عشقي زاد
شيماء جابر
(2)
"الأمانُ الحقيقي في مواقفه خيرُ من ألفِ كلمةِ (أنا معك) دونَ فعلٍ"
تُهرولُ زاد مسرعة إلى رفيق، تقتحمُ خلوته بضرباتِ قلبها المتسارع، وجسدُها المُرتعش، وصوتُها المرتجف تنادي عليه..
يُفزعُ رفيق واقفًا ويقول:
- "ما الأمرُ يا زاد؟.. أأنتِ بخير؟".
فتردُ زاد بنبراتٍ متقطعةِ الأنفاس:
= "لا.. وكيف أكونُ بخير.. وقد أعلنت الحكومة في مُكبراتِ الصوتِ اليوم أنه خلال أيامٍ قليلة سيتم البدء في إخلاءِ بعض المناطق بوديان البلدة، وسيغادر الأهالي من بيوتهم ويرحلون، ومن ضمن تلك الوديان ذكروا هذا الوادي.. أيُعقلُ أننا سنكونُ ضمن تلك المناطق المقصودة وسنرحل ونترك أرضنا؟".
- "اهدأي يا زاد.. متى أُعلنت تلك القرارات؟".
= "اليوم منذ قليل.. لقد استيقظتُ على صافِراتِ الإنذار التي يصدِرونها قبل إعلان أي قرار؛ لينتبه الناس؛ فاستفقت سريعًا وسمعتُ ما قيل".
- "حسنًا.. لا تقلقي غدًا سيُوزع المنشور الخاص بتلك القرارات؛ ليوضح كل شيء، وسنقرأه سويًا ونعرف كل ما في الأمر".
= "يا لهِدوئكَ هذا!.. أنا لا أعلمُ كيف أنت هكذا؟".
- "أنا لستُ هادئًا وكأن لا شيء يحدث؛ لكنني مُدركٌ إن كان ما سمعتهِ صحيحًا؛ فثورتنا وعصبيتنا ليس لها أي داعٍ".
= "أهذا كل شيء؟".
- "أتُريدينني أن أحطم الطاولة، وألقي بهذا الكأسِ على الأرضِ، وأمُسِكُ بقطعةٍ من زجاجه المنثور وأجرحُ الحائط، وأصرخ.. هل هذا حقًا ما تريدينني أن أفعله؟".
= "أنا حقًا أتعجبُ منك".
- "ولمِما العجب يا زاد؟".
= "من يراكَ حين تفعل ما يدل على حبِكَ لبلدِكَ وبلدتِكَ وأهلك، وجهدَكَ في تحقيقِ العدلِ، ورفعِ الظلمِ، ونشر الرحمةِ، ونُصرةِ المظلومين؛ لا يُصدِقُ كلامُكَ الآن".
- "زاد.. عليكِ أن تكوني أكثرَ حكمة.. إن كلَ ما تذكرين أنني أفعله لا يتعارض -إطلاقًا- مع ردةِ فعلي الآن؛ لأن ببساطةٍ ما أقوله هو عين الحكمة.. هل تظنين عندما أثور وأغضب سيُحل الأمر.. أحقًا ثورتي وغضبي هما ما نحتاجه؟!"
وفي لحظةِ صمتٍ من زاد يستكمل رفيق:
= ".. نحنُ مطالبون بالانحيازِ للحقِ، والسعي له، وألا نضع رؤوسَنا في الرمالِ ونصمت.. ولكن من الحكمةِ عندَ فعلِ هذا أن نعلم ماذا نفعل؟ ومتى نفعله؟".
- "حسنًا يا رفيق.. سأهدأ".
= "ما الأمر؟".
- "لا شيء.. هزمتني مُجددًا بحكمتِكَ".
= "لا.. أنا أسألكِ ماذا بكِ؟.. وأعني سؤالي".
- "أنا بخير.. ولكن أترى الأمرَ بالهين؟!".
= "أعلمُ أنه ليس هينًا، وكلُ من في البلدةِ -بالطبعِ- قد فَزِع منه، وأصبحَ كلُ شخصٍ قلقًا لما هو قادم.. لكنني أعلم أن بكِ شيئًا آخرًا؛ فأنتِ أحكمُ مَن يتصرفُ في تلك المواقف، وأعقلُ من يتعامل مع مثلِ تلك الأحداث، وإن كنتِ قد تعجبتي –خطأً- من ردة فعلي؛ فأنا من عليه أن يتعجب منكِ الآن؛ فأخبريني ماذا بكِ؟"
- "لا شيء.. أنا بخير".
= "هل رأيتهِ مُجددًا؟".
