فلا يشكُّ إنسانٌ في كَوْنِ اللغة العربية هي عمود الدين، فبها نزل القرآن الكريم، وهي السِّيَاج الذي يحمي العروبة، ويميِّز قومها بين العالمين، وقد ثبت من خلال أقوال الصحابة – رضي الله عنهم- أنها اللُّغَةُ التي يتكلَّم بها أهل الجنة( ).
ولا يماري المنصفون في أن تلك اللغة قد انبثقت منها أعظم حضارة عرفها العالم. وسعى- ويسعى- إلى تعلُّمِها المثقفون، والمستشرقون على مرِّ العصور، والدهور..
من أجل ذلك، ألِّفَت المؤلفات في شتَّى صنوف العلوم والمعارف، وصدرت الكثير من الدوريات التي تحفل بالتاريخ، والطب، والهندسة، والرياضيات، والأحياء والآداب... إلخ.
لكنَّ أيَّ محرَّرٍ باللغة العربية يذوب رَوْنَقُهُ، ويفقد بهاءَهُ عندما يكون مُتْخمًا بالأخطاء النحوية والإملائية، وقد نعى كثير من الشعراء على اللغة العربية ضعف الناطقين بها، وعدم وضعها في مكانها اللائق بها...
وأنا هنا في هذا الكتاب أعرض لكم تجربة أكثر من خمسة وعشرين عامًا قضيتها محترفًا للتدقيق اللغوي، فشهدت نجاحاتٍ، وتعرضت لكبواتٍ نجاني الله – عز وجل- منها بِمَنِّهِ، وكرمِهِ، وجُودِهِ، وإحسانِهِ..
نعم، شَهِدتُّ عصرَ فقر هذه المهنة- أعني محنتها ومعاناتها- كما شهدت نجاحها، وصعود نجمها، وتهافت الكثيرين على احترافها في عصرنا الحاضر..
ولا أخفي عليكم أنني قد نقلت لكم تجارب غيري من المدققين، من خلال كتبهم، ونصائحهم التي قدموها إليّ.. وأنا لا أستطيع - مهما حاولت- أن أوفِّيهم حقهم عليّ، فما قدموه لي يثقل كاهلي، ويطوِّق عنقي، فأدعو الله أن يجعلني وإيَّاهم في مستقر رحمته، وتحت ظلِّ عرشه.. إنه وليُّ ذلك والقادر عليه.
عرضتُّ في هذه الصفحات تجارب مررت بها خلال هذا العمر الطويل.. وتحدثتُ عن الْمُدَقِّقِ اللُّغَوِيّ" تلك المهنة التي احترفتها، وجعلها الله مصدرَ دخلي بعد التدريس"، وعرضتُّ لفنيات التَّدْقِيق اللُّغَويّ، وبعض النصائح التي قدمتها للمدقق اللغوي المبتدئ..كما عرضت لبعض التدريبات التي يمكن من خلالها للمدققِ المبتدئِ أن يتعرفَ على هذا المجال الذي يواجهه لأول مرةٍ في حياته..
كما تحدثتُ عن الأخطاء الشائعة والدارجة في كتاباتنا كعرب ومسلمين..ثم عرضت أسماء بعض الكتب التي من الممكن للمبتدئ أن يقرأها، ويزيد من خلالها ثقافته اللغوية.
ثم نأتي للمشكلة الكبرى لدى المدققين المبتدئين، ألا وهي.. "مشكلة النحو والصرف والإملاء والترقيم، فناقشتها، وتوصلت إلى أنه ينبغي على الْمُدَقِّقِ اللُّغَوِيّ المبتدئ أن يراجع ملخص القواعد" بدءًا من المرحلة الابتدائية حتى مرحلة البكالوريا، أو الثانوية العامة"؛ حتى يمتلك القدر المناسب للدخول في معترك التدقيق، والتصحيح اللغوي. وإن كنت أفضِّل التوسع، والاستزادة, وصقل المهارات اللغوية.. مع ملاحظة أن التَّدْقِيق اللُّغَويّ ليس عبارة عن نحو وصرف وعلامات ترقيم فقط، بل إن المجال يتعدَّى تلك الأمور- المهمة- إلى دراسة الأساليب وإعادة الصياغة، وأن يبيِّنَ الْمُدَقِّقُ اللُّغَوِيّ جمال اللغة للمتلقّي بصفة عامة "المثقف والعامّيّ"..
وما من شكٍّ في أنه يقع على الْمُدَقِّقِ اللُّغَوِيّ أثقل عبء قد يتخيَّله إنسانٌ على وجه الأرض "من وجهة نظري"، فهو المسؤول عن تقويم اعوجاج الألسنة، وبيان الفصيح الجميل.. من العامِّيِّ الركيك.. وتلك لعَمْرِي مهمّةٌ لا يثبت لها إلّا من أهَّلَهُ الله –سبحانه- لحمل أمانتها، والقيام بعبئها...
وحسبي أنني - في هذا الكتاب الثاني- قد قدَّمتُ عصارة فكري، لأبنائي وبناتي من المدقّقين الجُدد، حيث كان الكتاب الأول " فن التدقيق اللغوي" - المنشور في مارس 2021م بالقاهرة- هو باكورة كتاباتي عن هذه المهنة الشريفة.
وأنا إذ أقدِّمُ للأمّة هذا الكتاب الثاني، فإني أرجو أن أكون قد أدَّيتُ بعضًا من حقوق هذه المِهْنَةِ عليّ..
وبعد... أتركك عزيزي القارئ، وزميلي المُدَقِّق؛ كي تقرأ الصفحات المقبلة، فهي التي سوف تتحدث بدلًا عنَّا..
وأرجو منكم ألَّا تبخلوا بالنصيحة.. ولكن مع اللطف في الكلام:
" فالنصيحة على الملأ فضيحة"، وإليكم بريدي الإلكتروني للتواصل( حتى أتلافى أخطائي في الطبعات التالية من الكتاب):