* 11 *
*** في الثالثة تقريبًا انتهى المؤتمر.. وحول المبنى الذي يحوي قاعة المؤتمرات بالجامعة، احتشد عددٌ كبير من الطلبة يرمقون في اهتمامٍ هذا الجمع من الوجوه الجديدة المتأنقة والتي بدا واضحًا أنها لا تنتمى لعالم الطلبة بأي حالٍ من الأحوال بهذه الأزياء الرسمية الكاملة وأربطة العنق الأنيقة..
كان عمرو يشعر بالكثير من الارتياح والثقة بعد أن اُعتمدت الدراسة التي أعدها من قِبل اللجنة المنوطة لتكون رسالته في الدكتوراه..
وفي مرح، وقف هو وباسل بين مجموعةٍ من أصدقائهما يتبادلون الحديث حول المؤتمر والعمل في المستشفيات وأيام الجامعة أيضًا..
قال باسل: أشعر أنني أصحبت عجوزًا كلما نظرت إلى هؤلاء الطلبة المراهقين.. ترى هل كنتُ أبدو بهذه البلاهة عندما كنت طالبًا؟
قال الجميع بصوتٍ واحد تقريبًا: طبعًا.
ضحك عمرو وباسل يقول مصدومًا: حقًا!!
قال أحدهم: كلنا كنا كذلك.. كانت أيامًا جميلة، ولكننا كالمعتاد لا نشعر بقيمتها إلا بعد مرورها.
رد آخر: أنت على حق.
تناقل الحديث بينهم على نحوٍ لم يُشعرهم بمرور الوقت وقد جلس بعضهم على المقاعد العريضة المنتشرة في طرقات الجامعة في حين استند الآخرون على السيارات المتوقفة حولهم.
وفي حماس قال أحدهم: ما رأيكم في أن نذهب جميعًا إلى أي مكانٍ هادئ لنواصل حديثنا فلست أظن أن نتجمع هكذا قريبًا.
أيده البعض في حماس مماثل، في حين اعتذر آخرون وكان من بينهم عمرو..
قال باسل: عمرو.. لن تتكرر هذه الفرصة قريبًا.
رد عمرو: أعلم هذا بل وأريد الذهاب معكم أيضًا.. لكنها العيادة كما تعلم.
قال باسل معترضًا: مازال الوقت مبكرًا.
- بالكاد استريح قليلًا قبل أن أذهب.. أنا لم أنم جيدًا أمس وأشعر بالإرهاق.
- ستندم على إضاعة الفرصة.
- أعلم هذا أيضًا!
قالها عمرو مبتسمًا، ثم صافح أصدقاءه في حرارة واعتذر لهم وتركهم وهو يلوح بيده متمنيًا لهم وقتًا طيبًا..
اتجه بخطواتٍ سريعة إلى حيث ترك سيارته بالقرب من أحد مباني كلية الطلب والتي كانت بعيدةً نوعًا عن مبنى قاعة المؤتمرات فلقد كان المكان حولها عند وصوله مزدحمًا بالسيارات المتوقفة..
كان يمشي متأملًا المكان من حوله وكأنما يشتاق إليه.. أيام الجامعة هذه لا تُنسى..
لاحت له سيارته من بعيدٍ وكانت مقدمتها تجاهه، وبينما يواصل خطواته السريعة نحوها لمح فتاةً وضعت أشياءها على حقيبة سيارته وانهمكت في كتابة شيءٍ ما مستندةً عليها..
ابتسم عمرو وهو يتذكر أنه لطالما فعل ذلك عندما كان طالبًا.. كانت السيارات المتوقفة والمقاعد شيئًا واحدًا تقريبًا، لكن ابتسامته هذه تلاشت عندما اقترب للحد الكافي لتبين ملامحها و...
واستحوذ عليه ذلك الانفعال الغريب مجددًا..
إنها هي..
منى !!
ما... ما الذى أتى بها إلى هنا؟!
ما الذى ...؟! يا له من سؤال.. إن وجودها هنا أكثر منطقيةً من وجوده هو نفسه.. أليست طالبة صيدلية!!
هكذا قال لنفسه، ولكن.. لماذا تقف عند سيارته بالذات؟!!
