صياح الديكة يصدح في السماء، ليوقظ من لم يلحق بصلاة الفجر بمسجد الحي، ليصلي الصبح قبل ذهابه إلى العمل. تسللت أشعة الشمس من خلف ستائر الظلام لتبدده، معلنة بداية يوم جديد. تثاءب الحي بقوة، طاردًا النعاس عن جفونه. فاردًا ذراعيه ليستقبل الصباح بنشاط، كما أعتاد منذ قرون. الأرض الترابية تتمسك بقطرات الندى ممهدة الطريق لرواد الصباح الذاهبين إلى العمل. نوافذ الحي تفتح لتتكأ على جدران المنازل المبنية بالطوب اللبن والأحجار. المطابخ تعج بالروائح الشهية المتداخلة، التي وضعت على الطاولات أمام الجوعى من سكان المنازل.
استيقظت الحيوانات الداجنة، وانطلقت تمرح في أفنية الدور، بينما خرج الفلاحون بصحبة حيواناتهم إلى الحقول القريبة. تلاميذ المدارس يحملون حقائبهم خلف ظهورهم، يتوجهون جماعات نحو مدرسة الحي فوق التلة. انطلق الرجال نحو أشغالهم المختلفة، وانشغلت النساء في أعمالهم المنزلية الروتينية الصباحية.
على مدخل الحي وقف رجل خمسيني أصلع الرأس، قمحي البشرة مناقضًا للون الأبيض الشاحب المميز لسكان هذه البلد الأصليين، سمين ممتلئ البطن بشكل ملفت للنظر، حتى أن زر سرواله كاد يطير، لولا الحزام الذي قيده مكانه. ملامح وجهه التي تصرخ بعدم انتماءها لهذا المكان تنضح بالطيبة والوداعة. عينيه سوداء كبيرة كعيون المها، ولكنها مكحلة برموشها شديدة السواد، عكس حواجبه التي بدأ الشيب يغزوها. أنفه كببر يستند على شارب رمادي كثيف. يرتدي كنزة صوفية داكنة اللون لا تخفي القميص الأبيض تحتها، وسرواله الأسود بلون حذاءه الجلدي اللامع، كأنه لم يخط بقدمه على الطريق الترابي من خلفه. الثبات بل الجمود كان متجسدًا في وقفته التي امتدت لساعة كاملة، وعقله غائب عما حوله في رحلة إلى الماضي البعيد، فقد شق حجاب الزمن عائدًا إلى أرض غير الأرض، فقد عاد إلى الوطن، ولكن في حقبة تعود لآلاف السنين.