهاتُهم معا، وتداخلتْ ضمائرُهم، في تشابكٍ مُرْبكٍ ووثباتٍ سريعة بين الضمائر، مُدْخِلةً عينَها الخاصة كرَاويةٍ داخل الصورة ،أو عينَ أحدِ شخوص العمل، ما يصنعُ بِنْيَةً مُركَّبة من الضمائر والرُّواة.
كذلك تيمتا "التَّداعِي الحُرّ للأفكار" و"المنولوج الداخليّ"، وهما من سماتِ تيار الوعي. ما قد يجعلُ الجملةَ ناقصةً أو مبتورةً أو غيرَ تامةِ المعنى. ذاك أن تيار الوعي في الكتابة الروائية لا يعتمد "الحَدَث" واكتمالَه، بل يتكئ بشكل أساسيّ على بثِّ طاقةٍ نفسيةٍ في روح القارئ وذهنِه، من خلال استقطارِ تداعياتِ الذاكرة التي يطرحُها المؤلف. لذلك قد ترى، كما في "الفستان الجديد"، حيث: "مايبيل ارتقتِ السُّلم سريعا ودخلت إلى،..." ثم لن تكتمل الجملةُ، سوى أننا سنفهم من خلال التواتر أنها دخلت غرفتَها على عجلٍ حيث المرآة في الركن، كي تتأكدَ من بشاعةِ فستانها الجديد. أو أن تكونَ القصةُ ذاتُها غيرَ مكتملةٍ كأنها مسوّدةٌ في طور الكتابة، كما في "رواية لم تُكتَب بعد". وبطبيعة الحال، فإن القارئ الذي على صلة بكتابات فوكنر وجويس وبروست سوف يكون من اليسير عليه الدخول إلى عالم وولف.
الإيقاع الزمنيّ هو أحد أهم تيمات وولف. كثيرًا ما سوف نرصدُ تزامُنَ حدثيْن في وقتٍ واحد. حدثان، إما حدثا في وقتٍ واحد، أو أن حدثًا منهما قد استدعى الآخرَ من الذاكرة. أو أن حدثًا واحدًا قد حدثَ بالفعل، فيما الآخرُ محضُ خيالٍ استدعائيّ. صوتُ دقاتِ جرسِ كنيسةٍ ربما يُؤوِّله الراوي على أنه نشيجُ نساءٍ باكيات، وعلى القارئ أن يستنتجَ أن لا نساءَ ثمة، لكنه تأويلُ السامع، إذْ إن فرجينيا لن تُصرّحَ مطلقًا بأنه محضُ استحضار صوتيّ من خيال السامع. تلك التشابكاتُ الحَدَثية-الزمنية تحتاجُ من القارئ نوعًا من التيقُّظ لفكِّ اشتباكات الخيوط؛ كيلا يُفلتَ تسلسلَ السرد– المتقطّع– من يديه. فالزمنُ يتشظَّى على مستوياتٍ عدّة عند وولف. ربما تحكي لنا عن "الأثر" ثم تعودُ بنا إلى الوراء كي تشرحَ لنا كيف تكوّنَ ذلك الأثرُ. كما في قصة "منظر خارجيّ لكليّة البنات"، نسمعُ "ضحكةً" أنثويةً تأتي من وراء أحد الأبواب، وبعد أحداثٍ كثيرة نقرأ حوارًا تمَّ بين بعض الطالبات، وفي نهايته ستأتي تلك الضحكةُ.
بطلُ القصة عند وولف ليس بالضرورة كائنًا حيًّا. فقد يكونُ البطلَ فستانٌ أصفرُ بشعٌ قُدّرَ لامرأةٍ أن ترتديه، فيسبِّبُ لها عذاباتٍ لا تنتهي، أو علامةٌ صغيرةٌ على الحائط تجلسُ أمامه الرَّاويةُ لتفكر في العالم بأسره دون مقدرةٍ منها على النهوض لاستكناه كُنْه تلك العلامة، أو قد يكونُ البطلَ مرآةٌ ترصدُ سيدةً حزينة، كما في قصة "المرأةُ في المرآة"، حيث لن نقدرَ أن نحدد من هو بطلُ العمل. هل المرآةُ التي تحتضن المَشَاهد على نحو واقعيٍّ تارةً، وعلى نحوٍ فانتازيٍّ واهمٍ تارةً أخرى، أم السيدةُ إيزابيلا العانسُ الوحيدةُ التي هي هدفُ المرآة، أم تُرى البطلُ هو العينُ التي ترصد، من بعيد، كلَّ هذا عبر صفحة المرآة؟ وهي عين الراوي التي يتحدث، ذاك الذي أعطته وولف اسم "المرء"، ولم يشتركْ أبدًا في الأحداث، إن كان ثمة أحداثٌ، إلا بقدر ما يرصدُ ويتخيلُ ويحلِّلُ ويعرِّي السيدةَ إيزابيلا، حتى تسقطَ عنها كلُّ غِطاءاتها وتنتصبُ في الأخير كيانًا خاويًا من كل شيء، عدا الوحدة والحَزَن والشيخوخة. قد يكونُ البطلَ شبحانِ يتفقدان بيتهما القديم قبل أن يموتا، أو صورةٌ ساكنةٌ لا تلبثُ أن تزخرَ بالحياة، وهَلُمَّ جرًّا. ورغم كلِّ هذا التعدّد، إلا أن القاسمَ المشتركَ الأعظمَ لدى شخوص وولف المحوريّة هو المرأةُ وعالمُها، سيَّما المرأة المأزومة، وجوديًّا أو طبقيًّا أو مجتمعيًّا أو اقتصاديًّا، أو حتى أُنثويًّا. وهذا ملمحٌ فاتنٌ وثريٌّ آخرُ يُحسَب لها.
وأما الراوي عند وولف فقد يكون شيئًا غيرَ حيّ، مثل الرياح التي تحولت إلى عينٍ راصدةٍ تتجوّلُ داخل غُرَف البنات وتحكي ما تراه. وفي هذا السياق سنفهم كيف تجيدُ وولف اللعبَ بالموجودات على اختلاف أجناسها، من عاقلٍ وجماد وغير عاقل. فتبثُّ في جنسٍ ما ملامحَ وصفاتِ جنسٍ آخر, فنجدها (تُأَنْسِنُ) الجوامدَ؛ كأَنْ تمنحَ "الرياحَ" مثلاً ضميرَ "هي she" ثم تجعلُها تتلصَّصُ على الطالبات داخل كُليّتهن بكامبريدج. أو تعطي "ساعةَ الحائط" ضمير المذكر "he"؛ فهي "الذَّكَرُ" الذي يعطي الأوامرَ وعلى الطالباتِ أن يستجبن. وفي المقابل قد نجدها تعطي الإنسانَ صفةَ الأشياء ترميزًا لتهميشه، كأنْ تُحوّلُ الطالباتِ إلى محض بطاقاتٍ تحملُ أسماءهن، فغدون مجرد رقمٍ في مؤسسة ضخمة.
تُموِّه وولف السردَ عن طريق اللعب بالضمائر فلا يَبِين هل تتحدث عن إنسانٍ أم عن جماد، ثم تتركُ قارئَها يُؤوّل النصَّ كما يشاء، فلا قوْلَ فصلا ثمة أبدًا. وهنا ملمحٌ تجريبيٌّ حديثٌ في الأدب عمّا كان قارًّا في حقبة وولف في بدايات القرن الماضي. والأهمُّ أن فكرةَ تهميش الإنسان أو إلباسه عباءةَ "الشيء" وإلغاء إنسانيته هي أحد ملامح الفكر ما بعد الحداثي في الأدب، من حيث تشظّي الإنسان وتفتُّته وتحوُّله إلى رقمٍ ضمن ملايين الأرقام، وسقوط فكرة محوريته الكون، إلى آخر سمات الفكر ما بعد الحداثيّ الذي بدأ يُدشّن نفسه في ستينيات القرن الماضي. ولو تأملنا كيف أن وولف كتبتْ هذا القصَّ بذلك النزع في عشرينيات القرن الماضي وما قبلها، لأدركنا كم هي سابقةٌ عصرَها.
تُسرّبُ لنا وولف العديد من القضايا العامة الإشكالية عبر السرد على نحو ذكيّ غير مباشر. وأيضًا قد تتوسلُ مشاعرَها الخاصة لتبثَّها أحيانًا في مشاعر شخوصها. في قصة "لقاءٌ وفراق" تحكي عن الرعد وما يسببه لإحدى بطلاتِ القصة من فزعٍ وخوفٍ، في حين نجدُ وولف ذاتَها تقولُ في مذكراتها الخاصة بشأن الرعد: "يباغتني فجأة، مع صفق الرعد، شعورٌ حادٌّ، بعدم الجدوى التام لحياتي، هذا شيء يشبه الركضَ برأسِك صوبَ حائطٍ في نهاية حارةٍ مسدودة" كذلك في قصة "الأرملةُ والببغاء" سنجد وولف قد استخدمتْ موجوداتٍ من حياتِها الخاصة، مثل اسم زوجها "ليونارد وولف"، بل وكذا اسم النهر الذي ستُغرِقُ وولف فيه نفسَها في نهاية حياتها عام 1941.
في قصة "الاثنين أو الثلاثاء" تستعيرُ الساردةُ عيْنَيْ طائر مالك الحزين، ثم ترصدُ الكونَ من خلال ناظريْه. على أنها تسرّبُ لنا العديدَ من الإسقاطاتِ السياسية والاجتماعية عبر رصدها. مثل معاطفِ الفِراء التي تحملُها فاتريناتُ الزجاج؛ في إشارةٍ إلى الطبقيّة التي سيطرت على إنجلترا أوائل القرن الماضي. كذلك نلمحُ المسألةَ الوجوديةَ والسياسيةَ خلال منزع طائر مالك الحزين في البحث عن الحقيقة؛ ربما لتعبر عن سؤالها بعد هزيمة بريطانيا في الهند ورجوع الجيش الإنجليزيّ مدحورًا إلى بلاده. أيضًا تيمة البحث عن السعادة، أو البحث عن شيء مفقود يُعْوِزُ النفسَ كي تشعرَ بالامتلاء والاكتمال. نجد ذلك في "الفستانُ الجديد"- "روايةٌ لم تُكتب بعد"- "لقاءٌ وفراق"، إلخ (تيمة استخدمها نجيب محفوظ في "الشحاذ"- الطريق" وغيرهما). كذلك قضية صراع الطبقات، ومنزع الإنسان في القفز فوق طبقته، سوى أنها لن تلجأ إلى الكلام الضخم كعادة بعض الأدب الملتزم، بل ستعالج ذلك عبر أبسط الأمور وأكثرها رهافةً وإنسانية. مثل فستانٍ قبيح صنعته امرأةٌ تسخطُ على طبقتها فاجتهدتْ أن تجعله مُسايرًا لموضة نساء الطبقة الراقية اللواتي تصادقهن، ثم طوالَ القصة ترصدُ لنا آلامَ تلك السيدة وعذاباتها مع فستانها الجديد، وهكذا. وبوسعنا أن نتأملَ هنا "ما بعد حداثية" وولف، من حيث ولوجِها القضايا الكبرى عبر مداخلِها الخبيئة، كما يفعل الأدب الحديث اليوم، وليس عبر نقاطها المركزية الزاعقة كشأن الأدب التقليديّ القديم، سيّما لو عرفنا أنها فعلت هذا في عشرينيات القرن الماضي حيث كان أدب نهايات القرن التاسع عشر في أوجِ تقليديته وذيوعه. ولأن فرجينيا وولف ناقدةٌ أيضًا، لا مبدعةً وفقط، سنجدها في قصة "العلامة على الحائط"، تسخرُ من الروائيين التقليديين، وتبشِّرُ بمبدعين جُدُد لا يحفلون بنقْلِ الواقع كما هو، بل يتتبعون الانعكاساتِ في المرايا وفي العيون ليرصدوا ذلك الواقع بطريق غير مباشرة. تمامًا مثلما سخرتْ من المشعوذين والدجَّالين الذين سيطروا على إنجلترا القديمة.