انتبه لحظتها أن خطواته قد أبطأت حتى توقف في مكانه دون أن يشعر، فالتقى حاجباه بتوتر وأراد أن يواصل تقدمه، لكنه خطى خطوةً واحدة عاد يتوقف بعدها دون أن يرفع بصره عنها وانفعالاتٌ أخرى تموج داخله..
ما هذا الذى يشعر به.. ما هذا الانفعال الذى يجتاحه.. لماذا لا يتحرك؟!
كانت لاتزال منهمكةً فيما تكتبه غير منتبهةٍ إلى وجوده على الإطلاق، رغم أنه يقف على بُعد بضعة أمتار..
أما هو، فظل حيث يقف يتأملها في صمت..
بدت له في هذه اللحظة كالرقة ذاتها واقفة بجوار سيارته.. رقيقةٌ للغاية كما عهدها، وقد أخد الهواء يتلاعب بأطراف ثوبها وحجابها فزادها رقة.. أنيقةٌ للغاية بتلك السترة الجلدية البيضاء القصيرة ذات الأزرار الفضية والتي تركتها مفتوحة لتكشف عن كنزةٍ أكثر أناقة حمراء اللون..
شعر بالدهشة من نفسه فهذه أول مرةٍ ينتبه فيها إلى ملابسها ولا يدري لماذا!
كانت مندمجةً فيما تفعله على نحوٍ منحة الفرصة ليتأملها أكثر وأكثر..
ترى.. ماذا سيحدث إذا اقترب أكثر حتى تراه هي؟
هل سيطالعه وجهها الرقيق عن قرب؟
هل سترفع عينيها الجميلتين إلى عينيه؟
هل سيرى فيهما تلك النظرة التي...
التي يحبها؟
انعقد حاجباه في شدة عندما وجد نفسه يستخدم هذا التعبير، وحقًا.. همّ بأن يلتفت ويبتعد عن المكان بأكمله..
لكن وفي اللحظة ذاتها، أطار اندفاع الهواء القوي أحد أوراقها فتحركت يدها بسرعة تمسك بباقي الأوراق حتى لا تتطاير هي الأخرى، ثم رفعت بصرها تتابع ورقتها الطائرة التي دفعها الهواء إلى أعلى وابتعد بها ثم تخلى عنها لتسقط متدحرجةً على الأرض..
عيناها أيضًا لم تواصلا متابعة الورقة حتى النهاية، فقد تخلت عنها هي الأخرى مرغمةَ وعمرو يقتحم مجال رؤيتها بغتة لترتفع خفقات قلبها إلى الذروة دفعةً واحدة..
شعرت بدهشةٍ بالغة وهي تراه أمامها هكذا وبدون مقدمات، لكن دهشتها هذه لم تستمر طويلًا وكأنما لا يهمها كثيرًا الأسباب والمبررات.. لقد تلاشت سريعًا مفسحةً المجال أمام سيلٍ من المشاعر الأخرى اندفع داخلها..
وعلى ملامحها ظهرت كل هذه المشاعر مجتمعة، وتألقت في عينيها التي توقفت عنده دون أن تنتبه إلى أن ورقتها التي أطارها الهواء قد سقطت عند قدميه..
كان عمرو في هذه اللحظة يجد أمامه ما كان يفكر فيه منذ لحظات..
ما كان يتمناه.. ويخشاه..
فها هو ذا وجهها يطالعه بملامحه الرقيقة..
ها هي ذي عيناها تنظر إليه بتلك النظرة الجذابة المحيرة..
تلك النظرة التي لا يعرف بالضبط ما الذي يحدث له أمامها، فها هو ذا يبتسم دون أن يشعر..
ولثوانٍ، ظل كلاهما يتطلع إلى الآخر، قبل أن ينحني عمرو في بساطة ويلتقط الورقة ثم يعتدل ويواصل تقدمه نحوها وكأنما لم يوقفه إلا سقوطها أمامه..
تطلعت منى إلى وجهه المبتسم كالمأخوذة حتى أصبح أمامها يمد يده إليها بالورقة قائلًا: تفضلي.
ظلت منى تتطلع إليه وكأنها لم تستوعب وجوده بعد، لكنها لم تلبث أن شعرت بالدماء تتجمع في وجنتيها أمام نظراته المباشرة، فخفضت عينيها في سرعة والتقطت الورقة قائلةً في خفوتٍ وارتباك: شـ.. شكرًا.
لاحظ عمرو احمرار وجهها فاتسعت ابتسامته، بينما أخذت هي تلملم أوراقها بارتباكٍ وتضعها أسفل حقيبتها الصغيرة حتى لا يطيرها الهواء مرة أخرى..
وفي أعماقه شعر بالحيرة، لكنه شعر أيضًا أنه حقًا مسرورٌ لوجودها معه، وأنه لا يريدها أن تذهب..
وهكذا وجد نفسه يستند بظهره على حقيبة السيارة بجوارها، ثم يعقد ذراعيه أمام صدره قائلًا بابتسامته العذبة: كيف حالك؟
التفتت منى إليه بدهشة، ولم تدرٍ بماذا تجيبه..
لم يكن سؤاله وحده هو مبعث دهشتها، لكنها أيضًا وقفته تلك.. هذه اللهجة التي يتحدث بها وكأنها أحد أصدقائه المقربين.. نظرته المباشرة.. هذه الابتسامة الـ....
عادت تشعر بالدماء تتجمع في وجنتيها وخفقات قلبها تزيد وتزيد، فابتعدت بعينيها عنه معترفةً لنفسها أن قربه مرهقٌ للغاية..
- بخير.. بخيرٍ والحمد لله.
كان هذا كل ما استطاعت قوله وهي تحاول جاهدةً أن تبتسم في بساطة..
- هل وصلت بسلامٍ ليلة أمس؟
عاد يسألها بلهجةٍ قلقة..
اختلج قلبها مع سؤاله وكادت ترفع عينيها مرةً أخرى لتغوص في بحر عينيه، لكنها تمالكت نفسها بصعوبة.. حاولت أن تجيبه فلم تستطع سوى أن تومئ برأسها إيجابًا..
صمت عمرو لحظةً ثم قال: لقد كنت أحمقًا عندما تركتك تذهبين وحدك في هذا الوقت المتأخر ليلة أمس.
أجبرتها كلماته هذه المرة على الالتفات إليه بكيانها كله، لتجد أمامها أرق ابتسامةٍ حملتها شفتاه وهو يكمل: ماذا لو أصابك مكروه.. لم أكن لأسامح نفسي أبدًا.
حدّقت فيه غير مصدقة هذا الذى تسمعه، وضبطت نفسها متلبسةً بالابتسام في سعادة، وحقًا.. وجدت الكثير من توترها وارتباكها لوجوده المفاجئ يتلاشى شيئًا فشيئًا..
ولتُخفى ابتسامتها هذه، تظاهرت بالبحث في أوراقها عن شيءٍ ما وهي تقول: شكرًا لك.. يكفي ما سببته لك من متاعب.
اتسعت ابتسامته وهمّ بقول شيءٍ ما، لكنها سبقته بسؤالها: كيف حال يدك الآن؟
أحس بنبرةٍ حانيةٍ قلقة غلفت سؤالها، ودفعه هذا إلى تأمل ملامحها محاولًا استشفاف ما يدعم إحساسه، لكنها تحاشت النظر إليه وواصلت التظاهر بالانشغال في أوراقها، فحل ذراعيه من أمام صدره وتطلع إلى يده المصابة قائلًا: أعتقد أنها أصبحت على ما يرام.
ثم التفت إليها مردفًا: لو كنت أعلم أنني سأراك اليوم لأحضرتك منديلك.. لقد بللته أمس وأنا أغسل وجهي فاضطررت إلى تغييره.
قالت بسرعة: لا عليك.. لم أكن أنوى استرداده عندما أعطيته لك.
صمتت لحظةً ثم أكملت عبارتها في تردد: يمكنك... يمكنك الاحتفاظ به لو أردت.
ابتسم قائلًا: حقًا.. إنه ليسعدني بالتأكيد أن أحتفظ بشيءٍ بمثل هذه الرقة.
تراقصت دقات قلبها مع كلماته الرقيقة وكللت شفتيها ابتسامةٌ خجلى، إلا أنها لم تقوَ على رفع عينيها إليه مرةً أخرى..
لاحظ عمرو أنها بدأت تتحاشى النظر إليه على نحوٍ مباشر.. حتى عباراتها الأخيرة ألقتها وبصرها لا يتجاوز مستوى كتفيه وكأنما أصبحت تخشى أن تلتقي عيناها بعينيه..
زاد هذا من شعوره بالحيرة فتنهد في عمق، ثم خطر بباله شيءٌ ما جعله يرفع يده المصابة ويحل الرباط الطبي من حولها..
أسرعت منى تقول في قلق: لِمَ تفعل ذلك؟ لست أعتقد أن الجرح قد التئم بهذه السرعة.
واصل عمرو حل الرباط الطبي قائلًا: إنه جرحٌ بسيط.. ثم إن هذا الرباط يضايقني أكثر مما يفعل الجرح نفسه.
ثم رفع يده في مواجهتها مكملًا: أرأيتِ.
نظرت إلى يده في قلق.. كان الجرح قد التئم بالفعل ولكن ليس تمامًا، تكفى أي حركةٍ عنيفة لتجعله ينزف مرةً أخرى..
تحركت يدها نحو يده في حركةٍ تلقائية وكأنما تريد الاطمئنان بنفسها، لكنها توقفت بغتة وسحبت يدها في سرعة قائلةً في ارتباك: ألا... ألا يؤلمك؟
لم يغب ذلك عن عينيه، فابتسم وقال وهو يتحسس الجرح بأصابعه: قليلًا.
ثم أخرج مفاتيح سيارته وتحرك يفتح بابها الجانبي المجاور له ويلقى الرباط الطبي على المقعد ثم يغلق الباب..
التفت فوجدها تنظر إليه بدهشةٍ وهي تقول: أهذه سيارتك؟!!
ابتسم وهو يومئ برأسه إيجابًا.. كان قد توقع أنها لم تقصد الوقوف بجوار سيارته بالذات وإلا لما ظهرت عليها الدهشة عندما رأته.. لقد انتقت واحدةً عندما أرادت أن تستند على شيءٍ ما لتكتب، ولم يكن اختيار سيارته سوى صدفةٍ جميلة..
أما منى فقد كان شعورها بالصدفة أكبر بكثير.. تعرف بالتأكيد شكل سيارته، بل وتحفظه عن ظهر قلب، لهذا انتقت هذه السيارة.. انتقتها لأنها تشبه سيارته كثيرًا.. ليس لأنها هي سيارته!! فما الذى سيأتي به هنا إلى الجامعة!!
وهي التي كانت تتساءل منذ أن رأته لماذا هو هنا؟!
لماذا اتجه نحوها بالذات وكأنما كان يبحث عنها؟!
لقد كان يتجه نحو سيارته إذًا.. ولم تكن هي سوى متطفلةٍ عطلته عما كان يريد فعله..
شعرت بحرجٍ شديد جعلها تلملم أشيائها بسرعة وتقول في ارتباك: آسفة.. لم أكن أعلم أنها سيارتك.
قال بسرعة: لا عليك.. هذا لا يضايقني البتة.
حملت أوراقها ومعطفها وحقيبتها الصغيرة وقالت مبتسمةً في خجل: معذرة.. إنها عادةٌ سخيفة يبدو أنني لن أتخلص منها قريبًا.. ولكن كما ترى، لا يوجد شيءٌ آخر يصلح للاستناد عليه.
ابتسم بدوره وقال: لا داعي للاعتذار.. لقد اعتدت على ذلك منذ أيام الجامعة.
ثم ربّت على سيارته مكملًا: ثم إن سيارتي العزيزة تبدو سعيدةً بوجودك إلى جوارها.
تشتت انتباهها إلى فحوى عبارته عندما وجدته يرفع يده يتطلع إليها وقد بدا على وجهه أن تلك الحركة قد جعلت الجرح يؤلمه، فأسرعت تقول في قلق: أمازال يؤلمك؟
- ليس كثيرًا.. لا تشغلي بالك.
- على الأقل ضمده بلاصقٍ طبي.
هز كتفه وقال: لا أملك واحدًا الآن.. ربما عندما أعود إلى البيت.
عادت منى ترمق يده بنفس النظرة القلقة، ثم لم تلبث أن قالت بحزم: حسنًا.. انتظرني بضع دقائق وسأحضر لك واحدًا.
ارتفع حاجباه في دهشة عندما تحركت مبتعدةً بالفعل.. فهتف يستوقفها: مهلًا.. إلى أين؟؟
قالت في سرعة وهي تشير بيدها: هناك صيدلية قريبة من بوابة كلية الطب سـأ...
هتف مرةً أخرى يقاطعها وهو يتحرك ليلحق بها: انتظري..
توقفت مرغمةً عندما أمسك بطرف معطفها الذى تحمله بينما يكمل ضاحكًا: لحظة.. انتظري لحظة.
قالت في اعتراض: لكن...
عاد يقاطعها وابتسامةٌ كبيرة تملأ وجهه: سأبحث في السيارة ربما أجد شيئًا.
ترك معطفها وعاد إلى السيارة يبحث فيها وبالفعل وجد بغيته، فخرج به إليها حيث وقفت تنتظره قائلًا: هذا ما وجدته.
كان لاصقًا طبيًا عريضًا وطويلًا من النوع الجيد جدًا.. بالطبع!
فقالت منى مبتسمة: إنه ممتاز.
أزال عمرو غلافه وتظاهر بأنه لا يستطيع لصقه بشكلٍ صحيح بيده اليسرى، ثم لصقه قاصدًا أن يكون مائلًا ولا يغطى الجرح بالكامل، فقالت منى وهي تشير بيدها توضح له كيف يعدل من وضعه: ليس هكذا.. بل هكذا.
واصل عمرو تظاهره بالحمق مدعيًا نفس الادعاء، وساعده في ذلك كونه يحاول بيده اليسرى، فترددت منى لحظةً ثم لم تجد أمامها سوى أن تترك ما تحمله على حقيبة السيارة وتقترب منه لتلصقه هي بشكلٍ صحيح..
وكان هذا هو كل ما يريده..
أن يشعر بلمساتها الرقيقة مرةً أخرى، فمنذ أن ضمدت جرحه ليلة أمس وهذا الشعور يؤرقه ويحيره..
أما هي فكانت تشعر بالكثير من الارتباك، وقد ظهر هذا واضحًا في حركات أصابعها على نحوٍ جعل عمرو يستشفه أيضًا.. وفي بطءٍ وحذر، أزالت اللاصق الطبي ثم عاودت لصقه بشكلٍ صحيح..
لم يستغرق الأمر لحظات، تركت بعدها يده على الفور وقالت وهي تعاود حمل أشياءها متحاشية النظر إليه لتخفى ارتباكها: هكذا أفضل.. أليس كذلك؟
أجابها مبتسمًا: بالتأكيد.. شكرًا لك.
هزت كتفها بمعنى أن الأمر لا يستحق..
ساد الصمت لبرهة.. ثم استجمعت منى شجاعتها وسألته: هل تأتي إلى الجامعة أحيانًا؟
أجابها بهدوء: كلا.. لكن كان هناك مؤتمرٌ طبى اليوم في كلية الطب.
أومأت برأسها متفهمة وردت بخفوت: آه.. المؤتمر.. لقد سمعت عنه.
ثم أردفت: أعتقد أنني عطلتك بما فيه الكفاية.. سأذهب، فقد اقترب موعد المحاضرة.
طالعها عمرو بصمتٍ على نحوٍ أربكها ثم أومأ برأسه متفهمًا بدوره وقال: حسنًا.. إلى اللقاء.
اللقاء!
سمرتها الكلمة وأثارت مشاعرها رغم بساطتها وتلقائيتها.. آهٍ لو يعرف كم تتمنى لقاءه في كل وقتٍ وحين!
أرادت أن ترد بشيءٍ مشابه، لكن الاضطراب الذي انتابها حال دون ذلك، فآثرت الانسحاب بسرعة..
تابعها عمرو ببصره قبل أن يفرغ صدره كله في زفرةٍ عميقة وكأنما ينفث عن بعضٍ مما احتشد داخله..
التفت إلى السيارة فلمح ما أثار دهشته..
كان قلمًا يبدو أنها قد نسيته وهي تجمع أوراقها في استعجال.. قلمًا ورديًا ذا حبرٍ لامع!
التقطه متعجبًا وأزال غطاءه وخط به خطًا صغيرًا على راحته تأمله للحظات، ثم لم يلبث أن التفت إلى حيث ابتعدت منى هاتفًا: آنسة منى.
لم تكن قد استجمعت شتاتها بعد عندما بلغها نداؤه، فالتفت بسرعةٍ ودهشة لتجده يلوح بالقلم مبتسمًا..
تضاعف اضطرابها وهي ترى هذا القلم بالذات في يده، بينما اقترب هو بخطواتٍ سريعة قائلًا: لقد نسيته على السيارة.
ابتسمت في ارتباك، بينما واصل هو اقترابه حتى أصبح أمامها يمد يده لها بالقلم..
رفعت يدها لتأخذه، لكن ما إن كادت تلمسه حتى أبعده فجأةً عن متناول يدها على نحوٍ جعلها ترفع عينيها إليه في دهشةٍ وتساؤل و...
حقًا لم تدرِ ما الذى يحدث..
ما إن رفعت عينيها إليه حتى وجدت عينيه في انتظارها على نحوٍ لم تعهده منه قط، بل وتحملان لها ما لم تعهده منه قط..
تدافع قلبها بدقاته وتلاشت دهشتها بعد لحظة.. فقط لحظة.. وتلاشى أيضًا شعورها بالزمان والمكان..
لم تشعر أنها خفضت يدها في بطء.. نسيت أصلًا أنها كانت تريد أخذ القلم!
لم تعد تشعر سوى بعينيه.. عينيه فقط!!
وأمامهما.. أطلقت عيناها كل ما يحويه قلبها من مشاعر..
كان عمرو لا يدرك حقًا لماذا فعل ذلك، ولا لماذا أبعد القلم عن يدها على هذا النحو العابث؟
كل ما كان يدركه أنه شعر بالضيق لأنها كانت تتحاشى النظر إليه مثيرةً المزيد والمزيد من حيرته..
كل ما كان يدركه أنه تمنى لو يرى تلك النظرة اللذيذة في عينيها قبل أن يذهب..
تمنى لو فهم ما الذي تعنيه بالضبط.. ولماذا يضطرب مع مرآها..
لام نفسه بشدة على هذا العبث عندما رأى دهشتها وكاد يعيد إليها القلم قائلًا شيئًا ما ساذجًا ومتظاهرًا بالبساطة..
لكنه لم يفعل!
هذا لأن دهشتها لم تستمر سوى لحظة وجد بعدها ما كان يبحث عنه ويتمناه..
وخفق قلبه..
خفق وخفق على نحوٍ جعله يدرك أخيرًا حقيقة ما يشعر به..
ولبرهةٍ لم يشعرا بمضيها، ظل كلاهما يتطلع إلى عيني الآخر في صمت، ثم لم يلبث أن مد عمرو يده وأمسك يدها في رفق.. احتواها للحظةٍ ثم رفعها ووضع القلم فيها قائلًا بخفوت: قلمٌ جميل.
خفضت منى عينها إلى يدها الممسكة بالقلم والتي تحيطها يده ثم عادت ترفعها إليه فابتسم قائلًا: إلى اللقاء.
قالها وترك يدها بنفس الرفق، ثم التفت مبتعدًا واستقل سيارته وانطلق بها على الفور.
****************************
*** "غير معقول!"
تمتمت بها بسمة لنفسها في خفوت..
كانت تقف مستندةً على إحدى السيارات المتوقفة على الجهة الأخرى من الطريق والتي لم تكن تبعد كثيرًا عن المكان الذي كانت فيه سيارة عمرو منذ قليل، ترمق منى التي مازالت متسمرةً في مكانها..
كانت تدرك تمامًا ما الذي يمكن أن تشعر به منى الآن.. تدركه وتخشاه، فهي تعرف صديقتها جيدًا.. ثم إنها رأت ما حدث بعينها هذه المرة..
لقد تركت منى منذ قليلٍ وذهبت لتشتري بعض الأدوات الخاصة بالمعامل، وعندما عادت رأت عمرو يتجه نحوها فتوقفت مندهشة.. لكن دهشتها تحولت إلى ذهول وهي ترى تطور الموقف..
"غير معقول! هل من الممكن أن عمرو قد ...؟!!"
كان هذا هو السؤال الوحيد الذي ما لبث يتردد داخلها..
أما ما تمنت لو قالته لمنى فكان "يا لك من بلهاء!!"
لم تكن دهشتها مما حدث لها أمس قد فارقتها بعد، لهذا كان شعورها بالدهشة مضاعفًا.. ورغم أنها شعرت بالسرور لرؤيتهما سويًا، إلا أن شعورها بالقلق كان أكبر..
منى المجنونة هذه..
لقد نجحت بالفعل في أن تجعله يدرك وجودها.. يدركه تمامًا.. لكن تصرفه الأخير ذاك بدا محيرًا..
أمن الممكن أن يكون هذا مجرد عبث؟!
شابٌ في مثل سنه ووسامته، وفي وضعه الاجتماعي والمادي، من الصعب حقًا ألا يكون عابثًا، ومن المؤكد أن هناك الكثير من الفتيات اللاتي حاولن خطب وده ولفت انتباهه واهتمامه، وفتيات هذه الأيام بارعاتٌ في هذا.. بارعاتٌ للغاية.. ومنى لا تمثل شيئًا أمامهن..
منى التي لا تملك سوى مشاعرها الصادقة والعميقة و.. والصريحة، وتصرفاتها المجنونة التي تؤذيها بأكثر مما تفيدها، وشخصٌ مثلها لن يتحمل أبدًا أن يعبث أحد بمشاعره..
التقطت نفسًا عميقًا واتجهت نحوها، وبصوتٍ هادئٍ خافت نادتها: منى !
التفتت إليها منى ببطء، ففوجئت بالدموع المترقرقة في عينيها..
- يا لكِ من بلهاء!!
أخيرًا قالتها لها، ثم أردفت في خفوت: لم الدموع؟!
- لا أدري.
قالتها منى في خفوت مماثل..
- حسنًا.. لقد رأيت كل شيء ولا أرى لها سببًا.
- حقًا.. حقًا يا بسمة؟
أومأت بسمة برأسها إيجابًا وابتسمت قائلة: أليس من المفترض أن تكوني سعيدةً الآن.
- لست أدري.. حقًا لست أدري.. أنا مرتبكة بشدة.. لقد شعرت لأول مرةٍ بـ.... شعرت أنه....
لم تكمل عبارتها، لكن عينيها أفصحت عما تريد قوله..
صمتت بسمة لحظاتٍ تتطلع إلى عينيها المتلهفتين، ثم تنهدت وقالت: ربما.
كانت تتوقع استنكارًا عنيفًا منها، لكنها أطلقت تنهيدةً مماثلةً ولاذت بالصمت وقد ظهر بعض الحزن في عينيها..
فقالت بسمة وهي تتأبط ذراعها وتجذبها لتمشيا نحو مبنى الكلية: حسنًا.. هذا ما لديّ.
نقلت إليها الجانب القلق من أفكارها بكل تخوفاته، وقد ظلت منى صامتةً تستمع إليها ثم قالت: ولكن لماذا العبث؟ لو كان غير مهتمًا يكفيه التجاهل.. أليس كذلك؟
- ربما يكون هذا صحيحًا، ولكن.. أي رجلٍ في الدنيا يسعده بالتأكيد أن تكون هناك من تهتم لأمره بغض النظر عن مشاعره.. ومعظم تصرفاتهم تكون من منطلق "هي تحبني.. حسنًا.. فلنرَ ماذا ستفعل".
صمتت منى للحظةٍ ثم قالت: أنتِ على حق.. منطقيٌ تمامًا كل ما تقولين.. ولكنى أشعر أنه...
قاطعتها بسمة مبتسمة: أعلم.. لن تكوني منى التي أعرفها إن لم تشعري بهذا.. أحسدك بصراحة على طاقة التفاؤل هذه التي تملكينها.. سيخسر عمرو هذا كثيرًا لو لم يحبك!!
ابتسمت منى أخيرًا وقالت: سيفعل بالتأكيد.. أنا وراءه والزمن طويل!
أطلقت بسمة ضحكةً قصيرة وقالت: هذه هي أيضًا منى التي أعرفها.
- بسمة!!
- ماذا هناك أيضًا.
- لا أريد حضور المحاضرة.
- آه.. هذا ما كنت أخشاه.. ولماذا يا حبيبتي!
- ربما...
قاطعتها بسمة ضاحكةً وهي تدفعها أمامها: هيا يا مجنونة!!
**********************