"إلى سيسي مِيللر.". فيما كان جِلبرت كلاندون، يلتقط بروشَ اللؤلؤِ الذي يرقدُ بين مجموعةٍ من الخواتمِ ومشابكِ الصَّدر فوق طاولةٍ صغيرةٍ في غرفةِ استقبالِ زوجتِه، قرأ الإهداءَ: "إلى سيسي ميللر، مع حبي."
ليس من أحدٍ سوى آنجيلا يمكنُه تَذكُّرُ حتى سيسي ميللر سكرتيرتَها الخاصة.
لكنْ كَمْ كان الأمرُ غريبًا، راح جلبرت جلاندون يفكرُ من جديد، حين تركتْ زوجتُه كلَّ شيءٍِ هكذا في منتهى النظام— لم تَدَعْ أحدًا من أصدقائِها إلا وتركتْ له هديةً صغيرةً من نوعٍ ما. كما لو أنها كانتْ تحدسُ بموتِها. على أنها كانت في كاملِ صِحتها حينما غادرتِ البيتَ في ذاك النهار، قبل ستة أسابيع؛ وخَطَتْ بعيدًا عن حاجزِ الرصيفِ الحجريّ في بيكاديللي فدهمتها السيارة.
كان في انتظار سيسي ميللر. طلبَ منها الحضورَ؛ لأنّه كان يشعرُ، بعد كلِّ السنوات تلك التي قضتها معهما، بأنه مَدِينٌ لها بتلك المكافأة الرمزية. نعم، استمرَ في التفكيرِ وهو جالسٌ هناك، كَمْ كان غريبًا أن تتركَ آنجيلا كلَّ شيءٍ بمثل هذا النظامِ والترتيب. كلُّ صديقٍ كان قد مُنحَ تَذكارًا من حُبّها. كلُّ خاتمٍ، كلُّ قلادةِ عنقٍ، كلُّ صندوقٍ خزفيٍّ صغير— كانت مولعةً بالعُلَبِ الصغيرة— تُركَ مكتوبًا عليه اسمٌ ما. كلُّ تلك الأشياءِ كانت تحملُ له ذكرى ما. كان قد أهداها هذا— الدولفين المَطليّ بالمينا المرصّع بعينين من الياقوت— اندفعتْ إليه حين لمحتْه يومًا في شارع خلفيّ في فينيسيا. بوسعه أن يتذكَّرَ صيحةَ البهجةِ التي أطلقتْها يومَها. أمّا هو، بالطبع، فلم تتركْ له أيَّ شيءٍ على وجه التخصيص، اللهم إلا مذكراتِها الخاصّة. خمسَ عشرةَ كراسةً صغيرة، مربوطةٌ بشريطٍ من الجلدِ الأخضر، تنتصبُ وراءه مباشرةً فوق مكتبها. دائمًا ما كانت تحتفظُ بمذكراتها، منذ تزوجا. بعضٌ من—لا يستطيعُ أنْ يسميَها معاركَ— لنقلْ: بعضٌ من شجاراتِهما القليلة— كانت بسبب تلك المذكّرات. حينما كان يدخلُ عليها وهي تكتبُ، كانت من فورِها تغلقُ الدفترَ أو تضعُ يدها عليه. "لا، لا، لا،" كان يسمعُها تقول، "ربما- بعدما أموت." وإذًا فقد تركتْها له الآن، بوصفها الميراث. كانت المذكراتُ تلك هي الشيءَ الوحيدَ الذي لم يتشاركا فيه معًا حين كانت في قيد الحياة. سوى أنه كان واثقًا دائمًا أنها سوف تُعمِّرُ من بعده. لو أنها فقط توقفتْ للحظةٍ واحدة، وفكرّتْ فيما تفعل، لكانتِ الآن حَيّةً. لكنها خَطَتْ بعيدًا عن الحاجز الحجريّ، كما قال سائقُ السيارة في التحقيق. لم تعطِه فرصةً لتفادي الحادث.... ها هي أصواتُ الناس في الردهةِ تقطعُ أفكارَه.
"الآنسة ميللر، يا سيدي،" قالتِ الخادمةُ.
