ها هو عامي الثامن بالغربة لا يعانق وحدتي فيه سوى أماندا وبعض الرفاق غير الدائمين، فأنا لا أجيد تكوين الصداقات، منذ وصولي إلى أمريكا وأنا وأماندا نتشارك كل شيء، عشت معها عامين في ولاية كاليفورنيا ببيتها حيث كانت منحتي بمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، وبحركة شهامة غير معتادة من بني جنسها رفضت أخذ إيجار مني مقابل سكني معها، وكأنها ترد لي الجميل لأني كنت أستضيفها في زياراتها السياحية إلى مصر كل عام، فتكفلت بمصاريف الأكل والشرب فأنا لا أحب أن أثقل على أحد بأي شكل كان، بعد حصولي على الماجستير كانت قفزتي الأهم على الإطلاق وهو التحاقي بوكالة ناسا بعد إثبات جدارتي بالكثير من الأبحاث في مجال البرمجيات وتحليل البيانات، فأصبحت أتنقل بين واشنطن وكاليفورنيا، ثم قررت استكمال رسالة الدكتوراة في نيويورك حيث انتُدبتُ محاضرًا بالجامعة هنا، حين أسترجع ذلك كله أجدني كنت أهرب من نفسي، هربت من بلدي أولاً ثم من ولاية إلى أخرى، أهلكتها وأهلكتني وما وجدنا مرفأً نحط عليه بأوجاعنا حتى كدت أختنق بها، فكرت أنه ربما لو وجدت ركنًا خاصًّا بي ألتجئ إليه قد يصالحني ونفسي، فاستأجرت بيتًا على الطراز الأمريكي، بالطبع لم أكن أجرؤ على تلك الخطوة إلا بعد أن زاد دخلي أضعافًا مضاعفة، أحببت البيت واخترت تفاصيله بعناية شديدة، دور أرضي به غرفة معيشة وغرفة أسست بها مكتبة ضخمة لطالما حلمت بها، ومطبخ وحمام، ودور ثانٍ به غرفتان للنوم وحمام لكل غرفة.
بعد مدة جاءت أماندا لتقيم معي حيث نقلت عملها مترجمة وباحثة في الجامعة، لتعمل بالمراسلة مترجمة للغة العربية مع وزارات عدة وبرامج تليفزيونية إخبارية ودور نشر، في أثناء ذلك كله عرفتني على تيد بأنه كان زميل دراستها الذي ما عاد يفارقنا في أي خروج، بل وكثيرًا ما يأتي لزيارتنا بالبيت ولا يعدم الحجج لذلك رغم علمهما بضيقي من تلك الزيارات، في ذلك اليوم ألحت علي وحاصرتني بأسئلتها.
- «أماندا»، من فضلك لا تضغطي عليّ ولا تكوني لحوحة مثله، وإلا سأقول لك كلمتين «فض مجالس».
- فض مجالس! ماذا تعني هذه العبارة يا حياة؟
- طماعة كعادتك وتريدين الوصول إلى بهاريز اللغة بسرعة يا «أماندا»، طبعًا تعلمين معنى بهاريز فقد أخذت منا ليلة كاملة من قبل.
- نعم ما زلت أذكرها مثل بهاريز اللحم الذي تعدينه في كل مرة كامل النضج رغم علمك بحبي له متوسط النضج أيتها الطباخة الفاشلة.
- فاشلة! بدلًا من شكري على إبداعي في المطبخ تشتكين! حينما جئت للعيش معك كانت معدتك تصرخ من أكل المطاعم يا ناكرة الجميل.
- لا أنكر، والآن لا تأخذينا بعيدًا ما معنى فض مجالس؟!
- ولكن بعدها ستعدين لنا عشاءً من يديك التي تستحق القطع بعد كل وجبة تعدينها لنا.
- اتفقنا، هذا بعد الاعتذار ليدي الجميلتين.