وفي الأخير، تقتضيني الأمانةُ العِلميةُ والفنيّةُ والجماليةُ أن أُعلنَ أنَّ نصَّ فرجينيا وولف نصٌّ مُشعٌ، بل شديدُ الإشعاع. مثله مثل القصيدة الشعرية الثرية التي لا دلالاتِ مغلقةً لها، ولا نهايةَ حاسمةً ونهائيةً لتأويلها. بمعنى أن كلَّ قارئٍ لنصِّها الأدبيّ، في لغته الأصل، سوف يراه ويؤوله على نحوٍ مغاير. بل إن القارئَ الواحدَ قد يؤوله على تأويلات عدّة مع كلِّ قراءة جديدة. وهذا ما حدث معي دائمًا. بعدما أترجمُ إحدى قصصها وأطمئنُ إلى الترجمة، أعودُ إليه بعد شهرٍ لمراجعته فأبدِّلُ الكثيرَ والكثيرَ، وفي المرة الثالثة والرابعة والخامسة، أفعلُ الشيءَ ذاته. حتى أستقرَّ، في الأخير، على ما أراه أكثرَ الترجماتِ دِقّةً وفنيّةً لنصِّها، من وجهة نظري. وهذا ما لا يحدث معي أبدًا في ترجمتي أيًّا من الكُتّاب والشعراء الإنجليز الآخرين. ذاك أن نصَّ فرجينيا وولف، حصريًّا، لا يتوقفُ عن الإشعاع أبدًا. لهذا وجبَ أنْ أقولَ إن ترجمتي هنا إن هي إلا أحدُ الاقتراحاتِ الفنيّة المنسوجة على نصِّها الأصليّ، الذي يشبه حجرًا كريمًا اسمه "أليكساندرايت"Alexandrite ، نسبةً إلى الإسكندر الأكبر. ذلك الحجرُ الكريم يُعطي، في كلِّ لحظة من لحظات اليوم، لونًا مختلفًا؛ تِبعًا لكمِّ الضوءِ الساقط عليه وزاوية سقوطه. أزرقُ بالنهار، وبالليل أُرجوانيٌّ قرمزيٌّ. وفيما بين الليل والنهار، يُشعُّ الحجرُ بما لا حصرَ له من درجاتِ اللون والانعكاسات. هكذا تمامًا نصُّ فرجينيا وولف، الفاتنة.

ولا يتبقي إلاّ أنْ أنقلَ، في سطورٍ قليلة، شهادتي الخاصةَ عن سرِّ افتتاني بأدبِ فرجينيا وولف. تتأتى متعةُ قراءة وولف من "رياضة" العقل وجَهده في لملمة شذراتِ النصِّ المنثورة عبر السطور وفيما بينها. تضعُني قراءةُ وولف على ذات المتعة التي كنتُ أخبُرُها أثناء حلّ مسائل الرياضيات ومعادلات التفاضل والتكامل المعقدة، أو متعة إثبات إحدى نظريات الهندسة الفراغية، حيث المعطياتُ قليلةٌ والمجاهيلُ كثيرةٌ. متعةُ إجهاد الذهن، التي ربما يشعرُ بها الرياضيُّ بعد تمرين بدنيّ شاق، يمرّن عضلاته فيه ويروضها، أو متعةُ راقصةِ الباليه التي تنفقُ يومَها في التدريب على أداء حركةٍ شديدةِ الصعوبة، والخَطَر، لكي تخلقَ لوحةً بصرية فاتنةً تسرُّ مَن رأى. أما الكلامُ عن براعة وولف الشعرية والشاعرية، وهي ترسم لوحاتٍ تشكيليةً شديدةَ العذوبة والتعبير بالكلمات أكثر منها تكتب سردًا أو قصة، فلا ينتهي. كما في قِصتَيْ: "المرأةُ في المرآة"، "بستان الفاكهة"، وغيرهما. وأنا على ثقة أن القارئَ سيهتفُ معي: إن لم يكن هذا شِعرًا، فلا كان الشِّعرُ!

***

القصص التي اخترتها لكم هنا صدرت ضمن مجموعتين قصصيتين، إحداهما صدرت عام 1919، وهي "الاثنين أو الثلاثاء"، وأما الثانية فصدرت بعد موت وولف عام 1944، وعنوانها "بيتٌ مسكون بالأشباح".


فاطمة ناعوت
القاهرة 2009
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.