Naoot

Share to Social Media

حـوار مع صديقي المتطـرّف

صديقي المتطرِّف لا يكلُّ ولا يملُّ من الكلام عن "المظهر"، وأنا تعبتُ من فرط الكلام عن "الجوهر". في لقائنا الأخير قلتُ له:
تدعو "الزرادشتية" إلى الإيمان بإله واحد متعالٍ هو "الخالق"، وهو الذي لا يُعزَى إليه شكلٌ أو لون أو مظهر، أحدٌ صمد، لا تحيط به العقول، ولا يحدُّه مكان. العادلُ، الغفورُ، الرحيمُ، الواحدُ، الأحد. ويقول "زرادشت" في تعاليمه إنّ الاعتقاد بالخالق، لا يتمُّ إلّا عن طريق "العقل الصالح"، وإن الخلاصَ يأتي بتطوير أنبل منازع الإنسان. ويحذِّرُ أتباعَه من "روح الشّر". وأكبر الشّرور في زمانه تتمثّل في مَيل العامة إلى عبادة المظهر دون الجوهر.
وتقول "البوذيةُ" إنّ السّعادةَ لا تتمُّ إلّا بالتخلّص من الأنانية من أجل الوصول إلى حالة "النيرفانا" -أي الصّفاء الروحيّ، ومن أجل ذلك يتحتمُ على الإنسان إتّباعُ السُّبل النبيلة الأربعة: ’التفكيرُ السليم‘ الخالي من كلّ نزعة هوى، ’الفعلُ السليم‘ الذي يسلكه الإنسانُ في سبيل حياة مستقيمة تتّكئُ على العلم والحق، ’الكلامُ السليم‘ بقول الصدق بغير زور أو كذب، ’العيشُ السليم‘ القائمُ على هجر الملذّات الرخيصة. و"النيرفانا" هي حالة التيقُّظ أو الاستنارة التي تُخمد نيرانَ الدوافع المسببة للآلام: الشهوةُ، الحقدُ، الجهلُ. وهي بدايةُ طريق الخلاص. وتتلخص قواعدُ "البوذية" في الكفّ عن آثام خمسة: القتلُ، أخذُ ما ليس لك، الكلامُ السيئ، السلوكياتُ الحِسيّة المُشينة، تناولُ المخدّرات. وبإتّباع تلك التعاليم يمكن القضاءُ على شرور الإنسان الثلاثة: الشهوانية، الحقد، الوهم.
ويقول المسيحيُّ في صلاته: "اغفرْ لنا ذنوبنا كما نغفرُ نحن أيضًا للمذنبين إلينا، ولا تُدخلنا في تجربة، لكن نجِّنا من الشرير". ويقول: "أحبّوا أعداءكم، بارِكوا مُبغضيكم، وصلّوا لأجل الذين يُسيئون إليكم ويطردونكم". وفي "القدّاسات" يدعون لكلّ البشر قائلين: "نُصلّي من أجل إخواننا أصحاب الديانات الأخرى، ليحيوا عمقَ إيمانهم، حسبَ قصد الله. نصلّي من أجل كلّ مَن يمارس العنف باسم الدّين، ليكتشفَ غِنا وعظمة حب الله".
وفي الحضارة الفرعونية الفريدة، التي صنعها أجدادنا، ورد في كتاب "العبور إلى النهار"، الشهير بكتاب الموتى، أن شرط الانتقال إلى أبدية العالم الآخر، هو إقرار المتوفى باعترافاته السلبية بأنّه: لم يكذب، لم يسرق، لم يقتل، لم يلوِّث النهرَ المقدّس. ويشهد على صدق اعترافه ميزانٌ، يوضع في إحدى كفّتيه قلبُ الميت، الذي يمثّل ضميرَه، في مقابل الكفّة الأخرى التي توضع بها ريشةٌ تمثل الحقَّ والعدلَ والجمال.
وحين سُئل "دالاي لاما" عن أفضل العقائد قال: "هي تلك التي تجعلك أكثرَ رحمةً، أكثرَ حساسيةً، أكثرَ محبةً، أكثر إنسانيةً، أكثر مسؤوليةً، أكثرَ جمالاً. العقيدةُ التي تفعل معك كل هذا تكون هي الأفضل".
وهكذا يا صديقي ترى أنّ الأديان كافّةً تتوجه نحو هدف واحد؛ الجمال. وتنادي بمبادئ واحدة، في "الجوهر/المعنى"، أما "المظهر/الصورة"، فلا شأن لي بها. ولكلّ إنسان أن يختار، بملء إرادته، الطّقسَ والشعيرةَ والطريق التي يسلكها للوصول إلى هذا الجمال، الذي هو الله. وفي هذا قال "جلال الدين الرومي": "اذهبْ، واسعَ وراء المعنى، يا عابدَ الصورة". حدثتُكَ عن بعض الأديان، الوضعية، والسّماوية، وتعمدتُ ألّا أتكلّم عن الإسلام، لأنّنا جميعًا، مسلمون ومسيحيون، نعلم كلّ شيء عنه من المدارس والتليفزيون والأهل والشّارع، ومن الشّمال والجنوب والشّرق والغرب، بما أنّنا ننتمي إلى مجتمع "مسلم"؛ كما تعلم.