- متأسفين يا يدي «أماندا» هانم، وهذا اعتذار فض مجلس مني.
- أثرت فضولي أكثر لهذه العبارة!
- وأنا صغيرة لم أكن أفهم معنى ذلك التعبير الذي لطالما استُخدم من كل المحيطين بي، فلان يقول كذا، فيرد الآخر «دا كلام فض مجالس» إلى أن فهمت المعنى خلف هاتين الكلمتين البسيطتين، فهما يستخدمان كناية عن أن شخصًا أغلق موضوعًا أو تهرب من شيء ما، فيقال «هذا كلام فض مجالس»، وحين تقال باستنكار يكون معناها أن «يا رجل أقبل ولا تنهي الكلام»، واجعل خلقك واسعًا بأوسع ما استطعت، بل اجعله مطاطيًّا يتسع لهزلي وجدي وصدقي وكذبي، اصبر ولا تفض المجلس بيننا.
ربما يكون هذا المصطلح مرادفًا بعيدًا لكلمة الصبر أو طول البال، لأننا عادة نقوله باستنكار عن أن الذي يفض المجلس لم يتحلَ بالصبر، أتعلمين يا «أماندا»! أنا أتعجب من حالنا في بلادنا مع الصبر، نعمله وكأنه ثوب نرتديه، نطوله مع كل شيء، ونقصره مع شيء واحد وهو الحب، ثوب المشاعر عندنا قصير جدًّا لا يكاد يستر عورات القلوب، في لحظة نفض المجلس، أو لنقل مجازًا نفض مشاعرنا بمنتهى البساطة، متعجلون نحن في إرسالها والتعبير عنها في دفقة واحدة بمجرد إحساسنا بها دون فهم ووعي عن ماهيتها هل هي إعجاب أم حب أم عشق أم مجرد استلطاف، ومتعجلون أكثر في فضها وإنهائها دفقة واحدة فلا نتأنى ولا نتمسك، نحن لا نعرف كيف نتمسك بمشاعرنا، ولا نعرف كيف نطلق العنان لأرواحنا لتحلق بعيدًا، بل نجيد كبتها وحبسها في أقفاص من وهم أسميناه العادات والتقاليد، أما الحزن فنحن مبدعون في ارتداء ثوبه الأسود الطويل والتمسك به كأنه قد فُرض مع أركان الدين، وحتى في أوقات الفرح -النادرة أساسًا- نخاف الحسد فنداري شمعة السعادة الخافت ضيها، أو ننتظر المصائب التي تعقبها ونتساءل بجزع «خير يا رب»، ولا تظنينني أختلف عن قومي؛ أنا مثلهم ومنهم لا أعرف كيف أطلق العنان لا لنفسي ولا لقلبي، ولا أعرف كيف أتخطى حدود ذلك القفص الحديدي أو أكسرها، اعتبريني مثل حي أمامك، فأنا لم أستطع أن أعبر لحبي الأول مثلما اعتقدت وقتها عن إعجابي به وظللت صامتة أرتجف وأتلفت حولي وهو يقول لي «أحبك»، أخشى أن يراني أحد، أخشى أن يستشعر هو ما في قلبي فيظن أني فتاة سيئة مثلما حدث مع صديقة لي عبرت عن حبها لخطيبها بعد فترة وجيزة من الخطبة فتركها وقال إنها فتاة جريئة، أخشى أن أعترف لنفسي بالحب لأنه عيب، وأنا تربيت على أن الفتاة الجيدة بنت الأصول لا تحب غير زوجها، صدقيني يا «أماندا»، أنا لا أعرف ماذا أقول لـ «تيد» فأنا