Zajelpublishing

Share to Social Media

برزَ عبد الله بن الزبير- رضي الله عنهما- في المعارك الطاحنة, فكانت شجاعته الشخصية وإقدامُه وتضحيته أمثلةً رائعة يحتذي بها غيرُه, فهو لم يكن جنديًّا ممتازًا فحسب, بل إن شجاعتَه وإقدامه كانا مضربَ الأمثال, فلقد نشأ من عائلةٍ معروفة بشجاعتها وفدائها, فأبوه الزبيرُ بن العوام؛ أولُ مَن سلَّ سيف في سبيل الله, وأمُّه أسماء بنت أبي بكر؛ فدائيةُ الإسلام الأولى, وجدُّه الصدِّيق؛ قاهر الفرس والروم, وجدَّته صفية بنت عبد المطلب؛ هي أولُ من قتلت يهوديًّا في سبيل الله.
لذلك لم يتأخرْ عبد الله بن الزبير- رضي الله عنهما- عن معركة من معارك المسلمين منذ غدَا أهلًا لحمْل السلاح, كان له في كلِّ معركة خاضَها المجاهدون أثرٌ يذكر فيشكر, من ذلك أن أمير المؤمنين عثمان بن عفان- رضي الله عنه- أذنَ لواليه على مصر عبد الله بن سعد بن أبي السرح- رضي الله عنه- بفتح إفريقية, فمضى الجيشُ المجاهد إلى غايته الكبرى لكنه مالبث أن انْقطعت أخبارُه عن الخليفة فأهمَّه أمرُ ذلك الجيش وأغمَّه, فبعث نخبة من شباب الصحابة منهم عبد الله بن الزبير, وعبد الله بن عمر, وعبد الله بن عمرو بن العاص, وعبد الله بن العباس- رضي الله عنهم- على رأس جماعةٍ من فرسان المسلمين لإمداد الجيش وموافاته بأخباره.
ففي معركة فتح إفريقية بالذات وقفَ المسلمون في عشرين ألف جندي أمامَ عدوٍّ قوامُ جيشه مائة وعشرون ألفًا, وفي رواية أخرى قيلَ مائتي ألف, ودار القتالُ وغشي المسلمون خطر عظيم.
التقى عبدُ الله بن الزبير بالجيش الغازي واطَّلع على أحواله, وفي أحد الأيام علم ابن الزبير بغيابِ قائد الجيش عبد الله بن سعد- رضي الله عنه- عن القتال فسأل عنه, فقيل له: إنه سمع منادي قائد الروم جرجير, يقول: مَن قتل ابن أبي السرح فلَه مائة ألف دينار, وأزوِّجه ابنتي, فتأخَّر عن شهود القتال.
فقال له ابنُ الزبير: يا عم, نادِ أنتَ في الجيش بأن مَن قتل جرجير فله مائة ألف, وزوجته ابنته, واستعملتُه على بلاده. فخافَ جرجير أشدَّ من ابن أبي السرح.
وجدَ ابن الزبير أنَّ ابن أبي السرح يقاتل الرومَ من الصباح إلى الظهر في كل يوم ثمَّ يركن جيشه وجيش عدوِّه إلى الراحة من قسوة الجو, وشدَّة الحر, فطرح عليه فكرة مباغتة للخصم بهجومٍ غير متوقَّع, فقسمَ الجيش إلى مجموعتين قتاليتين: تقاتل الأولى من الفجر حتى الظهيرة, ثمَّ تنطلق المجموعة الثانية بعدَ عودة الأولى, فيتبادل الفريقان الراحة, ويستمر القتال, وبذلك لا يعطي العدوَّ الفرصة لالتقاط أنفاسه, فسرَّ ابنُ أبي السرح بالخطة وأمر بتنفيذها, وتخلى عن القيادة لعبد الله بن الزبير طائعًا مختارًا.
اقتتلَ الجيشان في اليوم التالي كما كانَا يقتتلان كلَّ يوم فلما حان وقت الظهر شرع الروم ينصرفون على عادتهم فما راعهم إلا أنْ فوجئوا بالمسلمين وهُم يواصلون القتال بجيش مشبوب القوة, مشحوذ العزيمة, موفورِ النشاط, فدبَّ في قلوبهم الذعر, وحلَّ في صفوفهم الخلل, وبدتْ عليهم بوادرُ الهزيمة لولا ثباتُ قائدهم جرجير فصدوا هجوم المسلمين.
عرفَ ابن الزبير أنَّ مصدرَ قوة العدو في قائدهم جرجير, فهو يصيح في جنوده ويحرضهم بطريقة تدفعهم إلى الموت دفعًا عجيبًا, أدركَ ابن الزبير أن هذه المعركة الضارية لن يحسمها سوى سقوط هذا القائد العنيد, ولكن أين السبيلُ إليه ودونَ بلوغه جيش لجُب يقاتل عنه كالإعصار, بيدَ أنَّ جسارة ابن الزبير وإقدامه لم يكونا موضعَ تساؤل قط.
هنالك نادى ابنُ الزبير بعض إخوانه, وقال لهم: احْموا ظهري, واهجموا معي, وسترون ما أنا فأعل. فخرجَ معه ثلاثون من صناديد الإسلام وأبطاله.
كان جرجير قائدُ الروم يستقرُّ في وسط عسكره, فقال ابنُ الزبير لرجاله الذين اختارهم: إني ماضٍ إليه فاتَّبعوني, وردّوا عني كيدَ مَن يعترضني. ثمَّ مضى يشق الصفوف المتلاحمة كالسهم نحوَ جرجير, رابط الجأش, ثابتَ العزم, رصين الخطأ, صامدًا نحو القائد, حتى إذا بلغه عرف جرجير قصدَه فولى هاربًا, فأدركه عبدُ الله بن الزبير, وهوَى عليه في كرة واحدة, فهوى جرجير على الأرض صريعًا ثمَّ استدار بمَن معه إلى الجنود الذين كانوا يحيطون بقائدهم فصَرعوهم, ثم صاحوا: الله أكبر.
ورأى المسلمون رايتهم ترتفعُ هناك حيث كان يقف قائدُ الروم يصدر أوامره ويحرض جيشه, هنا هزَّت الحمية نفوسَ المسلمين, ودبَّ الذعرُ في قلوب الروم, فأدرك المسلمون أنه النصر, فشدّوا شدةَ رجلٍ واحد وانتهى كلُّ شيء لصالح المسلمين.
إنَّ ما قام به عبد الله بن الزبير- رضي الله عنهما- يُعتبر في غاية الشجاعة والجسارة, حيث اخترقَ صفوف الروم, ثمَّ هاجم على قائدهم بين أيديهم فقتله وهم يشاهدون مشدوهين وقد ملأ الرعبُ قلوبهم.
لقد كان ما قام به ابن الزبير نوعًا من الطموح نحوَ المعالي المحفوفة بالأهوال, دون تدرج سابق, لقد كان عمرُه آنذاك سبعًا وعشرين سنة, ولم يُذكر له قبلَ ذلك مواقف بطولية من نوع المغامرات, فكيف أقدمَ على هذه المغامرة الهائلة التي يغلبُ على الظن أو يكاد يقربُ من اليقين في عُرف الناس العاديين أنَّ فيها الهلاك؟!
إنَّ الاحتمالات التي يمكن أن تردُ في مثل هذه المغامرة أن يدورَ في خلد المغامر أمران: أن ينجحَ في هجومه فيقضي على قائد الروم, ويتفرَّق جنده كما هي عادة العدو, وفي ذلك نصر مؤزَّر للمسلمين وكفايةٌ لهم عن خوضِ معركة شرسة قد تخوف منها المسلمون.
ثانيًا: أن يتقبَّله الله شهيدًا, وفي ذلك الوصولُ إلى أسمى الأماني, وأبلغ الدرجات التي يطمح إليها الأبطالُ ويتنافسون على بلوغها, كما أنَّ في ذلك من تخويف العدو وإثارة الرعب فيهم الشيء الكثير, حيث سيتوقع العدوُّ أنَّ المسلمين الذي سيقاتلونهم كلهم من هذا النوع الجريء الفتاك, إذ إنَّه يكفي المغامر شجاعةً أن يقذف بنفسه في أَتُون المعركة الملتهب.
المنتظم في تاريخ الملوك والأمم ** البداية والنهاية ** الكامل في التاريخ ** التاريخ الإسلامي مواقف وعبر ** فتوح البلدان للبلاذري ** نسب قريش ** سير أعلام النبلاء ** البيان والتبيين ** جمهرة أنساب العرب ** تاريخ الأمم والملوك ** العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ** تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير ** تقريب التهذيب ** الطبقات الكبرى لابن سعد ** معرفة الصحابة لأبي نعيم ** معجم الصحابة للبغوي
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Story Chapters