دخلتْ عليه. لم يرَها وحدَها أبدًا في حياته، ولا، بالطبع، رآها من قبل دامعةً. كانت حزينةً على نحوٍ رهيب، ولا عجبَ. فقد كانت آنجيلا بالنسبة إليها أكثرَ من مجرد صاحبةِ عملٍ. كانت صديقةً. بالنسبةِ إليه، كان يفكرُ، وهو يدفعُ إليها بمقعدٍ ويسألُها أن تجلسَ، كان يفكر في أنها لم تكن مميزةً بين كلِّ النساءِ من نوعها. هناك آلافٌ من سيسي ميللر— نساءٌ ضئيلاتٌ كئيباتٌ متّشحاتٌ بالسَّوادِ ويحملن حافظاتِ أوراق. لكن آنجيلا، بعبقريتها في التعاطف، اكتشفتْ كلَّ ألوانِ المزايا والسجايا الحسنةِ في سيسي ميللر. تمتلكُ روحَ التكتُّمِ والعقلانيةِ؛ صَمُوتٌ جدًّا، جديرةٌ بالثقة، بوسع المرءِ أن يخبرَها بكلِّ شيء، وهَلُمَّ جرًّا.
لم تقوَ الآنسةُ ميللر على الحديثِ أوّلَ الأمر. جلستْ هنالك تمسحُ عينيها بمنديلِها. ثم جاهدتْ للكلام.
"اعذرْني، سيد كلاندون،" قالت.
تمتمَ. بالطبع كان يفهم. هذا طبيعيٌّ جدًّا. بوسعه أن يُخمِّنَ ماذا كانت تعني زوجتُه لها.
"كنتُ سعيدةً جدًّا هنا،" قالت، وهي تتفقّدُ المكانَ من حولها بعينيها. تركزتْ عيناها على طاولةِ الكتابةِ وراءه. هنا حيث كانتا تعملان— هي وآنجيلا. ذاك أن آنجيلا كان لها نصيبٌ من الأعباء التي تُلقى على كاهلِ العديد من زوجاتِ السياسيين البارزين. وكانت أعظمَ داعمٍ له في عمله. كثيرًا ما رآهما هي وسيسي تجلسان إلى تلك الطاولة— سيسي على الآلةِ الكاتبة تكتبُ ما تُمْليهِ عليها آنجيلا من خطاباتٍ. لا شكَّ أن ميس ميللر كانت تفكِّرُ في ذلك، أيضًا. الآن كلُّ ما عليه فِعْلُه هو أن يعطيَها مشبكَ الصدر الذي تركته لها زوجتُه. ذاك الذي بدا له هديةً غير مناسبة. ربما كان من الأفضلِ أن تتركَ لها مبلغًا من المال، أو حتى الآلة الكاتبة. لكنَّ هذا ما كان هناك— "إلى سيسي ميللر، مع حُبِّي." و، وهو يتناول البروش، أعطاه لها مع كلمةٍ صغيرة كان أعدَّها من قبل. قال إنه يعرفُ أنها سوف تقدِّرُه. فزوجتُه كانت دائمًا ما تشبكه على صدرها.... وهي ردَّتْ، وهي تأخذه وكأنما أعدَّتْ هي الأخرى كلمةً، أنه سوف يكونُ دائمًا مثل كَنزِها الثمين.... يُفترضُ أنْ كان لديها بعضُ الملابس الأخرى التي لن تتنافرَ جدًّا مع بروش من اللؤلؤ. كانت ترتدي معطفًا أسودَ وتَنُّورَةً كانا معًا الزِّيَّ الخاصَ بعملها. ثم تذكّرَ- أنها كانت في حدادٍ، بالطبع. هي، كذلك، كان لديها مأساتُها الخاصة— شقيقٌ، ذاك الذي كانت تكرّسُ حياتَها من أجلِه، ماتَ قبل موتِ آنجيلا بأسبوعٍ أو أسبوعين. أكان ذلك في حادثٍ ما؟ لا يتذكر— كانت آنجيلا قد أخبرته. آنجيلا، بعبقريتها في التعاطفِ، كانت مُحبطَةً لذلك على نحوٍ فظيع. في تلك الأثناء كانت سيسي ميللر قد نهضتْ. ترتدي قفازَها. من الواضحِ أنها شعرتْ أنْ يجبَ ألا تُثقلَ عليه. لكنه لم يكن يستطيعُ أن يدعَها تمضي دون أن يقولَ شيئًا عن مستقبلها. ما هي خُططُها؟ هل ثمة أيُّ سبيلٍ يمكن أن يساعدَها عَبْرَه؟
كانت تحدّق في الطاولة، حيث كانت تجلس إلى آلة الكتابة، وحيث ترقد المذكرات. و، حيث كانت تائهةً في ذكرياتها مع آنجيلا، لم تُجبْ على الفور على اقتراحه بمساعدتها. لذلك كرّرَ:
"ما هي خُطَطُك؟ ميس ميللر؟"
"خُطَطي؟ أوه، كلُّ شيء على ما يُرام، مستر كلاندون،" هتفتْ. "رجاءً لا تشغلْ نفسَك بأمري."
