أصحابُ النبي- صلى الله عليه وسلم- كانوا أشدَّ الناس تعظيمًا لشعائر الله جلَّ وعلا, وأصدق الخلْق غيرةً على دينهم, فدينُهم أعزُّ عليهم من دمائهم, وأثمنُ عندهم من أرواحهم فدينهم كلُّ شيء في حياتهم. لقد أيقنوا يقينًا جازمًا أنَّه فيه عزُّهم, وشرفهم, ومجدهم, وفوزهم برضوان ربهما في الدنيا والآخرة, وفيه نجاتُهم من عذابه, فكانت كلُّ حياتهم في سبيل الله, وكلُّ تحرُّكاتهم بذلًا لإعزازه ونصره, فيقدِّمون للموت نفوسًا رخيصة لكي يبقى الدين عاليًا شامخًا, وهذا هو معنى الحياة, وحقيقة الحياة أنْ يحيا الإنسان لدين الله, وفي طاعة الله جلَّ جلاله, ومن هؤلاء الرجال الصحابي الجليل عبدُ الله بن الزبير بن عبد المطلب رضي الله عنه.
لم يشتركْ عبد الله بن الزبير بنِ عبد المطلب- رضي الله عنه- مع الرسول القائد صلى الله عليه وسلم في غزواته لصغَر سنِّه إلّا في حنين وتبوك, وكان له في يوم حنين أعظمُ البلاء وأكرمه, فقد ثبت ثبوتَ الجبال الراسيات عندما فرَّ الجيشُ الإسلامي في أولِ المعركة من كمائن المشركين, ولما لحق الرسولُ القائد بجوار ربه شهدَ عبدُ الله العراكَ في حروب الردة, وكان من أبطال الإسلام المغاوير.
ولمّا أرسل خليفةُ رسول الله أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- قواته لفتح بلاد الشام كان ابنُ عبد المطلب في طَليعة المجاهدين, ففي يوم أجنادين الثانية- وهو موضع من نواحي فلسطين-, تقدَّم بطريقٌ من عظماء الروم الصفوف وطلبَ المبارزة, فتقدم إليه المجاهد الباسل عبد الله بن الزبير- رضي الله عنه- فاختلفا ضربات كلٍّ منهما, ثمَّ انقضَّ ابن الزبير على حصانه وسحبه إلى الأرض ثمَّ قتله ولم يعرض لسلبه.
ثمَّ برز بطلٌ آخر من أبطال الروم يدعو للمبارزة, فبرزَ إليه عبدُ الله بن الزبير فضربه على عاتقِه وهو يقول: خذْها وأنا ابنُ عبد المطلب, فقطعَ بسيفه الدرع وأسرع في منكبه, ثمَّ ولى الروميُّ منهزمًا, وابنُ الزبير وراءه حتى قتله, وقد عزم عليه قائدُ الجيش عمرو بن العاص- رضي الله عنه- أن لا يبارز أحدَا, فقال عبد الله: يا عم, إنّي والله ما أجدني أصبر, لعل الله أنْ يرزقني الشهادة في سبيله.
فلمّا اختلطت السيوف وتناثرتِ الأشلاء على كلِّ شبرٍ من أرض المعركة أقبل ابن عبد المطلب على القتال إقبالَ الظامئ على الماء البارد في اليوم القائظ- أي شديد الحر-, فعندما اشتدَّ الكرب على المسلمين انطلقَ الأسد الشجاع نحو الجموع الهائلة, وتفاجأ الروم بهذا الطوفان الهادر, فتراجعتْ صفوف الروم أمامَ هذا الإعصار الهادر, وتقدَّم هذا الفدائي إلى قلب الجيش الروماني واندفعَ إليهم في جرأةٍ نادرة وتساقط أبطال الروم أمامه.
وعلى أرض المعركة, وفي ساحة الشرف, وجدَ حوله العشرات من الروم قتلى, وهو مقتول بينهم, وقائمُ السيف في يده وقد لصقَ مقبضَ السيف في يده من أثر الدم وقد يبست يده عليه, وفي وجهه فقط ثلاثون ضربةً بالسيف لقد سقطَ البطل شهيدًا, وقد روى الأرض بدمائه الزكية, يفوحُ منها شذا أطيبُ من المسك, ونالَ المشتاق ما تمناه, وظهرت آثار السعادة على محياه, وفي وجدانه يرنُّ صدى آيات الله تعالى: { ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُم مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ ۗ وَإِنَّ اللَّهَ لِعَلِيم حَلِيمٌ } ( الحج: 58, 59 ).
وبعدَ المعركة تفقدَ الناس قراباتهم, فانطلقَ الفضل بنُ العباس ومن معه من بني عبد المطلب يطلبونَ عبدَ الله بن الزبير بن عبد المطلب, فوجدَه على الصورة السابقة, فخلصوا السيف من يدِه بعدَ عناء, ثمَّ حفروا له وقبروه ولم يصلوا عليه ثمَّ رجعوا إلى قائد الجيش الإسلامي عمرو بن العاص فأخبروه فترحَّم عليه, وقال: ما أعظم شجاعته اليوم.
تاريخ الأمم والملوك ** سير أعلام النبلاء ** البداية والنهاية ** الطبقات الكبرى لابن سعد ** السيرة النبوية في فتح الباري ** الدرر في اختصار المغازي والسير ** در السحابة في مناقب القرابة والصحابة ** أسد الغابة في معرفة الصحابة ** المختصر في أخبار البشر ** الكامل في التاريخ ** تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير ** تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ** زبدة الحلب في أخبار حلب ** الاستيعاب في معرفة الأصحاب ** إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون