Siline-amir

Share to Social Media

                 بعد مرور سبعة سنوات

    الفتـى الآن علـى مشـارف الثانيـة عشـرة مـن عمـره، لقـد كبـر و ورِثَ ملامـح والـده تمامـا... طفـل ذكـي بِسُـمرَةٍ خفيفـة علـى بشـرته، شـعره أسـود قاتم وعيون عسـلية اللون مائلة للسـواد بملامح عربية أصيلـة، يمكـن تمييـزه بسـهولة عـن غيـره وهـو ككل أقرانهِ يريـد تكويـن صداقـات لكـن أنّـى لـه ذلـك فـي حضـور غريمـه الـذي حـذر الجميـع مـن مغبـة مصادقـة «سـامي» باعتبـاره طفـلا غريـب الأطـوار حسـب اعتقـاده.

     وغريمه هو «وليد»، ذلك الطفل البدين والكبير، والذي أعاد أكثـر مـن سـنة فـي مشـواره الدراسـي القصيـر، وفـوق هـذا لديـه عصابـة أطفـال مكونـة مـن عـدة محاربيـن صغـار، بينمـا «سـامي» وحيـد ولا يملـك صديقـا واحـدا، منعـزل عـن بقيـة الأطفـال ومسـتواه الدراسـي متدني جدا، و هو شارد الذهن دائما، وعنده الكثير من الأسئلة التي لا تغـادر مخيلتـه الصغيـرة، ... « متـى سـيتحرر الغـول ؟ متـى سـيجوع الوحش ؟ هل ستنسى العمة «كاميليا» إطعامه فيجوع ويهجم عليه ؟ ومـاذا عـن ذلـك المسـخ الـذي شـاهده ذات مـرة فـي صغـره ؟ »

     فـي هـذه الأثنـاء يتقـدم «وليـد» مـن خلـف «سـامي» دون أن ينتبـه لـه، يدفعـه بقـوة فيسـقط أرضـا ويلتـف حولـه الكثيـر مـن الأطفـال وسـط ضحـكات وقهقهـات عاليـة.

«وليـد» قائـلا « مرحبـا أيها الكائن الغريب... هل شاهدت وحوشا أخرى ؟ ... الغول الذي أخبرتنا عنـه موجـود فـي رأسـك فقـط » يـرد «سـامي» بصـوت خافـت بعـد أن طأطـأ رأسـه « الوحـوش موجـودة بالفعـل ... لقـد شـاهدت أحدهـا بـأم عينـي، وأسـمع أصواتهـم دائمـا » ... هنـا يتدخـل العـم «أحمـد» حـارس المدرسة ويبعد الأطفال عن «سامي» ثم يساعده في النهوض ويحمل عنـه محفظتـه، بعدهـا ينظـر مباشـرة فـي عينيـه قائـلا « لا يجـب أن تسـمح لأحـد بالسـخرية منـك يـا ولـدي، عليـك أن تكـون قويـا، .... هـذه الحيـاة أقسـى وأمَـرُّ ممـا تعتقـد، وعليـك أن تسـتعد لهـا مـن الآن » يـرد الفتـى « نعـم، شـكرا يـا عمـي «أحمـد» »

     فـي هـذه الأثنـاء يـدق الجرس فيتجه جميع الأطفال بمن فيهـم «سامي» إلـى حجرات الأقسـام.

     اليوم هو يوم الإثنين ، والذي يفتتح دائما بدرس العلوم الطبيعية ، والمعلمة هي الآنسة «سعاد »... آنسـة فـي بدايـة الأربعينيـات، قصيـرة القامـة، ضعيفـة البنيـة وتحـب ارتـداء الأحذيـة ذات الكعـب العالـي ... تضـع نظـارة بإطـار وردي لـم يسـتطع إخفـاء الشـر الـذي يتطايـر مـن عينيهـا الصغيرتيـن مـع بـروز واضـح لعظـام وجنتيهـا، وفـم صغيـر وجـاف ... ولـم تُفَـوّت حصـة واحـدة إلا وعاقبـت تلميـذا أو أكثر لِتُهَـمٍ بسـيطة فـي نظرهـم ولا تغتفـر حسـب اعتقادهـا مثـل التشـويش، عـدم التركيـز، عـدم الفهـم، لبـاس غيـر لائـق، تسـريحة شـعر غيـر مناسـبة ... إلـخ ، وتسـتعمل لعقابهـم عصـا تحملها معها دائما، وبعد عقابهم تأمرهم بالوقوف إلى الحائط برجلٍ واحدةٍ وبيدين مرفوعتين للأعلى لغاية نهاية الحصة ... حتى إن أغلب التلاميذ ومن شدة خوفهم منها صاروا يحفظون مادتها عـن ظهـر قلـب بـدل فهمهـا! وذلـك اجتنابـا لمواجهتهـا أو إثـارة غضبهـا.