لا أعرف ماهية مشاعري نحوه، لا أعرف إن كان بإمكاني أن أحب أم لا، ولا يفرق معي إن أسلم أم لا مثلما تظنان، فأنا حتى لا أعرف كيف أحكم على إسلامي في الوقت الحالي بعدما حدث لي من انتفاضة فكرية، حتى ذلك الحجاب الذي يغطي رأسي أرتديه فقط كي لا تغضب أمي علي، وحتى غضب أمي ما عدت أعرف إن كنت أبالي به إلى هذه الدرجة أم لا، فقد حاولت مرات عدة خلعه والخروج من دونه، فهنا لن يراني أحد ويشي بي عند أهلي، لكني لم أستطع، كأنه هو المتمسك بي ولا أعرف لماذا! مثلما لا أعرف لماذا أتوضأ أحيانًا وأصلي وأدعو الله أن يهديني ويلهمني رشدي رغم أني تركت الصلاة منذ عام تقريبًا، وكأن تلك الأشياء متأصلة في جيناتي، وتأبى إلا أن تُنتزع مني، أو إنني ورثتها مثلما يقولون، أنا مشتتة وتائهة يا «أماندا» ولا أعرف كيف أجد نفسي في ذلك العالم الفسيح، أشعر أني مملؤة بالتساؤلات التي بلا أجوبة، أتخيلني سحابة صغيرة جدًّا مملؤة بالمياه أخذتها أقدارها إلى صحراء فلاة شاسعة لا تعرف بأي بقعة تحط ماءها، فلا هي قادرة على حمل الماء أكثر ولا هي كافية لتروي الصحراء فتزهر بفض مائها وتلاشيها في الفضاء مثلما هو مقدر لها فتشعر أن وجودها في هذه الحياة كان له قيمة، أخشى أن أتلاشى يا «أماندا» ولا تنبت صحراء روحي المقفرة.
- ما كل هذه الفلسفة يا حياة؟ كان لا بُد أن تدرسي الفلسفة لا البرمجيات وعلوم الفضاء.
- كل شيء له فلسفته الخاصة، حتى الفضاء والكون يا «أماندا»، وما نحن سوى نجوم صغيرة كلٌ له مداره الخاص الذي يجب عليه إدراكه جيدًا للدوران فيه.
- الآن دعينا من فلسفاتك وقولي لي ماذا سأقول للعاشق الولهان الذي ينتظر ردي؟
- قولي له إنني مرتبطة.
- أهذا كلام فض مجلس!
- الآن أصبحت دراستك للغة العربية ذات فائدة.
تناست «أماندا» ذاك الذي ينتظر ردها على نار وقفزت من فرحتها لتعانقني، فكل تقدم في فهم اللغة العربية بالنسبة إليها يعتبر نصرًا جديدًا سيؤهلها للعمل كوالدها، وهذا حلمها منذ صغرها، فوالدها كان أستاذًا محاضرًا بالجامعة الأمريكية في القاهرة وعاشت بها عدة سنوات تعتبرها أجمل سنوات عمرها، ففيها ذكرياتها الوحيدة عن الأسرة بعد أن توفيا والداها وهما في إجازتهما في حادث سير، ونجت هي لتربيها عمتها، وتلك الأخيرة جعلت حبها لمصر يزيد أكثر من شدة قسوتها عليها، وما كانت «أماندا» تجد الحب والحنان إلا في الحديث مع صديقة والدتها المصرية «منى» التي ظلت على اتصال بها طوال تلك السنوات وكانت هي السبب في معرفتها بي في البداية.