تبدو علامات الارتباك قوية على زاد، وتهربُ بعينيها بعيدًا عن وجه رفيق.. فيقول:
= "لم أُرِد أن أسألكِ وقتها هل ستذهبين لإحضار الكتاب أم لا؟.. أردتُ أن أنتظر وأرى".
- "هل أسأتُ التصرف بفعلي هذا؟".
= "بالطبعِ لا.. فأمرٌ طبيعيٌ أن تذهبي لإحضارِ ما تركتهِ هناك.. لكنني لم أتوقع أن تذهبي بسرعةٍ هكذا".
- "خشيتُ أن يضيع كتابي لو تأخرت".
= "لم يكن لأحدٍ أن يأخذه.. كلُ من كان سيمر عليه سيتركه؛ الكتبُ هنا لا تؤخذ ولا تُسرق؛ ليست بالشيء الثمين لديهم، والناسُ ملهيونَ، والقراءةُ آخر اهتماماتهم، وحتى من يقرأ؛ فلن يأخذ ما لا يملكه".
- "أعلم.. لكن كنتُ قلِقة أن يضيع".
= "لا عليكِ.. وهل وجدتِه؟".
صمتٌ لثوانٍ معدودة، وحركةُ عينٍ للأسفلِ.. فُيسرعُ رفيق قائلًا:
= "ما الأمر، هل حدث شيء؟".
- "لا.. لا شيء".
= "إذن ما بكِ؟".
- "لقد وجدتُ كتابي و.....".
= "وماذا يا زاد.. إن كنتِ لا تريدينَ الحديثَ في الأمرِ؛ فلا عليكِ.. أنا فقط كنتُ أطمأن".
هنا تردُ زاد مُسرعة وتقول:
- "لا أنا أودُ الحديثِ معكَ في الأمر جدًا؛ ليس لي سواكَ، وإنَ كان لي؛ فلن يكونوا مِثلَك يا رفيق.. أنا فقط أخشى ردةَ فِعلك، أو أن تغضبَ مني".
وهنا تساءَلَ رفيق بابتسامةٍ هادئةٍ ونظراتٍ تُغلِفها المودة وقال:
= "وهل غضِبتُ منكِ يومًا، أو قسوتُ عليكِ؟".
- "لم تغضب ولم تقسو، وبقدرِ مكانتكَ عندي أخشى غضبك".
= "أياكِ وأن تخافي يومًا.. الخوفُ موتٌ.. الخوف يميتُ فينا كل شيء، يُفقدنا ما لا يمكن أن يعود.. مناقضٌ تمامًا للطمأنينة.. فإذا حضر؛ طردها بعيدًا؛ فكوني مطمئنة.. راضية.. هادئة.. ولا تخافي.. وستجدين الراحةَ أينما تكونين".
- "كلماتكَ تُغيرني دومًا.. لا أعلم سرها أو سحرها أو ماذا تضعُ فيها كي تفعلَ بي كل هذا".
= "هي فقط تخرجُ من قلبي، وينطقُ بها لساني؛ وكلِماتُ القلوبِ -دومًا- تصل، ولا يقطع طريقها أو يغير مسارها أو يمنع وصولها أي شيء".
- "أنا أُحمِدُ اللهَ أنكَ هنا".
= "وأنا أُحمِدُ اللهَ أنني معكِ.. إن كل ما أفعله نابعٌ من قلبي ولا أرغب في شيء سوى الصالحُ لكِ، وليس هذا تدخلًا مني إطلاقًا؛ إنما هي محاولة مني الوقوف بجانبكِ حتى لا تأخذكي رياحُ الدنيا في سبيلها إلى حيث لا تريدين؛ فإن مركَبكِ ما زال صغيرًا وشِراعكِ ما زال غصًا لينًا.. والحياةُ قاسيةٌ جدًا يا عزيزتي".
- "صدقني أنا أحاول معها، ولا أتركها تأخذني إلى حيث شاءت.. لا تقلق لقد صار مركبي أكبر وأقوى عن ذي قبل، وشراعي باتت حِباله أكثر سماكة وقوة".
= "ما زلتِ صغيرة وعيناكِ بريئة يا زاد".
- "لا تغرنَّكَ براءة عينيَّ؛ فإن خلفهما قوة ونضج كبير.. هيا يا عزيزي استمتع لي جيدًا؛ فلدي ما أقوله".
ابتسامة هادئة وإيماءة بالرأسِ من رفيق يتبعها قول:
= "كُلي آذانٌ صاغية".