    تدخـل المعلمـة القسـم فيقـف الجميـع اسـتعدادا وترحيبـا بهـا ،... تجلـس علـى مكتبهـا والجميـع يتابعهـا بنظراتـه بينمـا تتفحصهـم هـي بنظـرة واحـدة خاطفـة بحثـا عـن أي شُـذوذ فـي طريقـة اللبـاس أو قصـة الشـعر أو كل مـا يمكـن اعتبـاره مُخَالفَـةً تسـتحق العقـاب ... تُخْـرجُ العصـا مـن درج المكتـب بينمـا تعطيهـم الإذن بالجلـوس،... ثـم تقـف قائلـة « حسـنا يـا تلاميـذ، الآن أخرجـوا واجباتكـم المنزليـة التـي طلبتهـا منكـم سـابقا ».

    فـي هـذه اللحظـة فقـط فـإن الفتـى قـد تذكـر أن هنـاك واجبـا منزليا، ... لقـد نسـي أمـره تمامـا، و ككل مـرة هـو الأن فـي ورطـة كبيـرة، ... ماهـي حجتـه هـذه المـرة ؟ لأنـه كان قـد أسـتنفذ سـابقا كل الحجـج الممكنـة والمسـتحيلة مثل : المـرض، وعكـة صحيـة، زيـارة عائليـة ، ... مسـاعدة عائلتـه فـي نقـل بعـض الأثـاث والثيـاب لبيتهـم الجديـد... حتى إنه تحجج مرة بحضور جنازة أحد الجيران ! .... مـع العلـم أن كل هـذه الحجـج لـم تشـفع لـه عنـد الآنسـة «سـعاد» و نَـال بسـببها عقابـا شـديدا.

    المعلمـة الأن تتجـول بيـن الصفـوف وتتأكـد مـن أن الجميـع قـد قامـوا بالمطلـوب، وهـي تقتـرب مـن مـكان جلـوس الفتى فـي الطاولـة قبـل الأخيـرة مـن الصـف الوسـط، وصـوت أقدامهـا يقتـرب معهـا أكثـر وأكثر ويزيد من ضغط الفتى، والذي فقد الأمل تماما في النجاة هذه المـرة، وكل مـا اسـتطاع فعلـه هـو الاسـتعداد للعقـاب، ... حتـى وصلـت إليه.

     الفتـى الأن منكمـش فـي مكانـه، مطأطئ رأسـه، وهـو يسـمع تلـك الكلمـات المرعبـة « أيـن هـو حـل الواجـب المدرسـي يـا «سـامي» ؟»
_لقد نسيتُ يا سيدتي .
_مثـل كل مـرة ! ... أنـت مسـتهتر... لا مزيـد مـن الأعـذار، عليـك إحضـار ولـي أمـرك، لكـن قبـل ذلـك عليـك بالتوجـه إلـى المديـر ثـم إلـى الطبيبـة النفسـية، أنـا أشـك فـي أمـرك ... » ثـم تمسـكه بقـوة مـن أذنـه قائلـة « تعـال معـي أيهـا التلميـذ المسـتهتر » ...

    ولأن غريمـه «وليـد» لا يضيـع أي فرصـة كعادتـه فقـد اغتنـم الفرصـة للنيـل مـن الفتـى مـرة أخـرى وذلـك بقولـه « اذهـب يـا غريـب الأطـوار ولا تنسـى أن تخبرهـا عـن الغـول » ... قهقهـات عاليـة مـن بعـض التلاميـذ زادت مـن إحـراج الفتى وأفقـدت المعلمـة تركيزهـا وهـو مـا جعلهـا تضـرب الطاولـة بيدهـا وبـكل قوتهـا قائلـة وهـي تُشـير بأصبعهـا « أنـت وأنـت ... وأنـت » ثـم تنظـر ناحيـة «وليـد» مواصلـة « وأنـت يـا «وليـد» ... قفـوا جميعـا خلـف الصـف عنـد الحائـط ولا تتحركـوا حتـى أعـود »

    يصمـت الجميـع وتخـرج المعلمـة رفقـة «سـامي» إلـى المديـر ثـم إلى الطبيبة النفسيـة حيث سيبقى عندها هناك حوالي ساعة أو أقل بقليـل، قبل أن تأمـره بالعـودة إلـى صفـه بينمـا تتوجـه هـي إلـى مكتب المدير .