صعدت إلى غرفتي لآخذ حمّامًا ساخنًا حالما تعد «أماندا» ساندويتشين للعشاء مثلما اتفقنا، ولكنني لم أصعد وحدي فقد لحقتني تساؤلاتي فأنا فتاة أشقاها عقلها العابث دومًا، نظرت إلى وجهي في المرآة وكأني أتعرف على نفسي، وتساءلت: ما الذي جذب «تيد» إليّ بهذا الشكل؟ أهي ملامحي العربية أم جسدي الذي يحمل من التضاريس ما لا يعجب الأمريكان والغرب كله، لو قارنت بيني وبين أماندا أو أي فتاة أمريكية ستكون هي الرابحة بلا شك، عيناها الزرقاوان وحاجباها الناعمان، مقابل عيني البنيتين وحاجبَيَّ الكثيفين، شعرها الأصفر الذي تبدع في تغيير لونه وتسريحته كل مدة، مقابل شعري الأسود الذي ألفه كعكة ضخمة فوق رأسي من ثقله وطوله الزائد عن الحد ولا أجسر على قصه أو تقصيره لأنه ميراثي الوحيد من الأنوثة كما نعتقد نحن العربيات، بشرتها البيضاء والنمش المنثور عليها التي هي من علامات الجمال عندهم، وبشرتي الخمرية التي تبهت بسبب ودون سبب، شفتاها المنتفختان اللتان تقولان للرائي هيت لك، وشفتاي الصغيرتان اللتان تعانيان معي من كثرة العض عليهما عند كل انفعال، جسدها الممشوق وبطنها الممسوحة وساقاها الطويلتان، وجسدي كثير البروز والمنحنيات الذي يرتج مع كل خطوة في إعلان صارخ لتناول الأكل المسبك والسمن البلدي الذي تصر أمي على إحضاره معها في كل زيارة كي لا أطبخ دونه، رغم محاولاتي لإقناعها أن الزبد الأمريكي الحيواني متوافر في كل مكان وبسعر أقل من المصري بكثير.
ربما هو عقلي الذي يدهشه، لا بد أنه عقلي، فأنا لست جميلة كفاية لجذب هذا النوع من الرجال الوسيمين زيادة عن اللزوم، أقسم إني أخشى أن أمشي جواره في مصر، لن تتركنا الأعين دون تمحيص وتفحيص، وسيتبادلون التساؤلات عن كيف أحب ذلك الوسيم تلك القبيحة، ستمصمص النساء شفاههن مكررات المثل القائل بأن «الحظ للكشرة أم أسنان» مع أني لست كشرة ولست بأسنان، لكن المثل يطلق على كل واحدة تُحسد على زوجها لأي سبب وبلا سبب، الأغرب من انجذاب «تيد» ناحيتي هو مشاعري له، لماذا لا أستشعر تلك الحرارة رغم كل ما يفعله لإثارة إعجابي، أو حتى مثل تلك المشاعر البريئة التي كنت أستشعرها مع «وليد» زميلي كلما اقترب مني، صحيح إنني أحب نظراته إليّ وكلامه واهتمامه بي، لكني أكاد أوقن أن ذلك ليس إلا حبًّا للاهتمام والظهور، لست من النوع الاجتماعي، أحب الاستحواذ، تلك السمة فيّ طوال عمري ولم أستطع التخلص منها، أحب استئثاري بالناس من حولي، صحيح إنه استئثار بحديثي ولباقتي حتى لو كنت الأقل جمالًا فيمن حولي من الفتيات، أستطيع لمس انجذاب الرجال إليّ أنا بالذات ولا أدري إن كان ذلك شيئًا جيدًا أم سيئًا لكنه يسعدني ويرضي غروري، حتى حينما لاحظت انبهار «تيد» بي أول مرة رآني فيها لم أصده أو أبتعد عنه، بالعكس تركته يهيم بي وكنت مستمتعة بذلك.
أنا فتاة سيئة في واقع الأمر، أجيد تجاهل مشاعر الرجال لي بمنتهى البساطة وأستمتع برؤيتهم مسحوقين أمامي، وأجيد تجاهل مشاعري وكبتها وردمها إن لزم الأمر، ولكن أهذه هي الحقيقة؟ أأنا لست معجبة بـ«تيد» حقًّا أم إنني أقنع نفسي بذلك خوفًا على قلبي من خوض مثل تلك المشاعر؟ أوصل بي الخوف إلى تلك المرحلة أم إنني أخشى من «تيد» نفسه فهو مشهور بكثرة علاقاته؟ أم إن وصايا أمي لي مسيطرة على عقلي الباطن إلى هذه الدرجة وأخشى على نفسي من الكفار مثلما تقول!
