كأنني التي كنتَ تعرف
لا تأتِ الآن يا أبي !
فالذّي يُهاتفُني الآن
ليس سوى الولدِ القديمِ .
الولدِ الذي كسَّرَ كنيسةَ الميكانو
بشاكوشِه الصغيرِ ذي الأسنانِ البيضاء
بعدما ركَّبْتُها في أربعينَ سنةً.
لستُ مضطرةً بحالٍ
أنْ أخبرَكَ
أنَّ قيمتَكَ الرفيعةَ عندي
محضُ شرفيةٍ .
لا لأنكَ مِتَّ منذ عشرين عامًا،
ولا لأن سقوطَ السُّلْطَةِ مفهومٌ حداثيّ،
ولكنْ
لأنكَ أحببتَ أمي بجدٍ
مع أنها لم تُحِبْ فهدَ بلان،
ثمَّ أنكَ طيِّبٌ أصلاً !
فمثلا
ماذا يضيرُ لو أخبرتُكَ
أني رجعتُ لمدرستي القديمة،
فتحتُ المكتبَ البُنِّيَّ،
غافلتُ المعلمةَ
وطالعتُ الصورةَ في كراستي
ثمَّ
كلَّمتُ الولدَ الذي سيضعُ نظارةً
بعد عشرينَ سنةً
الواقفَ يمين السُّورِ ،
هذا.
الذي يدُهُ في جيبهِ
ويُحِبُّ الخبزَ كثيرًا ،
حتى لو أقسمتُ أنَّ الولدَ كلَّمَني
كلمَني فعلا واللهِ !
هل ستكشِّرُ باعتباري أغرقتُ في الخيالْ ؟
أغلبُ الظنِّ ستضحكْ :
أولاً
لأنكَ تعرفُ أني لا أكذبُ
ثانيًا
لأنكَ تعرفُ أني أنتبهُ للمعلمةِ
ثالثًا
لأنكَ تعرفُ أن الراهبةَ تنامُ بغرفتي .
هذا ما تعرفُهُ يا أبي
ولذا فأنا أرددُ دومًا:
إنَّكَ مِتَّ مُبكرًا عما يجبُ
أو إني كبرتُ
أكثرَ مما يجبْ.
القاهرة/ أكتوبر 2002
في انتظارِ المخَلِّص.
بينَ يدي النَّاسكِ
سكبتْ دموعَهُم.
خلفَ الحائلِ الخشبيِّ
جلسَ قَصَاصُ مَنْ أحَبُّوها
يُصلِحُ عويناتٍ فوقَ أنفِهِ
فيما تؤدي اعترافَها الأخيرْ.
الراهبةُ التي
تدثرتْ في عُزلتِها
زرعتْ بصدرِها أُقنومًا
ثمَّ ارتقتْ برجَ الكنيسةِ
تنظرُ الشاخصينَ إليها
عبرَ عشرينَ سنةً.
ما مسَّ لُعابَها المِلحُ
ولا
عيونُها شَهقَتْ
وقتَ تساقطَ المصلوبونَ
فوقَ مَذبَحِها
تسيلُ القرابينُ من أحداقِهم ،
فقط أرشَفَتْهم في صِحَافِها
أسماءً و تواريخَ.
لها الآنَ
أن تَطْوي كِتابَها
كقربانٍ أخير
للراهبِ الذي
قرعَ الأجراسَ كلَّها
في غيرِ يومِ أحَدْ ،
بعدما وقَّعَ
سِفرَ عَذابِها العادلْ.
ستخبئُ الكتابَ في دِثارِها
تُغَلِّقُ الأبوابَ
ثمَّ تُشْهِدُ الأخواتِ
على الذي لُمْنَها فيهِ.
تعتمرُ حيادَها
في محرابٍ ليس يقربُه الزجاجْ
تُطعمُ النارَ كبرياءَها
تمزجُ المِلحَ بالأنا
ثمَّ ترقدُ في سلامٍ
في انتظارِ
تناسخٍ مُحْتَمَل.
مُستعمراتٌ ما بَعْدِ حَداثية
سماءٌ بلا دُخان
طرقٌ ناعمةٌ ونظيفة
أماكنُ لرَكنِ السياراتْ!
مسلَّةُ الألفيةِ الجديدة
يخرجُ منها البدويون ويدخلون
مُخَبِّئينَ جِمالَهم في ثَنايا أثوابِهم.
النباتاتُ
التي تتدلى من الطابقِ العاشرِ
احتجْتُ لِلَمْسِها مِرارًا
قبلَ أن أتأكدَ أنها ليستْ من البلاستيك،
لابدَّ أن الهنودَ هؤلاءْ
الَّذين يتوارونَ بالبدرومِ الآن
قد انتهوا توًّا من رِيِّها
بالماءِ المُعَقَّمِ.
يبدو أننا سعداءُ بالفعلْ
حيثُ ضَبَطَنْا أنفُسَنَا نضحَكُ
- أكثرَ من مرةٍ -
فيما نأكلُ الذُّرَةَ الأمريكيةَ
بينما
حوارٌ حولَ النوستالجيا
قد بدأَ يتقصمُنا.
وحتى حينَ لمَحْنا
الطائرةَ تلك
التي سوف تَدكُّ
ناطحةَ السحابِ هناك
- يومَ ميلادِ أمَّي -
كنتُ أستمتعُ بمشاهدةِ برنامجَ آخرَ
على القناةِ الثانيةِ.
وأذكرُ أني ابتسمتُ فعلاً
عندما أعلنَ الضَّيفُ عنِّي
أو أنَّي توهمتُ ذلك.
كنتُ فقط غاضبةً
لأنَ اللونَ الأصفرَ لا يناسبُ البشرةَ البيضاءْ.
أظنُّنى كنتُ مبالغةً- قليلاً -
وقتَ عَلقّتُ كلَّ تلكَ القصائدِ
على جُدرانِ غرفتي
لأثُبِتَ لنفسي كلَّ دقيقةٍ
أني أُجيدُ النومَ بحَدَقةٍ مفتوحةٍ
كما أنَّ الخمسةَ وثلاثين بابًا
في أرجاءِ المنزلِ
لا مبررَ لها مطلقًا
لأني نسيتُ ميداليتي
مع أحدِ الأصدقاءِ بمِصْرَ.
فلماذا إذن..
يُصِرُّ السيريلانكيّ هذا
على تنظيفِ السياراتِ
بمُنتهى الأمانةِ
في حين
يجبُ غَلْقُ النوافذِ أيضًا
لتعْمَلَ أجهزةُ التكييفِ
بكفاءةٍ.
سطحٌ مصقول.. فى رُكْنِ الغرفةِ الأيسر
" أنا كما أنا في رُكْني..
والأشياءُ كانت عادةً هكذا
الحوائطُ والنوافذُ
ربما غَيَّرت أمْكِنَتَها
بفعلِ المَلَل. "
- " فلماذا تُناصبِينَنِي العَداءَ يا سيدتي
وأنتِ تَنْظُرين إلىّ ؟!
الستارةُ تلك
تُخفي جانبًا من المشهد
أزيحيها قليلاً .
لا جديدَ هناك!
المحاورُ نفسهاُ .. البناياتُ ..و البشرُ…
كلُّهم يسعَدونَ حينَ يُحَمْلِقونَ بي .
هذه السيدةُ لمْ تبتسمْ في صَفحتي يومًا
ترقدُ عادةً هناكَ
في جانبِ السَريرِ الأيسرْ ،
تدخِّنُ الأرقَ والكتبَ ساعتينْ
تضعُ عُيونَها على الكومود ،
تغفو هنيهةً ،
ثُمَّ تقفزُ إلى حيثُ النافذةِ الأخرى
تتفرجُ على العالَمِ ...
ليستْ "E-TOPIA" كما يدَّعون !
لمْ أرَ آدميًا يسْتَحِقُّ
- لمْ يَرَني -.
ملهاةٌ مكررة :
لابدَ أن يَحْلِقَ الرجلُ ذقْنَهُ
كلَّ صَباحْ
يُمَشِّطَ شعرَه
ثُمَّ يُريني أسنانَه بيضاءَ
من خلالِ ابتسامةٍ ميكانيكية ،
فيما يُصلحُ من وضعِ الكرافاتْ.
أمّا المرأةُ..
فتضعُ بعضَ الألوانِ
مع أورجانزا أو اِسْكادا
وتلتفتُ بشكلٍ جانبي :
خِصْرُها مازالَ نحيلاً.
هي أيضاً
تفعلُ ذلك أحيانًا
لكنَّ عُيونَها لمْ تَلمعْ
حينَ أخبرتُها كم جميلةٌ هي!
فقط..
تجهَّمتْ في وجهي ومَضَتْ .
هذه السيدةُ
تفتقرُ إلى الأدبِ.
- أعرفُ إلى أين تذهبينَ الآن
ستُفَتشينَ عن رسالةٍ
بشأنِ كِتابٍ جديد
تلتهمينَ الصُحفَ والمواقعَ
ثُمَّ تجلسينَ قربَ النافذةِ هناك
- النافذةِ الحقيقة – "
- " عَشْرةُ أوراقٍ سَقَطْنَ بالليل
بل ثلاثُ عَشْرة
وساكِنٌ جَديد
في الغُصْنِ السادسِ عشرَ من الفَرعِ الثاني،
متى شُيِّدَ هذا العُشُ؟ "
- ثم تتناولينَ ورقةً وقلمًا
وتكتبينَ
ما لن يقرأَهُ سِواكِ
- رجاءً سيدتي
كُفِّي عن هذا الحِيادِ
حينَ تواجهينَ بِلّوري
من جديد."