_ما هي مشكلة «سامي» يا دكتورة ؟
_لا أدري يا سـيادة المدير، لا أسـتطيع تحديدها بدقة من أول مرة، أحتاج إلى بعض المعطيات ويجب أن أتكلم مع ولي أمره .
_لماذا ؟... ماذا تعتقدين ؟
_ حسنا، هذا الطفل يعتقد أنه محاط بالوحوش والغيلان .
_ماذا ؟!.. وحوش و غيلان ؟ ماذا تقولين ؟
_نعـم، كمـا سـمعت يـا سـيادة المديـر، ... والمشـكلة أنـه مصـدق تمامـا لوجودهـا ! حتـى إنـه متأكـد مـن رؤيـة أحدهـا ذات مـرة .
_وما العمل ؟ ... ماذا تقترحين يا دكتورة ؟
_علينـا أولا أن نتأكـد، ولا تنسـى حضرتـك أن بنـاء عالـم وهمـي مـن طـرف الطفـل مـع الانطـواء علـى الـذات تـدل علـى وجـود مشـكلة كبيـرة يعانـي منهـا .
_مثل العنف الجسدي ؟
_ ممكن جدا ..
_حسنا سأستدعي ولي أمره غدا صباحا .

    وهكـذا انتهـي الاجتمـاع سـريعا بيـن مديـر المدرسـة والطبيبـة النفسـية بالاتفـاق علـى اسـتدعاء ولـي أمـر الفتـى قبـل الحكـم على المشـكلة .

    مسـاءً، وعنـد تمـام السـاعة السـابعة، وكالعـادة يجلـس «سـامي» لتنـاول وجبـة العشـاء مـع زوج عمتـه وصديقـه الوحيـد السـيد «أسـعد».
_كيف حال المدرسة اليوم يا «سامي» ؟
_المدير يريد رؤيتك غدا صباحا .
_لماذا ؟ هل حدث شيء ؟ هل هناك مشكلة ؟
_ لا أدري يـا عمـي، لكنـه قـال لـي إذا لـم تُحضِـر ولـي أمـرك غـدا صباحـا فـلا تتعـب نفسـك بالحضـور وسـلمني هـذه الرسـالة .

    يمـد السـيد «أسـعد» يـده ويمسـك بالرسالة، ينظـر إليهـا بفضـول وغرابـة قبـل أن يفتحهـا ويطلـع عليهـا بتركيـز كبيـر ثـم يبتسـم قائـلا « حسـنا، غـدا سـأرافقك يـا ولـدي » .

    يبتسـم الفتـى بعـد أن ارتـاح لـرد زوج عمتـه ، ليقـرر حينها اغتنـام الفرصـة لطـرح السـؤال الكبيـر « إلـى متـى سـنبقى نتنـاول الطعـام أنـا وأنـت فقـط يـا عمـي ؟ متـى تشـاركنا عمتـي «كاميليـا»؟ »

_أنـت تعلـم أنهـا فـي هـذه الأثنـاء تقـوم بإطعـام الغـول حتـى لا يجـوع فيهجـم عليـك .
_ لماذا لا نغادر هذا البيت ونتخلص منه ؟
_لأنـه سـيجوع فـي النهايـة ويدمـر قيـوده، ولا تنسـى أن قوتـه لا تقهـر، سـيتحرر وسـيبدأ فـي التهام الأطفـال واحـدا واحـدا حتـى يصـل إليـك، ... سـتكون مسـألة وقـت فقـط، وتذكـر طالمـا أنـت بعيـد عـن تلك الغرفـة فأنـت بأمـان .
_ نعم يا عمي، لن أقرب تلك الغرفة أبدا .
_لم تخبرني ماذا تريد كهدية في عيد ميلادك غدا.
_ أريد دراجة هوائية .
_ حسنا، لك ذلك، سأشتري لك أحسن دراجة يا «سـامي» ، لكن في المقابل أريد نتائج دراسية جيدة .
_ نعم يا عمي .

   يقف «سامي»، ... فيخاطبه زوج عمته بقوله « إلى أين أنت ذاهب ؟ أكمل طعامك .. »
_شبعت يا عمي .
_اجلـس وأكمـل طعامـك، وبعدهـا تنـاول الفواكـه، ... أنظـر يوجـد الكثيـر مـن المـوز والعنـب والتفـاح .

    يمد الفتى يده ويحمل عنقودا من العنب ويلتهمه بسرعة في الوقت الذي يبتسم فيه السيد «أسعد» قبل أن يقول « لا تنسى غسل أسنانك جيدا، ثم راجع دروسك »
_نعـم يـا عمـي... هـذا مـا قاله قبـل أن يتوجـه لغسـل أسـنانه بعدهـا يتقـدم مباشـرة إلـى غرفتـه، يدخـل، ... يغلـق البـاب علـى نفسـه مـن الداخـل وبالمفتـاح، ثـم يغلـق النافـذة جيـدا، بعدهـا يأخـذ مكانـه علـى السـرير ويمسـك بيـده الكشـاف الضوئـي وهو عبارة عن لمبة يدوية يجربهـا... تشـتعل، ثـم يطفئهـا ... بعدهـا يحـاول أن ينـام، فهـو متعـب جـدا، لكـن أنّـى لـه ذلـك ؟! ، فذلـك الصـوت القـادم مـن غرفـة العمـة ،... ذلـك الأنيـن المتواصـل، وكأن أحـد الوحـوش يتلـوّى ألمًـا... «سـامي » يهمـس فـي نفسـه قائـلاً « إنـه الغـول وهـو يتألـم بشـدة، يبـدو أن العمـة «كاميليـا» قـد نجحـت كعادتهـا فـي السـيطرة عليـه » ...

     تمـر أكثـر مـن ثلاث ساعات، قبـل أن يخمـد ذلـك الصـوت أخيـرًا «..آه، لقـد تَمَكّنَـتْ منـهُ عمتي وقَضَـتْ عليـهِ ، ... الآن فقـط أسـتطيع النـوم » ...

     لكن نوم الفتى كالعادة لا يدوم طويلا، فسرعان ما يبدأ كابوسه الحقيقـي، ... نفـس الكابـوس يشـاهده كل ليلـة، أرض مدمـرة عـن آخرها، ظلام دامس، نار ودخان في كل مكان، وآلاف الجثث مترامية هنـا وهنـاك لمخلوقـات غريبـة و مشـوهة، وفـي الخلـف هنـاك حيـث الغيـوم الداكنـة يقـف الغـول، ذلـك الكيـان الضخـم المرعـب والقـادم مـن عالـم الظـلام، يخرج من تحت الأرض بـكل قوتـه وجبروتـه، مخلـوق بلـون أسـود نـاري، ... أنفاسه من نار وعيونه حمراء تتقد شرا يحدق في الفتى بكل حقد، و هو قادم إليه ليأكله، أسـنانه من حديد، وقرونه كقرون الشـيطان ،يحمـل رمحـا ناريـا ويهـوي بـه علـى الفتـى بـكل قـوة ... فيسـتيقظ مرعوبـا ويقفـز ليختبـئ تحـت السـرير مسـلحًا بكشـافه الضوئـي الـذي يحملـه بيده اليمنى ويحمل جرسا كبيرا بيده اليسرى لِيَدُقَّهُ إذا شعر بالخطر فيسـمعه زوج عمتـه ويسـرع لإنقـاذه، .... وهكـذا يقضـي المسـكين مـا تبقـى مـن الليـل تحـت السـرير مترقبـا ...

     فـي اليـوم الموالـي وبعـد تنـاول وجبـة الإفطـار يذهـب «سـامي» رفقـة زوج عمتـه لمقابلـة المديـر ...

