العقاب
خالد ناجي
القصة الأولى
(وسادة ملطخة بدماء الحب)
المدينة: بطرسبرغ.
التوقيت: الثامنة عشر صباحًا.
كانت إلفيف تجلس جلسة اعتيادية بجوار منضدة الغداء، كان الجو صقيع ولكن يدها لم تتوقف عن الكتابة لحبيبها ديمتري.
بدأت رسالتها بـ:
"عزيزي ديمتري، كم أشتاق لك أو حتى إلى سماع صوتك منذ أن كنا في المنتزه العام وأنت تداعبني بكلماتك التي كانت تشعلني بداية من الغرف الأربعة لعقلي مرورًا بأمعائي التي اشتدت عليّ خوفًا من أن تنتهي كلماتك المعسولة وقوفًا بقدماي اللتان أصبحتا عديمتي الفائدة لا يتحركان إلا على أنين كلماتك، إنني أعاني في كل ليلة من نوبة الفزع تلك التي تهددني بعدم وجودك، وكأن الأحلام تخبرني بأنك لن تعود مرة أخرى، أرجوك لا تستاء من حديثي؛ فهذه مجرد أحلام، أنا أؤمن بك يقينًا أنك ستعود، ولكنه عملك الآخر بباريس الذي أخبرتني به قبل أن تودعني على فراش الحب، أتعلم.. أنا أستمع في كل يوم لأغنية
(أنا كارنينا – لمعشوقتي الا بوجاتشوفا) وأنا أنتظرك بفارغ الصبر، ديمتري لا تقلق عليّ فأنا بخير حال، وعندما تعود فقد رتبت حجرتنا كما رسمناها في مخيلتنا، وذلك العصفور الذي كان يزعجك لقد قمت ببيعه لرجلٍ في السوق، واشتريت بالأموال تنورة جديدة؛ كي أستقبلك بها عند عودتك، لن أودعك في نهاية رسالتي لك؛ فأنا أؤمن بعودتك قريبًا... ولربما اليوم."
قامت إلفيف متلهفة لهفة المحبوبة التي تسرع للقاء حبيبها بطي الرسالة ووضعتها بداخل مظروف وردي اللون، ووضعت أحمر شفاه باللون الأسود الذي كان يعشقه ديمتري وقبلت الظرف بقبلة يحملها الاشتياق ممزوجة باللهفة.
ذهبت إلفيف مسرعة إلى البريد وأرسلت الظرف إلى ديمتري على محل إقامته بباريس، أخذت "إلفيف" تبعد خطواتها تباعًا حتى وصلت إلى المنزل، كان مجموع خطواتها من البريد وحتى محل إقامتها ستة آلاف وثماني وتسعين خطوة، ومع كل هذا العدد لم تغفل ولا تمل "إلفيف" عن هذا أبدًا، أتدري لماذا؟
لأنها سوف تقوم بتدوين كل هذا في مذاكراتها؛ كي تعرف كم كانت تحب "دميتري".
جلست "إلفيف" على أريكتها بجوار نافذة الغروب؛ كي ترى تلك الملحمة الرائعة التي تحكي قصصًا كثيرة عن الحب.
وها قد غفلت تلك الفتاة المسكينة ككل يوم تنام على ذلك الكرسي وتفكر في "ديمتري" وهي تنتظره بفارغ الصبر وتتذكر كل الذكريات التي كانت بينهم في الأيام الخوالي.
- ماذا حدث؟ ما هذا؟
كانت تلك كلمات الأم وهي تصرخ.
كانت تلك الكلمات الممزوجة بالصراخ التي خرجت من الأم كانت حيال ما حدث لــ "إلفيف" لقد وجدتها ملقاة على الأرض وترتجف، عيناها تحدقان كشخص يحاول النجاة من الغرق أو حتى الهروب من الموت المحتم، لقد كانت تلك النوبة التي تأتي لها دائمًا، ولكن تلك النوبات انتهت منذ فترة... لماذا عادت ثانية؟ هل توقفت عن أخذ العلاج، أم أن هناك من قام بمضايقتها، أم ماذا؟ كانت كل هذه التساؤلات التي تدور بذهن الأم وأكثر... ومع ذلك كانت تشعر " إلفيف" بما يدور حولها من تساؤلات، ولكن حتى هي لم تستطع الإجابة.