«حذار أن تسمحي لنفسك بالاختلاط الزائد يا حياة، لربما تقع الطوبة في المعطوبة وتحبين رجلًا أجنبيًّا عنك وعن دينك يا حبيبتي!».
لو تعلمين يا أمي أنني أوشكت على ترك الدين كله!
ماذا أخذت من ذلك الدين غير المنع والردع في كل شيء ولأي شيء، الدين الذي يعتبر كل الرجال بالنسبة إليّ أجانب وليس من تقصدينهم فقط، الدين الذي جعل أبي يعتبرني رقعة في جبينه ولا أرقى إلى مستواه الفكري والعقلي طوال الوقت، الدين الذي جعل كل حياتي عبارة عن فروض وواجبات وضروريات لا أفهمها ولا أستوعب سببها، الدين الذي كان حائلًا بيني وبين أحلامي طوال عمري، الدين الذي يستخدمه الجميع سلاحًا رادعًا في وجه الجميع، الدين الذي أخرس لسانك وقيد يديك أمام زوج عصبي يسب ويلعن بسبب وبلا سبب، الدين الذي استخدمه أبي ليكسرك ويمد يده عليك لكل شاردة وواردة، الدين الذي جعل والدك يردك خائبة إلى بيت الزوجية ووجهك مشوه وذراعك مكسورة لأن أبغض الحلال عند الله الطلاق، الدين الذي جعلني لا آسف على موت أبي لأنه لو كان حيًّا لمنعني من السفر لإكمال دراستي، الدين الذي حرمني ميراث أبي لأن إخوته استطاعوا أخذ النصف ووضع يدهم على الباقي وإلقاء الفتات لي ولكِ كل شهر، ماذا أخذت من الدين يا أمي غير المنع والردع؟ قولي لي بالله عليك يا أمي...
الله! أين الله من كل الظلم الذي وقع علينا؟ أين الله من أوجاعي وأوجاعك بل وأوجاع العالم كله يا أمي؟!
يبدو وكأنه رسم لنا تلك الحلقات المفرغة المسماة بالمصير وتركنا لندور فيها إلى أن يحين موعدنا للقائه، ولكن أنلتقيه حقًّا أم أن البداية والنهاية هنا؟!
ولكن لو كان هو من رسم مصيري أليس من الطبيعي أن يكون هو من أوصلني إلى هنا؟ وهو من شغل عقلي بتلك التساؤلات؟ بل يكون هو من أعمل ذلك العقل أصلًا كي يفكر ويتدبر الأشياء والكون من حوله؟
الكون، آه من ذلك الكون وما يحوي، أيعقل أن تكون كل تلك المجرات والكواكب جاءت هكذا من العدم وحدها؟! تلك الحركات الدقيقة والمنضبطة بالفمتو ثانية تتولد من تلقاء نفسها؟ عقلي لا يكاد يصدق ذلك وقلبي يقول لي إنك هنا، في كل شيء، دلني إليك، أريد أن أصل إليك بعقلي وقلبي وروحي، إن كنت موجودًا حقًّا فأنت تعلم ذلك الصراع الذي يمور داخلي، تعلم تلك الفجوة التي زلزلت كياني بعد وصولي إلى هنا، ومن قبلها منذ أن افتقدتك في حياتي، لكم استنجدت بك تغيثني وأمي من يد أبي! لكم استنجدت بك وأنا تحت يد ذلك الوحش وهو يهتك ستر جسدي، لم يكن كشفًا للعذرية كان كشفًا لنقاب مجتمع فاسق ممسوخ، ممسوخ من كل شيء، ممسوخ من إنسانيته، ممسوخ من وطنيته، ممسوخ من رحمته، ممسوخ من دينه، لا تقل لي إنك كنت موجودًا يومها، لأني لن أسامحك، أو قل لي ما عذرك كي أسامحك وأعود إلى حبك، أتذكر أني كنت أحبك؟! أتشبث بك وبأي طريق يوصلني إليك، كنت أبحث عنك وأحدثك طوال الوقت! أنت موجود داخلي ولا أستطيع انتزاع ذلك الوجود أو تخطيه، الآن عرفت لِمَ لَمْ أخلع حجابي ولِمَ أعود إلى الصلاة والدعاء دون شعور، أنت موجود بداخلي، أي إن إيماني بك لم يجاريه رفضي لك ولوجودك، الشك يقتلني وأخشى ألا أصل أو أن ينقضي عمري وأنا في نفس الدائرة المغلقة، هل كان يجب أن أنتزعك من داخلي كي أستطيع البحث بحيادية عنك؟! تبًّا! هل كل الناس مثلي هكذا يعانون في سراديب أفكارهم أم تلك لعنتي الخاصة؟ أكان حتميٌ عليّ أن أعيش تلك الوحدة، وأن تتلبسني الغربة حيثما كنت، كأنني ولدت بالخطأ في بلاد غير بلادي وزمن غير زمني.