مقدِّمة رجلُ الأقدار الشهيدُ الصّابر المهاجر شهيدُ أجنادين المغوار الفارسُ الشجاع الشجاعُ المِقدام الشهيدُ المحظوظ نهايةُ عشّاق الشهادة الشهيدُ دفينُ الملائكة الشهيدُ الغاضبُ على أبيه الشهيدُ الممزَّق الأشلاء الشهيدُ الذي حماه ربُّه استشهدَ لتبقى رايةُ الإسلام مرفوعة الأستاذُ المعلم البطلُ الماجد الرجلُ العظيم المؤمنُ الصابر المجاهدُ الفدائي الأسدُ في براثنه إني أهبُ نفْسي لله لا حاجةَ إلى ذكرِ اسْمي أشرسُ مقاتلٍ في التاريخ شهيدٌ يدخل الجنةَ بغيْر حساب صاحبُ القيودِ الحديدية الفدائي الجَسور شهيدٌ ينعَى نفسَه أشجعُ جاسوسٍ في تاريخ البطلُ الثائر الشهيدُ الجابر لتقْصيره يطرقانِ بابَ الجنة بيدٍ واحدة العبدُ الصّالح الفتى المؤمن يا ليتني كنتُ صاحبَ الحفرة البطلُ الصابر داعي السَّماء بطلٌ حتَّى النهاية الملائكةُ تنصِتُ لتلاوتِه أسدُ الله الغالب بطلُ الأبطال الشهيدُ المجهول الأسدُ المغامر جامعُ القرآن أسطورةُ الوفاء شيطانُ قريشٍ يدخلُ الإسلام العجوزُ الأعرج أحسن الناس هتْمًا أنا الفارسُ الصِّنديد الكريمُ الحليم التحدّي العظيم الصابرُ المحتسب كلمة الظهر
Write and publish your own books and novels NOW, From Here.