لكنّ صديقي يعيدُ الكرّة ويقول لي: "لكنّ اسمك "فاطمة"..! فكيف لا تناصرين المسلمين دون قيد أو شرط؟ ألم يقلِ الرسولُ: انصرْ أخاك ظالمًا أو مظلومًا؟". فقلتُ له: "هنا أخطاءُ أربعة: 1- قيل: يا رسولُ الله، أنصُره مظلومًا، فكيف أنصُرُه ظالماً؟! قال: تحجزه عن ظلمه فإن ذلك نصرُه. أن تُريه الحقَّ حقًّا، والباطلَ باطلاً. 2- اسمي "فاطمة"، يعني مسلمة، فهل ترى أنّ واجبي كمسلمة أن أعادي وأحارب غيرَ المسلم؟ ألا تتّفق معي في أنّك هنا تُنزل من شأن عقيدتك إذْ تجعل منها عقيدةً أنانيةً ظالمة؟ وأنّك ترى أن الله، خالقَ الكون، قد خلق عباده على اختلاف ألوانهم وعقائدهم وأعراقهم، لكي يقتتلوا لا لكي يتعايشوا ويتحابوا؟ أي منطقٍ! ألا ترى أنني حين أؤمن بحتمية حبّ الآخر، وتوحيد حقوق المواطنة، أكون أكثر منك إيمانًا بأن الله عادلٌ يحبُّ العدل؟ وأن العقيدة والحساب، في يده هو تعالى وحده، دون سواه، ليس لي دخلٌ بها، فلا أجعل من نفسي وكيلاً عنه في الأرض، كما تفعل أنت؟ 3- أنت اسمك: "محمّد" أو "جورج" أو "بوذا" أو قطار أو شجرة، فماذا يعني هذا؟ قال "شكسبير" في إحدى مسرحياته: إنّ الوردةَ لن تكفَّ عن نشر شذاها لو كان اسمُها أيَّ شيء آخر غير "وردة". ثم ما دخلي باسمك؟ وما دخل اسمك بأفكارك؟ الاسمُ لم نختره، بل اختاره لنا أبوانا، أمّا أفكارُنا فهي نتاجُ تأملنا وتحصيلُ اجتهادنا الشخصي نحو المعرفة. هل سيحاسبنا اللهُ على أسمائنا، أم على أفكارنا وأعمالنا؟ 4- أنت مسلمٌ محض مصادفة، مثلما غيرك مسيحيٌّ بالمصادفة، لأنّك لم تختر دينك، بل اختاره لك سلفُك، فهل تقتتلان على شيء لم تختره ولم يختره؟ وماذا لو جعلتك "المصادفةُ" مسيحيًّا، أغلب الظن لكنتَ مسيحيًّا متطرّفًا أيضًا! انتهت أخطاؤك الأربعة التي وردت في اجتزائك للحديث الشريف. وأكرّر عليك قولي بأنّني لا أناصرُ ديانةً ولا أهاجم أخرى. بل أنتقد سلوكيات بشر أخفقوا في درس الجمال والعدل والمحبّة، ألتمسُ الجوهرَ الرفيعَ المشترك، أبحثُ عن الجمال بمحاربة القبح في السلوك والقول والفكر. أدعوك إلى تأمُّل مقولة المثقّف الرفيع "علي بن أبي طالب": "احصدِ الشرَّ من صدر غيرك، باقتلاعه من صدرك".
قضيّتي يا صديقي هي المواطَنة، لا العقيدة. العقيدةُ شأنُ الله وحده، أما المواطَنة فشأني وشأنك وشأنُ كلّ مصري. وهنا أستعيرُ قولَ "عبد المطلب بن عبد مناف"؛ جد الرّسول (ص)، حين ذهب لاسترداد إبِلَه من "أبرهة الأشرم" هادم الكعبة، الذي قال له: حسبتُك أتيتَ تتشفّع للكعبة. فردّ "عبد المطلب": "أنا ربُّ الإبل، أما البيتُ فله ربٌّ يحميه". أنا أدافع عن جمال "مصر" الموءود، فهذا واجبي كمصرية، واللهُ جلّ وعلا قادرٌ على الدفاع عن دينه، ليس هذا من شأني، ولا شأنك بالمناسبة. شأننا هو الوطن، والحكومةُ تغتالنا جميعًا وتنتزعُ من صدورنا بقايا الجمال والعدل والحب. ونحن نقعُ في الشرك مبتسمين! في هذا قال "نيتشه": "مُشاهِدٌ رديءٌ للحياة؛ ذاك الذي يغفل عن اليد التي تغتالُ برفق".