إلام قد نلتجئ حين نتيه عن أنفسنا، وتنبذنا ذواتنا، ما الذي قد يهبنا بعض السكينة والدفء ويمحو سقم الروح وسط كل ذلك الصقيع الذي يكسو العالم من حولنا، ما الذي قد يعيد النضارة إلى وجه الإنسانية الشاحب، ويعيد الدماء إلى جسدها متناثر الأوصال بفعل عوامل تعرية واقع مجحف؟!
يبدو أنها ليلة طويلة مع قراءتنا وبحثنا! بالرغم من معاناتي وتعبي في ذلك إلا أن الغريب أنني أستشعر بعض الراحة كلما تعمقت في قراءة الأديان، كلها تحتم وجود ذلك الخالق والمُصيّر لكل شيء، ولكن أكثر ما يدهشني حقًّا تلك التجارب العلمية، كل الملحدين في وجودك يقولون إن الكون عبارة عن معادلات كيميائية، أسباب ونتائج وهذا يتجلى في كل شيء، ولكن بعض مظاهر الحياة تدهشني حقًّا، مثل تلك البعوضة التي رأيت دورة حياتها في فيديو قصير! تذهب لتضع بيضها في بناء هندسي على صفحة الماء وتموت بعدها مباشرة، بعد مدة يفقس البيض وتمارس اليرقات دورة حياتها بشكل طبيعي دون وجود أم تعلمها أو أب يرشدها، من علمها كيف تطير؟ كيف تأكل، كيف تتزاوج، كيف تبني ذلك القارب لتضع بيضها فيه مثلما فعلت أمها من قبلها؟ من علمها؟ أليس ذلك كله أنت؟ ذلك التدبير المحكم الذي لا تشوبه شائبة، لا عبث ولا صدفة، مستحيل وجود صدفة، بل ليس صدفة أن أتساءل وليس صدفة أن تعطيني ذلك العقل، إنه لسبب، ولكن تلك التجارب القاسية التي مررت بها! ليست مصادفة بالتأكيد، ما الحكمة من عذابي وعذاب الكثيرين؟ ما الحكمة من كل هذا؟ تلك هي رسالتك لي؟!
أفكر، أتساءل، أبحث، أتعلم.
أتلك هي دائرتي الخاصة، رسالتي في الحياة؟!
وكأن القدر كان يخرج لي لسانه ويقول لي فكري وفكري حتى تسحق رأسك الأسئلة، أنا عندي المزيد، عندي ما لن تقدري عن التساؤل عنه أو التفكر فيه، عندي ما سيهذب ذلك الشطط كله وبمنتهى البساطة، فقد كان يخبئ لي ما قلب موازيني رأسًا على عقب، استفقت من تساؤلاتي على ذلك الاتصال من رقم مجهول، كنت على موعد مع المجهول، معك أنت...