    لقـد وصـلا للمدرسـة ، والفتـى يمشـي شامخا أمام الأطفال ويمسك بيد زوج عمته، إنه يشعر معه بالأمان والقـوة، يصـلان إلـى المدرسـة فيجـدان المديـر والطبيبـة النفسـية فـي اسـتقبالهما عنـد مدخـل الإدارة.
«اذهـب إلـى فصلـك يـا «سـامي» » ... هـذا مـا قالـه المديـر وهـو ينظـر بإهتمام كبير إلـى السـيد «أسـعد».

    يلتفت الفتى مغادرا بعد أن قال « نعم سيدي » ...
_هل هناك مشكلة يا سيادة المدير؟
       _فـي الحقيقـة نعـم، و أعتقـد أن الطبيبـة النفسـية تريـد أن تسـألك بعـض الأسـئلة عـن «سـامي» .
_بكل سرور، أنا جاهز يا دكتورة.
       _اتبعنـي مـن هنـا رجـاء إلـى مكتبـي ... هكـذا قالـت الطبيبـة بينمـا انطلقـت بالفعـل إلـى مكتبهـا ويتبعهـا ضيفهـا إلـى الطابـق الأول.
يصـلان بسـرعة، يدخـلان ويجلـس السـيد «أسـعد» علـى الكرسي.
_ « أنا في الاسـتماع يا دكتورة ... » هكذا قال وهو ينظر ناحية الطبيبـة التـي أخرجـت ملفـًا مـن الـدرج وقامـت بفتحـه قبـل أن ترفـع رأسـها وتنظـر إلـى ضيفهـا قائلـة « حسـب ملـف التلميـذ «سـامي أميـن» فأنـت زوج عمتـه وكفيلـه ؟ »
_ هذا صحيح، لقد فقد أسرته منذ سبع سنوات، ومن يومها ونحن أسرته .
        _إذا كنـت تلاحـظ يـا سـيد «أسـعد» فسـامي كثيـرُ الشـرودِ الذهنـي وينـام كثيـرا فـي الفصـل الدراسـي ونتائجـه تتراجـع مـن سـنة لأخـرى ؟
_وما المطلوب مني بالضبط يا دكتورة ؟
       _هل يعاني الفتى من مشكلة ؟ أو من العنف الأسري ؟
_كلا، .. أبدا، فنحن نعامله أحسن معاملة ونشتري له أحسن الثيـاب والألعـاب والكتـب ولا نبخـل عليـه فـي شـيء بـدءا مـن الحلويـات والألعاب وصولا للاستجمام والرحلات السياحية، كل طلباته أوامر بالنسبة لنا .
       _هل تتشاجر كثيرا مع زوجتك أمام «سامي» ؟
_كلا، أنا في وفاقٍ تام مع زوجتي، ... ولكن لما كل هذه الأسئلة؟ ماذا حدث ؟
       _لأن «سـامي» يعتقـد أنـه يعيـش فـي بيـت ملـيء بالوحـوش والغيـلان ؟ الفتـى لا يشـعر بالأمـان فـي ذلـك البيـت أو هـذا مـا يعتقـده، وفـوق هـذا هـو متأكـد مـن رؤيـة أحدهـم فـي ذات مـرة ؟