كم إلهـًا لهذا الكــون؟


"ستّةُ مليار إنسانٍ فوق الأرض، يعبدون إلهًا واحدًا"..! حلمٌ نرجوه لكوكبنا المأزوم بالحروب والمشاحنات والاقتتال. تخيّلوا معي لو تحقّق هذا الحلم، إذًا لاختفتِ الطائفيةُ، ولعمَّ السّلامُ بين النّاس، حقًّا..! لا أظنّ..! لو حدث هذا، سيبتكرُ الإنسانُ الشقيُّ المجبول على "اختراع النكد" ألفَ سببٍ وسبب لكي يشاكسَ أخاه ويناحره، ثم يقتله، فهل يُلغي الحلمُ -لو تحقّق- المجاعاتِ، والطبقيةَ، والعِرقية، وظلم الثري للفقير، وتحكّم صاحب رأس المال في أبناء "البروليتارية" الكادحة؟ هل يلغي الفاشيات والديكتاتوريات والشموليات؟ الشاهدُ أن الإنسان "يختلق" الأسبابَ لكي يتسيّد ويتجبّر ويقمع ويعيث في الأرض ظلمًا، لماذا؟ لأنّه نسي أن يكون "طفلاً".
تعلّم الإنسانُ مبكّرًا كيف يكبُرُ، ويشبُّ، ويشيبُ، ويهرم، لكنه أغفل أن يأخذ من طفولته قطعةً من البراءة، تحميه في رحلته الطويلة، نحو الشّيخوخة.
ولنعد للفرضية الجدلية: هل هو حلمٌ أن يكون للكون ربٌّ واحد يعبده الجميع؟ ليس حلمّا، بل هو واقعٌ حيّ، لا سبيل إلى نكرانه. كلُّ مَن على الأرض يعبدون إلهًا واحدًا، شاء من شاء وأبى من أبى، لماذا؟ لأنّ للكون بالفعل ربًّا واحدًا. وكيف؟ كلٌّ يعبد هذا الرّب "الواحد"، عبر صورة ذهنية أو رمز يؤمن به، وهنا لا أتكلّم فقط عن الدّيانات السّماوية الثلاث: اليهودية، المسيحية، الإسلام، بل كذلك عن كلّ الدّيانات الوضعية، والفلسفات الفكرية التي وضعها أبناءُ الشرق الأقصى في تصوّر ماهية الله، وحتّى الدّيانات الوثنية التي يتعبّد فيها النّاسُ لأشياءٍ من صنع البشر، أو كائنات حيّة لا تملك من أمرها شيئًا، أو نجومٍ وكواكبَ. كلُّ أولئك يؤمنون في واقع الأمر بالرّب الواحد خالق هذا الكون، الذي لا شريك له، لكنّهم يختارون رمزًا ماديًّا مرئيًا ليشاهدوا عبرَه ذلك الإله غير المرئي.
وهنا وجب التفريق بين "الإيمان"، وبين "العبادات". الإيمان هو تصديق أنّ خالقًا واحدًا أحدًا فردًا صمدًا خلق هذا الكون منذ أزل الأزل، لا يحدّه مكانٌ ولا زمانٌ، كُلّيَّ القدرة، كلّيَّ الإطلاق. وهنا فإيمانُ البشرية جميعها إيمانٌ واحد لا يتغير ولا يتبدّل. قلوبُ المليارات الستّة من البشر (عدا الملحدين) تجتمع على هذا الإيمان الواحد مهما اختلفت الألوان والأعراق والجنسيات والطبقات والأعمار والأيديولوجيات الفكرية والسّياسية، فلا يختلف إيمانُ مسلم عن هندوسيّ عن زارادشتي عن مسيحيّ عن بوذيّ عن يهوديّ عن كونفوشيوسيّ عن رجل عن امرأة عن كهل عن طفلٍ عن أسودَ عن أبيضَ عن أصفرَ عن غنيٍّ عن فقير عن ماركسيّ عن رأسماليّ عن شيوعيّ عن ليبراليّ عن علماني عن رجل دين أيًّا ما كان، بأنّ لهذا الكون ربًّا واحدًا إيّاه وحده نعبد، وإليه جميعًا نتوجّه في صلواتنا، وإيّاه وحده نناجي وندعو في السرّاء والضراء، في الخفاء والعلن. أمّا "العباداتُ"، فما هي إلّا سبلٌ وطرائقُ وأساليبُ وطقوسٌ نؤدّيها من أجل التقرّب إلى هذا الإله الواحد الأحد، وهنا مكمن اختلافنا؛ وهذا حسنٌ، وخلافنا؛ وهذا غيرُ حسن. فالاختلافُ ثراءٌ، والخلافُ دمارٌ وتهلُكة.
الطّفلُ الصّغير تعلّم أن يهتف "الله" كلّما رأى زهرةً جميلة، أو فراشة ملوّنة، أو إن فاجئتَه بلعبة يتمنّاها! مَن علّمه أن يهتف باسم "الله" حين يرى الجمال أو حين يشعر بالرضا؟ إنّه الإيمانُ الفطريّ بأنّ الجمال المُطلق هو الله!
والإنسانُ الأول، قبل نزول الرّسالات السّماوية، كان كلّما اشتد به الهمُّ أو الجوع، أو الألم الجسدي، نظر إلى السّماء وتضرّع إلى قوّة عُليا لكي ترفع عنه البلاء. مَن علّمه هذا؟ إنّه الإيمان الفطري بأنّ يدًّا عُليا بوسعها أن تمتدّ لتنقذه.
ليس حلمًا أن يكون للكون ربٌّ واحد، لأنّه ربٌّ واحدٌ بالفعل. فهلّا جعلنا إيماننا بالله ينتصر على اختلافاتنا في طقوس التقرّب لهذا الرّب الواحد؟