اعتبرها ترمي إلى أنها لم تكن في حاجة إلى مساعدة مادية. أدركَ أنه من الأفضلِ أن يجعلَ أيَّ اقتراحٍ من هذا القبيل في رسالةٍ مكتوبة. كلُّ ما بوسعه فعله الآن وهو يشدُّ على يديها هو أن يقولَ لها، "تذكري يا آنسة ميللر، إذا كان هناك أيُّ سبيلٍ أستطيعُ به أن أساعدَك، سوف ذلك يكون فرحًا لي...." ثم فتحَ البابَ. لوهلةٍ، عند عتبةِ الباب، كأنما فكرةٌ مباغتةٌ خطرت لها، توقفتْ.
"مستر كلاندون،" قالت، وهي تنظر إليه مباشرةً لأولِ مرّةٍ، ولأولِ مرة أدهشَه ذلك التعبيرُ، العاطفيُّ الحائر، في عينيها. "إذا في أيِّ وقت،" أكملتْ، "كان هناك ما أقدرُ أنْ أقدِّمَه، تذكرْ، سوف أشعرُ، لأجل خاطر زوجتك، بكلِّ فرح...".
بهذا كانت قد مضتْ. كلماتُها والتعبيراتُ التي صاحبَتها كانت غير متوقعة. كأنها كانت تعتقدُ، أو تأملُ، أن يحتاجَ إليها. فكرةٌ عجيبة، ربما خيالية، خطرتْ له وهو يستديرُ ليعودَ إلى مِقعده. هل من الممكن، طيلةَ تلك السنوات التي كان بالكاد يلحظُها فيها، أن تكونَ هي، مثلما يقول الروائيون، قد مالتْ إليه ببعض الهوى؟ رمقَ سريعًا صورتَه في المرأة وهو يمرُّ. كان قد تخطى الخمسين؛ لكنه لا يقاوِمُ الاعترافَ لنفسَِه بأنه لا يزال، كما أظهرتْ له المرآةُ، رجلاً شديدَ التميّزِ والوسامة.
"مسكينةٌ سيسي ميللر!" قالها، نصفَ ضاحكٍ. كم كان يتمنى لو يشاركُ زوجتَه تلك النكتةَ! عاد إلى مذكراتِها على نحوٍ غريزي.