     يرتبك السيد «أسـعد»، ...ثـم يحـاول التغطيـة علـى ارتباكـه مـن خـلال تعديلـه لوضعية النظارة قائلا « آه تلك الحادثة، لقد مرت عليها مدة طويلة، عندمـا انقطعـت الكهربـاء فجـأة تزامنا مع الرياح الشديدة و أصـوات الرعـد، وقَـدِ أعتقـد «سـامي» حينهـا أنـه رأى مـا يشـبه الوحـش، وأتضـح لاحقـا أن دخـول الرياح من النافذة المفتوحة جعلت الستائر تتحرك، فأعتقد أن هناك وحشـا، ... لكـن هـذه الحادثـة مـر عليهـا وقـت طويـل و «سـامي» كان صغيرا حينها، وأذكر جيدا أنها تزامنت مع فترة فقدانه لوالديه، وقد كانـت تلـك الليلـة بعـد حوالـي شـهر أو اثنيـن مـن قدومـه للعيـش معنـا »
       _وماذا عن أصوات الوحوش التي يسمعها كل ليلة ؟
_ مـاذا ؟ وحـوش ؟ ههههـه، ... إنـه صـوت التلفـاز، أنـا وزوجتـي نحب مشـاهدة أفلام الرعب والخيال العلمي، وهي تبدأ عند الثامنة ليـلا، ... سَـأُخفضُ مـن صـوت التلفـاز إبتـداءً مـن الليلـة .
      _يا سيد «أسعد» حاولوا أن توفروا للفتى بيئة أمنة، وأخبـروه أن الوحـوش غيـر موجـودة، ... بالنسـبة للعنـف الجسـدي أو الأسـري أنـا متأكـدة مـن أنـه غيـر موجـود، فقـد شـاهدت «سـامي» وهـو يمسـك بيـدك ويمشي بجانبـك ورأسـه مائـل فـي اتجاهـك وهـذا دليـل علـى الثقـة والحـب، سـنبحث عـن المشـكلة فـي مـكان آخـر، هـذا الطفل يحتـاج إلـى المسـاعدة والكثيـر مـن الثقـة بالنفـس .
_بالتأكيد يا دكتورة، ... افعلوا ما عليكم وسأفعل ما بوسعي، وبالمناسـبة اليـوم هـو ذكـرى عيـد ميـلاده الثانـي عشـر ، وقـد طلبـت منـه أن يختار هديته بنفسه وقد اختار دراجة هوائية، وعند نهاية الدوام المدرسي لهـذا اليـوم سـآخذه ليختـار واحـدة بنفسـه، بالإضافـة إلـى هديـة أخـرى سـتكون مفاجـأة لـه .
        _تذكـرك لـيوم عيـد ميـلاده يعنـي وجـود الاهتمـام والتواصـل بينكـم، إذا مشـكلته هـي نتيجـة لتراكمـات سـابقة ! عمومـا شـكرا لقدومـك وتوضيـح الأمـور لنـا، ونحـن مـن جهتنـا سـنفعل المسـتحيل مـن أجـل إعـادة «سـامي» لحالتـه الطبيعيـة، وأنتـم وَفِّـرُوا لـه جـوًا آمنـا مليئا بالحب والحنان فهذا كل ما يحتاجه الآن، ... بالمناسبة يا سـيد «أسـعد» لقـد شـرحت وضعيـة الفتـى فـي هـذه الرسـالة -وتسـلمه رسالة مغلقة بعد أن ختمتها بختم المدرسة- عليك أن تتوجه بها لأي طبيب نفسي تختاره بنفسك ليشرف على جلسات علاج نفسي له، وأنـا سـأتابع تطـور حالتـه مـن هنـا.

    يمد يده ويمسـك بالرسالة مع امتعـاض شـديد،
جعل ملامح وجهه تتبدل قبل أن يقول « ولـمَ لا تشـرفينَ عليـهِ بنفسـكِ يـا دكتـورة ؟»
_لأن دوري هـو المتابعـة والإشـراف علـى كل التلاميـذ بهـدف تحديـد مـن يعانـي منهـم مـن أي خطـب لأقـوم بتوجيهـه بشـكل صحيـح.
        _حسنا شكرا لك سيدتي.
_شكرا لتفهمك سيدي.

     عنـد نهايـة الـدوام المدرسـي يخـرج «سـامي» وهـو يجـري فيجـد زوج عمته في انتظاره خارجا، يتجه إليه مباشرة وهو مبتسم ، يحضنه ويحملـه قائـلا « مرحبـا بالبطـل الكبيـر، هيـا بنـا إلـى مركـز التسـوق لتختـار هديتـك بنفسـك » يـرد عليـه « نعـم يـا عمـي ».

     يتوجـه الاثنـان إلـى مركـز التسـوق ويشـتريان دراجـة هوائيـة مـن اختيار «سامي» وعلى ذوقه بالإضافة إلى الكثير من الحلوى والملابس الجديـدة، ثـم يمـرون علـى الصيدليـة ليشـتري السـيد «أسـعد» دواءً، ويعـودان بعدهـا مباشرة إلـى البيت.