العـذراءُ في بيـتي!

بعد نشر أحد مقالاتي التي ناديتُ فيها الدولةَ بحماية أقباط "المنيا" من القتل والتهجير ودفع الجزية الإجبارية لأعداء الحياة؛ حاول المتطرّفون النَّيل منّي بقرصنة صورة من صفحتي لي وزوجي في بيتنا جوار مكتبة الأوسمة والقلادات الخاصة بي، وكان عليها تمثالٌ تقريبي للسيّدة العذراء عليها السّلام، وتعامَوا عن رؤية أربعة تماثيل أخرى لـ"بوذا" وآخر لـ"زرادشت"، بالمكتبة ذاتها، جوار القرآن الكريم! وكلّها سُبلٌ للواحد الأحد. الطّريف في الأمر، أنّ ابني "مازن" هو مَن التقط الصّورة، وأنا مَن اخترت زاوية التصوير جوار البَتول المطهّرة التي أعتبرُها مصدرَ فرح ورحمة وبركة في بيتي. هي التي اصطفاها اللهُ وطهّرها ولم يسمح للشّيطان أن ينخسَها ووليدها، واختصّها بسورة في القرآن، دون نساء العالمين. وحين يزورني التليفزيون لإجراء لقاءات معي، تظهر العذراءُ في كلّ الزوايا، لأنّ لديّ تماثيلَ عدّة لها، وأجلبُ المزيد من كلّ دولة أزورها. الطّريفُ أيضًا أنّ في ألبوم الصّور ذاته، الذي وضعته بنفسي على صفحتي، صورةً لزوجي يختم القرآن في رمضان الماضي، لم تلفت نظرهم!
انهمر سيلُ تعليقاتٍ متحضّرة تسخر من ضيق أفق كارهي العذراء الطهور، فتأكدتُ أنّ شعبنا سيبقى راقيًا ونظيفًا، رغم بعض بعوض يثيرُ الغبارَ في فضائنا، سرعان ما يحرقه الضّوءُ فيسقط من حالقٍ ويموت، دون أن يلوّثَ ثوبَ "مصرَ" النقيّ. ‫"مصرُ" تنفضُ عن ثوبِها مخلوقاتٍ أوليةً وحيدةَ الخلية، علَقت بذيلها في غفلة منّا، ومنها، ويبقى أبناؤها المثقّفون الواعون الذين يعرفون قدرها ويؤمنون بأنّ ا‬لله حافظُها، ولو كره الكارهون.
يقول "شمس الدين التبريزي": "إذا صام المرء شهرَ رمضان كلَّه، وقدّم خروفًا كلّ عيد، وجاهد ليحج إلى بيت الله الحرام، وإذا سجد كلَّ يوم خمسًا، وليس في قلبه مكانٌ للمحبّة، فما الفائدة من كلّ هذا العناء؟ الإيمان مجرّد كلمة، إن لم تكن المحبّة في جوهرها، فإنّه يصبح رخوًا، مترهلاً، أجوفَ بلا حياة. هل يعتقدون بأنّ الله يقيم في مكة أو في أيّ مسجد من مساجد العالم؟ كيف يتصوّرون أنّ الله محصورٌ في فضاء محدود، هو القائل: "ما وسعني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلبُ عبدي المؤمن".

0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.