"جِلبرت،" راح يقرأ، فاتحًا إياها على صفحةٍ عشوائية، "يبدو رائعًا للغاية...." كانت كأنما أجابت عن سؤاله. بالطبع، كأنها تقولُ له: أنتَ تبدو جذابًا للنساء. بالتأكيد شعرتْ سيسي ميللر بذلك أيضًا. أكملَ القراءة. "كم أنا فخورةٌ أنني زوجتُه!" وهو أيضًا كان دائمًا فخورًا جدًّا أنه زوجُها. كم حدثَ كثيرًا، حينما كانا يتناولان العشاءَ بالخارج في مكانٍ ما، أنْ نظرَ إليها عبر الطاولةِ وقال لنفسِه، إنها أجملُ النساءِ هنا! تابعَ القراءةَ. ذلك العام الأول الذي كان فيه مُرشَّحًا للبرلمان. وكانا يديران معًا دائرتَه الانتخابية. "وقتَ انتخابِ جلبرت، كان الاستحسانُ بديعًا. كلُّ الحضور نهض وغنّى: "لأنه كان زميلاً طيبًا وبشوشًا." كان مُستحوِذًا عليّ تمامًا." هو يذكر ذلك أيضًا. كانت تجلسُ إلى جواره على المنصّة. واستطاعَ أن يرى اللمحةَ الخاطفةَ التي رمقتْه بها، كانت في عينيها دموعٌ. وبعد ذلك؟ قلَبَ الصفحةَ. ذهبا إلى فينيسيا. يذكرُ تلك الإجازةَ السعيدةَ بعد الانتخابات. "كان الجليدُ يتساقط في فلورنسا." ابتسم— كانت لا تزال تلك الطفلةَ؛ التي تُبْهجُها الثلوجُ. "أخبرني جلبرت عن معظم طرائف تاريخ فينيسيا. أخبرني أن قضاةَ البندقيةِ..." كتبت ذلك كلَّه بخطِّ يدها الذي مثل خطِّ تلميذةٍ في المدرسة. واحدةٌ من المتع في السفرِ مع آنجيلا هي أنها تَوَّاقةٌ جدًّا للتعلّم. كانت جاهلةً على نحو مريع، اعتادتْ أن تقولَ ذلك، كأنما لم يكن ذلك إحدى مفاتنِها. وبعد ذلك— فتح الكراسةَ التالية— كانا قد عادا إلى لندن. "كنتُ شغوفةً جدًّا لأتركَ انطباعًا جيدًّا. ارتديتُ فستانَ زفافي." بوسعه الآن أن يراها جالسةً جوار السِّيْر إدوارد العجوز؛ تقومُ بغزو ذلك الرجلِ المسنِّ المرعب، رئيسه. استمر في القراءة بسرعة، مُلملِمًا المشهدَ تِلْوَ المشهد من قُصاصاتِها المُشَظَّاة.
"كنّا نتناولُ العشاءَ في مجلسِ العموم.... في حفلةٍ مسائيةٍ في لوفجروف . هل أُدركُ حجمَ مسؤولياتي، سألتني ليدي ل.، بوصفي زوجةَ جلبرت؟" ثم تناول كراسةً أخرى من فوق طاولة الكتابة— بعد سنواتٍ أصبحَ غارقًا جدًّا في عمله. وهي، بالطبع، كانت في أغلبِ الأحيان وحيدةً.... كان أسًى عظيمًا لها، بطبيعة الحال، أنهما لم ينجبا. "كمْ كنتُ أتمنى،" يقرأ في أحد المقاطع الافتتاحية، "لو أن لجلبرت ولدًا!" من العجيبِ أنه هو نفسَه لم يتحسَّرْ على ذلك بهذا الشكل. الحياةُ كانت دائمًا زاخرةً جدًّا، غنيّةً جدًّا كما هي. في ذلك العام كان قد شَغِلَ منصبًا بسيطًا في الحكومة. مجرد منصبٍ بسيطٍ وحسب، لكنّها كتبتْ تعليقًا يقول: "أنا على تمامِ الثقة الآن أنه سيصبحُ رئيسًا للوزراء!"
حسنٌ، إذا ما سارتِ الأمورُ على نحو مختلف، كان من الممكن أن يحدثَ ذلك. توقَّفَ هنا لكي يتأملَ ما الذي كان من الممكن أن يحدث. العملُ السياسيُّ مقامرةٌ، فكَّرَ مليًّا؛ لكن اللعبةَ لم تنتهِ بعد. ليس في سنِّ الخمسين. مرَّ بعينيه سريعًا على مزيدٍ من صفحاتٍ، مليئة بالصغائر، مجرد أحداثٍ بسيطةٍ سعيدة غيرِ مميزة، تلك التي صنعتْ حياتَها.