     يدخـلان إلـى الردهـة، ... السـيد «أسـعد» يطلـب مـن الفتـى أن يسـتحم ويرتـدي ثيابـه الجديـدة مـن أجـل حفلـة عيـد ميـلاده، العمـة «كاميليـا» تسـمع صوتهمـا فتخـرج مسـرعة مـن المطبـخ قائلـة « لمـاذا طلـب المديـر حضـورك ؟»
_ سـنتكلم فـي داخـل المطبخ ... هكـذا أجابهـا زوجهـا «أسـعد » وبنبـرة غيـر معتـادة توحـي بـأن هنـاك خطبًـا مـا ، فتفهـم العمـة مباشـرة وتسـارع بدخـول المطبخ ويتبعهـا زوجهـا، يدخـلان ويغلقـان البـاب خلفهمـا، فيبـادر زوجهـا قائـلا « هـل تعلميـن أن «سـامي» كان يسـمع أنيـن ابننـا «محمـود» طـول الوقـت ؟ »
        _ماذا ؟ ... ماذا تقول ؟
_نعـم كمـا سـمعت، وهـو يعتقـد أن هنـاك وحشـا حقيقيـا بغرفتنا سيهجم عليه في أية لحظة، وقد أخبر الطبيبة النفسية بكل شـيء ... هذا الطفل يعاني من مشـكلة نفسـية حقيقية ... لقد صَدَّقَ كل شـيء .
       _والطبيبة هل اكتشفت شيئا ؟
_لا أعتقـد، اسـتطعت إقناعهـا، لكـن ... يـا عزيزتـي أعتقـد أنـه ربمـا قـد حـان الوقـت لوقـف هـذه المهزلـة، ... نحـن أمـام طفـل بـريء يصدق أي شيء، إنه مصدق لوجود الغيلان، إنه انطوائي ومنعزل، ويخـاف مـن الظـلام، هـذا الطفـل قـد يتعقـد ولـن أسـامح نفسـي إذا حـدث لـه شيء .
        _ماذا تعني ؟
_أعتقـد أن «سـامي» قـد كبـر، ويمكننـا الآن إخبـارهُ أن لـه قريبـا يعانـي مـن بعـض التشـوه وأنـه ...
تقاطعـه «كاميليـا» بسـرعة وغضـب « كلا ... لا يـزال «سـامي» طفـلا علـى فهـم المشـكلة وتَحَمُّـل رؤيـة «محمـود» »
_خذي هذه حبوب منومة اشتريتها من عند الصيدلي، ضعيها في طعام «محمود» لينام باكرا هذه الليلة، لا نريد أن يصل أنينه إلى «سامي».
      _ولكن «محمود» مريض ولا يجب أن ...
_بـدون ولكـن، هـذه الليلـة فقـط، ... غـدا سـأبني جـدارًا عـازلا للصـوت داخـل الغرفـة، لـن يسـمع أنيـن ابننـا بعـد اليـوم، وأيضـا فـإن هـذه الليلـة هـي ليلـة عيـد ميـلاده، لنجعلـه أميـرا فيهـا، ولا تنسـي أنـه لا يملـك غيرنـا فـي هـذه الدنيـا ...

«كاميليـا» تنظـر لزوجهـا وكأنهـا تريـد قـول شـيء، تمـد يدهـا و تمسـك بعلبـة الـدواء علـى مضـض قائلـة « حسـنا، أنـا موافقـة إذا تعلـق الأمـر بهـذه الليلـة فقـط »
_و أيضا فإن الطبيبة تقترح عرض «سامي» على طبيب نفسي.
         _ماذا؟! ... طبيب نفسي ؟
_نعـم يـا عزيزتـي، وسـلمتني رسـالة تشـرح فيهـا حالـة «سـامي » لأقدمهـا لأي طبيـب نختـاره لبـدأ جلسـات عـلاج نفسـي لـه.
       _ولكن جلسـات العـلاج النفسـي غاليـة ومكلفـة وقـد اسـتنفذنا كل مدخراتنـا فـي تسـديد ثمـن السـيارة وأقسـاط البنـك.
_ومـاذا تقترحيـن ؟ الفتـى يعانـي مـن خطـب نفسـي كبيـر وعلينـا علاجـه بـأي ثمـن.
       _لنأجـل الأمـر حاليـا لغايـة الشـهر المقبـل، وبعدهـا نبـدأ فـي جمـع المـال الـلازم.
_حسنا موافق ، والآن أنظري يا عزيزتي إنهـا تمـام السـابعة، وقـت عشـاء «محمـود»، ضعـي لـه حبـة واحـدة وأنـا سـأخرج لأجهّـزَ الكعكـة رفقـة «سـامي» وسـنتكلم فـي موضـوع توفيـر ثمـن العـلاج لاحقـا .