وهنا تبدأ زاد بمشاركة رفيق ما لديها، وتحكي له عندما ذهبت إلى البُحيرة لاسترجاعِ كتابها من نفس المكان الذي تركته فيه وهرولت مسرعةً، حيث صخرة متوسطة الارتفاع في الجانب الأيمن من البُحيرة، فوجدت كتابها مكانه؛ فابتسمت والتقطته، فأحست بشيء فيه؛ ففتحته.. وإذ تجدُ في أول ورقة تُلامس غلافَهُ زهرة الأوركيد الجميلة التي تعرفها وتحبها، والتي قرأت عنها في بعض كتب الطبيعة، ووجدت أيضًا بعض الكلمات المكتوبة في الأماكن الفارغة من الورقة التي يتوسطها عنوان الكتاب واسم مؤلفه.
وبخطٍ جميلٍ وميلٍ بالسطور بالجانب الشمالي الغربي للورقة كُتبَ:
(لم أكن أعلم أنني سأجدُ من تستحق أن أعطيها زهرة الأوركيد النادرة؛ ظننتُ أنني لن أجدها سريعًا هكذا، أو ربما إن وجدتها سيكون هذا في نهايةِ العمرِ.. لكنني الآن وبرغم أن وجدتكِ أيامي ستصيرُ معدودة في تلك الحياة؛ فقد أصابت سهام عينيكِ قلبي).
- "لقد ارتبكتُ أكثر يا رفيق أرأيت؟".
الارتباكُ كلمة بسيطة على ما قد يحدث لأمريء اهتز كل ما بداخله، كل ذرة في بنيانه اهتزت في آنٍ واحد؛ حتى تصدعت طبقات الجلد الخارجي لجسده..
ماذا يمكن أن نسميه إذن؟!..
لا يعنينا اسمه إن كان وصفه لا ينصفه..
دعنا نقول أنه البداية.. بداية كل شيء مختلف تمامًا عما قبله.. فالعين التي ترى الألوان عادية مألوفة؛ باتت تراها زاهية أكثر ومختلفة.. ونور الشمسِ في الأفقِ بات ذهبيًا لامعًا..والأصوات من حولنا باتت عذبة صافية.. الأيامُ ليست كالأيام.. والليالي الظلماء اندثرت النجومُ اللامعة على وجهها الأسود؛ فأضاءته وزادته حسنًا.
= "ارتباك؟!.. أي ارتباك تقصدين يا زاد؟.. إن كلمةَ ارتباك هينة على الأمر صدقيني.. الآن بدأتُ أصل النقاط المتناثرة ببعضها، وبدأت ملامح الصورة تبدو جلية.. إنها البداية يا زاد تلك هي البداية".
كان رفيق سارحًا بعينيه بعيدًا عنها ويهميهم بصوتٍ منخفضٍ؛ فنبهته زاد بصوتها وهي تناديه متساءلة عما يقول؛ فهي لا تسمعه جيدًا.
فرد قائلًا:
= "أقول أن طرفَ الخيطِ قد انساب من أيدينا، وما علينا سوى أن نتركه ينساب ويأخذنا معه أينما أراد، أو نشدد عليه ونحجمه قبل أن تزداد الخسائر".
- "أنا لا أفهمك.. هل عادت ألغازك ثانيةً؟".
= "مالي والألغازُ يا زاد".
- "انظر لكماتك وستعرف عن أي ألغازٍ أتحدث".
= "إنني أتحدث عنكِ يا زاد وعن هذا الشخص الذي لا نعرف اسمه حتى الآن.. يبدو أن خيطًا رفيعًا قد امتدَ بينكما يحاول وصل القلوب".
بخجلٍ تقول زاد:
- "ما الذي تقوله؟".
فيبتسم رفيق ابتسامة هادئة؛ فتشجعُ زاد أن تُكمل فتقول:
- "بالمناسبة.. اسمه فِراس".
فيرفع رفيق حاجبيه مع ضحكةٍ متوسطةِ الصوت قائلًا:
= "أرأيتِ صحة كلامي الآن.. بتِ تعلمين من هو إذن".
- "لا.. فقط اسمه؛ لقد دوَّنه أسفل كلماته بالكتاب".
= "هكذا إذن".
- "لماذا تتحدث بتلك الطريقة؟.. أنت تُربكني أكثر".
= "بات إرباككِ كثيرًا هذه الأيام".
وبنبرةٍ مهتزة لمحاولة تغيير دفة الحوار تقول:
- "أجل.. ألا ترى أحوال بلدتنا وأهلنا؟".
= "ليُقدِّر اللهُ لنا الخير ولا نكن من الراحلين المهجَّرين بعيدًا.. فإن لم نرحل الآن؛ سنرحل فيما بعد".
- "ما الذي تقصده؟".
= "لا شيء.. لا تستعجلي؛ فالأيامُ كفيلة أن تخبرنا بكل شيء".
* * *