تناول دفترًا آخر من المذكراتِ وفتحه عشوائيًّا. "يا لي من جبانة! تركتُ الفرصةَ تتسرَّبُ مرّةً أخرى. لكنها أنانيةٌ مني أنْ أزعجَه بشئوني الخاصة، بينما كان لديه الكثيرُ من المشاغل. وأصبحَ من النادر جدًّا أن نقضي أمسياتِنا وحدَنا."
ما معنى ذلك؟ أوه، ها هو التفسيرُ— إنها تشيرُ إلى عملِها في "إيست إند". "استجمعتُ شجاعتي وتكلَّمتُ أخيرًا مع جلبرت. كان عطوفًا للغاية، طيّبًا للغاية. لم يعترض.". يتذكرُ تلك المحادثة. كانت قد أخبرته عن شعورها بأنها عاطلةٌ جدًّا، بلا فائدةٍ جدًّا. وتمنَّتْ أن يكون لها أيُّ عملٍ خاصٍ بها. تريدُ أن تعملَ شيئًا ما— اِحمَرَّ وجهُها خجلاً على نحو فاتن، يذْكرُ، وهي تقولُ ذلك، فيما تجلسُ في هذا المقعد ذاتِه— لتساعدَ الآخرين. مازَحَها قليلاً. ألم يكن لديها الكثيرُ لتفعلَه من أجل أن تعتني به، عطفًا على الاعتناء ببيتها؟ ولكنْ، حتى لو أضحكَها هذا، فإنه، بالطبعِ لم يعترضْ. وماذا كان ذلك العمل؟ ربما مقاطعةٌ ما؟ لجنةٌ ما؟ فقط عليها أن تَعِدَه ألا ترهقَ نفسَها. لهذا السببِ يبدو أنها كانت تذهبُ إلى كنيسةِ وايت-تشابيل.
يذكُرُ كم كان يكرهُ تلك الملابسَ التي كانت ترتديها في تلك المناسبات. لكنَّها أخذتِ الأمرَ بجديّةٍ عالية، فيما يبدو. فالمذكراتُ كانت متخمةً بإشاراتٍ مثل: "رأيت مسز جونز.... لديها عشرةُ أطفالٍ.... وزوجٌ فَقَدَ ذراعَه في حادث.... عملتُ قُصَارَى جَهْدي لأجدَ وظيفةً من أجل لِيلِي." قفزَ على الصفحاتِ سريعًا. راح اسمُه يظهرُ بمعدلٍ أقلّ عمّا قبل. فخبا حماسُه للقراءة. بعض الفقرات لم تكن تعني أيَّ شيءٍ بالنسبة إليه. على سبيل المثال: "أقمتُ سِجالاً حادًّا مع ب. م. حول الاشتراكية"، مَنْ ب. م؟ لم يستطع أن يخمّن من الحروف الأولى؛ امرأةٌ ما، يُفترض، قابلتْها آنجيلا في إحدى اللجان تلك. "ب. م شنَّ هجومًا عنيفًا على الطبقات العليا.... عدتُ من جديد بعد الاجتماع مع ب. م. وحاولت إقناعه. لكنه كان ضيق العقل جدًّا.". إذًا كان ب. م. رجلاً— دون شكٍّ كان أحد هؤلاء "المفكرين"، كما يدعون أنفسَهم، أولئك العنيفون جدًّا، كما تقولُ آنجيلا، وضيقو العقول جدًّا. كانت قد دعته ليأتي ويعرفَها جيدًّا. "جاء ب. م. على العشاء. وصافح ميني!" تلك الملاحظةُ التعجّبيةُ منحتِ الصورةَ الذهنيةَ غموضًا جديدًا. ب.م.، كما يبدو، لم يكن مُعتادًا على خادماتِ المؤسسة؛ فقد صافح ميني باليد. يبدو أنه أحدُ هؤلاء الرجالِ العاملين الوديعين الذين يجاهرون بآرائهم في صالوناتِ النساء. يعرفُ جلبرت هذا النمطَ، ولم يحبًّ مطلقًا هذا النموذجَ بالذات، كيفما كان ب. م.. ها هنا كان من جديد. "ذهبتُ مع ب. م. إلى برج لندن.... قال إن الثورةَ لا بدَّ آتيةٌ.... قال إننا نعيشُ في فردوسِ الحمقى." هكذا تمامًا كان نمطَ الكلامِ الذي يجبُ أن يقوله ب. م--- بوسع جلبرت أن يسمعَه. بوسعه أيضًا أن يتصوَّرَه بوضوح— لابد أنه رجلٌ غليظُ البِنْيَة ضئيلُ الحجم، له لحيةٌ خَشِنَة، وربطةُ عنقٍ حمراءُ، بثيابٍ من التويد الصُّوفيّ الخشن كما اعتاد أمثالُه أن يلبسوا، رجلٌ لم يُكْمِل يومَ عملٍ بأمانةٍ طيلةَ حياته. بالتأكيد كان لدى آنجيلا حاسةٌ لكشفِه؟ تابعَ القراءةَ. "قال ب. م. كلامًا أخرقَ جدًّا عن---" الاسمُ هنا كان مَمْحُوًّا بعناية. "أخبرتُه أنني لن أُنْصِتَ للمزيد من الشتائم عن---" من جديد كان الاسمُ مطموسًا. أيمكنُ أن يكونَ الاسمُ اسمَه هو؟ ألهذا السببِ غطَّتْ آنجيلا الصفحةَ بسرعةٍ حينما دخلَ الغرفةَ؟ زادتِ الفكرةُ نفورَه المتزايد من ب. م.. بلغتْ به الوقاحةُ أن يتناولَ سيرتَه هنا في هذه الغرفةِ بالذات. لماذا لم تخبرْه آنجيلا عنه أبدًا؟ إخفاءُ الأشياءِ لم يكن من شِيَمِها؛ فقد كانت رمزًا للمصارحة. قلَبَ الصفحاتِ، مُلتقِطًا أيّةَ إشارةٍ إلى ب. م. "حكى لي ب. م. قصةَ طفولتِه. كانت أمُّه تعملُ بتنظيفِ البيوت... حينما أفكِّرُ في ذلك، لا أكادُ أتحمّلُ العيشَ في مثل هذه الرفاهية.... ثلاثةُ جنيهات ثمنًا لقبعةٍ واحدة!" لو أنها فقط قد ناقشتِ الأمرَ معه، بدلاً من أن تُحَيِّرَ رأسَها الصغيرَ التعسَ بأسئلةٍ أصعبَ من أن تفهمَها! كان قد أعارها كتبًا. كارل ماركس، الثورةُ القادمة. الحروفُ الأولى ب. م.، ب. م.، ب. م.، تتكررُ باستمرار. لكن لماذا ليس الاسمُ الكامل أبدًا؟ ثمة شيءٌ غيرُ رسميٍّ، غير شرعيّ، شيءٌ حميميٌّ في استخدام الحروف الأولى من الاسم وهو ما يناقضُ طبيعةَ آنجيلا. هل كانت تناديه ب.م. شخصيًّا؟ استمرَ في القراءة. "ب.م. جاء على غير توقُّع بعد العشاء. لحُسن الحظِّ كنتُ وحدي.". كان هذا منذ عام فقط. "من حُسن الحظّ"— لماذا من حُسن الحظ؟-- "كنتُ وحدي.". أين كان في تلك الليلة؟ راجَعَ التاريخَ في مُفكِّرتِه. كانت ليلةَ العشاءِ في المانشن هاوس. وإذن قضى ب.م. وآنجيلا المساءَ وحدهما! حاولَ أن يتذكَّرَ ذلك المساء. هل كانتْ يقِظَةً تنتظرُه حينما عادَ إلى البيت؟ هل بدتِ الغرفةُ غيرَ طبيعية؟ هل كانت كؤوسٌ ثمة على الطاولة؟ هل سُحبَتِ المقاعدُ لتلتصقَ ببعضها البعض؟ لم يستطعْ أن يتذكَّرَ شيئًا— لا شيءَ على الإطلاق، لا شيءَ عدا خطابَه على العشاءِ في المانشن هاوس. ازدادَ الأمرُ غموضًا بالنسبة إليه— الوضعُ كلُّه لا تفسيرَ له؛ استقبالُ زوجتِه وحدها رجلاً غريبًا. الدفترُ التالي قد يفسِّر. متلهفًا أمسكَ بآخر دفاتر المذكّرات— الجزءُ الذي تركتْه وماتتْ قبل أن ينتهي. هناك، في الصفحةِ الأولى تحديدًا، ظهرَ الرجلُ الملعونُ ثانيةً. "تناولتُ العشاءَ وحدي مع ب.م.... أصبحَ ثائرًا جدًّا. قال إنّه الوقتُ الذي فهمَ فيه كلٌّ منّا الآخر.... حاولتُ أن أجعلَه يتفهَّم. لكنّه لم يفعلْ. وهدَّدَ بأنني لو لم...." بقيةُ الصفحةِ كانت مشطوبةً حتى النهاية. كانت قد كتبتْ فوقها "مِصْرُ. مِصْرُ. مِصْر،" على طولِ الصفحة. لم يستطع أن يخمّنَ كلمةً واحدة؛ لكنْ من الممكن أن يكونَ هناك تفسيرٌ واحد: لقد طلبَ منها ذلك النَّذلُ أن تكونَ عشيقتَه. وحدهما في غرفتِه! اندفعتِ الدماءُ في وجه جلبرت كلاندون. قلَبَ الصفحاتِ بسرعة. ماذا كان ردُّها؟ اختفتِ الحروفُ الأولى. تحوّلتِ الآن ببساطة إلى "هوَ". "هو جاءَ ثانيةً. أخبرتُه أنني لم أستطعِ الوقوفَ على أيّ قرار.... ناشدتُه أن يتركَني." لقد فرضَ نفسَه عليها هنا في هذا البيت عينه. لكنْ لماذا لم تخبرْه؟ كيف أمكنَها أن تتردّدَ ولو للَحظة؟ ثم: "كتبتُ إليه خطابًا.". ثم تُركَتِ الصفحاتُ بيضاءَ. ثم كان هذا: "لا إجابةَ على خطابي.". ثم المزيدُ من الصفحاتِ البيضاء؛ ثم هذا: "لقد فعلَ ما هدّدَ به." بعد ذلك— ما الذي حدثَ بعد ذلك؟ قلبَ صفحةً بعد صفحةٍ. جميعُها كانت خاويةً. لكن هناك، في اليوم السابق لموتِها بالضبط، كانت هذه الاستهلالةُ: "هل أمتلِكُ الشجاعةَ لفعلِ ذلك أيضًا؟" تلك كانتِ النهاية.
ترك جلبرت كلاندون الدفترَ ينزلقُ على الأرض. كان بوسعِه أن يراها أمامَه. واقفةً على الرصيفِ في بيكاديللي. عيناها شاخصتان؛ قبضتا يديها كانتا مُمْسكتيْن بقوّة. هنا جاءتِ السيارةُ....
لم يستطع أن يتحمّلَ. يجب أن يعرفَ الحقيقةَ. خطا نحو التليفون.
"ميس ميللر!" كان صمتٌ. ثم سمعَ وقعَ أقدامٍ في الغرفة.
"سيسي ميللر تتكلَّم"— جاء صوتُها أخيرًا.
"مَنْ،" سأل بصوتٍ كالرعد، "يكونُ ب.م.؟"
كان بوسعه سماعُ تكَّاتِ ساعةِ الحائطِ الرخيصةِ فوق رفِّ موقدِها؛ ثم تنهيدةٍ طويلةٍ مُتعَبة. وأخيرًا قالت:
"إنه أخي."
"لقد كان أخاها، أخوها الذي قتلَ نفسَه. "هل هناك،" سمع سيسي ميللر تسأل، "أيُّ شيء أستطيعُ أن أفسّرَه؟"
"لا شيءَ!" صاحَ. "لا شيء!"
لقد تسلّمَ ميراثَه إذًا. لقد أخبرتْه بالحقيقة. زوجتُه خَطَتْ بعيدًا عن الرصيفِ كي تلحقَ بحبيبها. زوجتُه خطَتْ بعيدًا عن الرصيف كي تهربَ منه.