     فـي صالـة الضيـوف الكبيـرة، يقـوم الفتـى والسـيد «أسـعد» سويًا بتجهيز الطاولة وذلك بوضع أجمل الكؤوس وأرقى الأطباق التي كانـت العمـة «كاميليـا» تحتفـظ بهـم للمناسـبات الكبيـرة، وفـي وسـط الطاولة يضعان كعكة كبيرة مع شمعتين في وسطها على شكل الرقم 12 ، .... لتلتحق بهم العمة بعد أن تأكدت من نوم ابنها، ... يحتفلون ثلاثتهم ويتناولون الحلوى والمشروبات ويحصل «سامي» على الكثير من الهدايا، العمة «كاميليا» أحضرت له طائرة درون حديثة مزودة بكاميـرا للتصويـر، أمـا السـيد «أسـعد» فقـد طلـب منـه أن يغمـض عينيـه ... والآن افتـح عينيـك يـا بطـل ... إنـه قفـص حديـدي بداخلـه هامسـتر صغيـر .
«شكرا يا عمي » هذا ما قاله الفتى وهو سعيد جدا ... إنها ليلة رائعة، أجواء عائلية لم يعشها الفتى منذ مدة طويلة .

     يواصل السيد «أسعد» وهو يضحك « على رسلك يا «سامي»، لاتزال هناك هدية أخرى ... خذ ... إنه جهاز لوحي الكتروني »
_رائـع ... هـذا ما كنـت أحتاجـه بالضبـط، ويرتمـي الفتـى فـي حضـن عمـه الـذي حملـه عاليـا بصعوبـة وهـو يقـول « لقـد أصبحـتَ ثقيلا يا «سامي» ، أنت تكبر بسرعة »
يرد عليه الفتى « بل أنت الذي أصبحـت عجـوزا يـا عمـي، هههـه » وينفجـر الجميـع ضحـكا ... ثـم يأكلـون من الكعكة الكبيرة ويشـربون مـن العصائـر الملونة.

العمة «كاميليا» تنظـر لسـاعة يدهـا وهي تقول « إنهـا العاشـرة يـا «سـامي» ، لقـد تأخـرت، إنـه وقـت النـوم »

     يمسـك الفتـى بطائـرة الـدرون والجهـاز اللوحـي، ويمسـك زوج عمتـه بقفـص القارض ويضعـه داخـل غرفـة «سـامي» ، أمـا العمـة فقـد أمسـكت بصحـن يحتـوي علـى قطعـة كبيـرة مـن الكعكـة ليأكلهـا الفتـى لاحقـا إن شـعر بالجـوع ، ووضعته فـوق طاولتـه الصغيـرة ثـم غطته، وقام كل منهما بتقبيلـه وتمنى لـه ليلـة سـعيدة قبـل أن يغـادرا معـا ويغلقـا البـاب خلفهمـا .

« ما أجمل هذه الليلة » هذا ما قاله الفتى في نفسه وهو ينظر إلـى الهامسـتر الصغيـر، ... والآن مـاذا سأسـميك أيهـا القـارض اللطيـف ؟ ... يجـب أن يكـون إسـما رنّانـا لـهُ وقـع ٌخـاص فـي الأذن » ، يغمـض الفتـى عينيـه ويبـدأ فـي جـرد كل إسـمٍ فـي ذاكرتـه الصغيـرة حتـى غلبـه النعاس ... فالمسكين لم ينم جيدا ليلة البارحة، أو ربما لم ينتبه أنه لـم يسـمع أنيـن الوحـش لهـذه الليلـة ولأول مـرة!

                           الأفتـار

      الآن إنهـا تمـام السـاعة صفـر، منتصـف الليـل، الهـدوء يسـود المـكان والجميـع يغـط فـي نـوم عميـق عندمـا تتشـكل هالـة كبيـرة مـن النـور والضبـاب والنجـوم البراقـة داخـل غرفـة الفتـى، ويخـرج منهـا رجـل هزيـل بـلا ملامـح، مجـرد ظـل بشـكل مخيـف ... ينظر يمينا وشمالا قبل ان يقتـرب مـن الفتـى ويهمـس فـي أذنـه قائـلا « «سـامي»، ... «سـامي»، اسـتيقظ ... أنـتَ مطلـوبٌ فـي عالـم الخيـال » ... يتبع

1 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.