استفاقت "إلفيف" من نوبتها تلك بعد أن سكبت الأم عليها سطلين من الماء البارد، وبعدها وضعت أسفل فتحتي أنفها بعضًا من النشادر.
ومع كل ذلك كانت تشعر "إلفيف" بسعادة لا توصف، لقد كان يتملك من عينيها الحب، فقد دونت في مذكراتها ما حدث، وأضافت كيف كانت متعتها مع "ديمتري" وكيف كان يداعبها ويحنو عليها، لقد كانت في أوج نشوتها، وذكرت بأنها كانت ليلة مليئة بالإثارة... وانتهت بـــ:
- لقد أرهقت بدني يا "ديمتري".
لم تجد حتى الآن "إلفيف" رسالة واحدة من حبيبها "ديمتري" بعد مرور عام على إرسال آخر رسالة أرسلتها له، وأخذت التساؤلات والشكوك تتمكن من عقلها حول أن كيف ابتعد عنها "ديمتري" بعد كل هذا الحب الذي أحبته له وكل تلك التفاصيل التي كانت بينهم.
كان بقاؤها وحدها في غرفتها أكبر عائق بينها وبين قلبها المحطم؛ فهي كانت تصاب باضطراب في تحديد أيام الأسبوع ومواقيت كل شيء، أتدري حتى أنها لم تستطع التعرف على الصباح والمساء، لقد مزقها قلبها وأصبحت هزيلة كنعجة تسير في الصقيع وسط جبال من الثلج لا تجد طعامها فتملأ بطنها، ولا مأواها فتستعيد قوامها.
قامت "إلفيف" تقاوم لتبحث عن الحقيقة ولكن لامحالة، ولكن إصرارها كان أقوى، فأخذت تبحث في الفراغ ولم تجد شيء، وتبحث وتبحث ولا تجد شيء سوى الفراغ مرة أخرى.
أخذت تحدث سريرتها:
«هل أصبت بجنون العمى القلبي فلا أتحسس شيء سوى الفراغ؟
تمكنت من زاويتي تلك التي اعتدت على البقاء فيها ليلًا، ولكن في هذه المرة كان النهار إجابته واضحة، أنه لا يوجد في حياتي سوى الفراغ، أهو فراغ عقلي أم حسي؟ توقف عقلي عن التفكير، إذ فجأة وجدت نفسي ملقاة أسفل المنضدة عارية الملابس وجسدي شبه ممزق من عتمة الصباح.»
كانت " إلفيف" تبحث عن عائدها الذي تركته في ذلك الحلم بعد أن أبعدت وسادتها الممزقة إثر معركتها في الليلة الماضية، بل وفي كل ليلة بعد أن التهمها الحزن سهوًا، أخذت تنظر عبر النافذة المخدوشة في صباح كان يسوده ظلام بداخلها، وأيقنت في تلك للحظة وهي تنظر للشمس التي كانت تظنها قمر في تحقق الصباح بين غفوة وانتباه طرفة عينيها كانت لحظة كافية لسقوطها على الأرض لا محالة.
لقد اقتصت من شراينها لأنها لم تنصفها، وارتمت في الأرض وهي تحتضن تلك الوسادة الممزقة.
جاءت مسرعة تلك الممرضة التي كانت تشرف على علاج "إلفيف"
نعم.. لقد كانت "إلفيف" كل هذا الوقت في مشفى للأمراض العقلية، لقد كانت تعاني من اضطراب في الشخصية؛ فهي تعيش في حلم رسمته بداخل عقلها وهو غير موجود كل هذا الوقت، ولكنها أرادت أن تعيش حياة مليئة بالحب والحياة بعد أن وصلت إلى الخمسين من عمرها، نعم كانت تظن نفسها فتاة أيضًا، وتلك التنورة التي أحضرتها لم تكن حقيقية، والرسائل، وحتى مداعبة "ديميتري" لها، وتلك الخطوات التي قامت بعدها.. كل هذا لم يكن حقيقيًا، حتى "ديميتري" لم يكن حقيقيًا.
أتدري ما الشيء الحقيقي الوحيد في حياتها؟
هو أنها صدقت ما كانت تشعر به وتبحث عنه كل هذا الوقت.
أظن أنك لم تكن لتصدق هذا إلا حين ارتمت بـ "وسادة ملطخة بدماء الحب".