tafrabooks

Share to Social Media

- وها هو المجهول بشحمه ولحمه يتذمر ويشكو، هل من العدل أن تستعيدين أنت حكايتك منذ وصولك إلى أمريكا يا دكتورة حياة، بينما أنا عليّ العودة ثلاثين عامًا إلى الوراء، فقط لأنك تريدين معرفة حكاية مسرور؟! لا مهلًا، ثمان وعشرون عامًا بالتحديد، فأنا الآن في السابعة والثلاثين، ألا تريدين معرفة حكاية شاب أسمراني وسيم وجذاب، طوله حوالي مائة وخمس وثمانين سنتيمترا، كيميائي حاصل على الدكتوراة ويعمل بأحد أهم فروع شركة أدوية متعددة الجنسيات، لديه العديد من الهوايات مثل لعب كرة القدم والسلة وألعاب القوى، يحب القراءة والنساء على حد سواء، عيانه تسحران من تنظر فيها من الوهلة الأولى، لحيته وحدها تجعل الفتيات يتساقطن من خلفه كلما مشى في الشارع، وقريبًا سيصبح الأربعيني الذي خط الشيب رأسه، وأنت تعلمين مدى تأثير ذلك على الفتيات الآن.
- هههههههه، وكأنني لا أعرف ذلك كله! ولكن ألم تنسَ شيئًا يا دنجوان عصرك وأوانك؟!
- أوه، لا بد أن أنسى فأنا مميزاتي لا تعد ولا تحصى كما ترين.
- مفهوم، مفهوم، خاصة مقاس الكرش والوسط، وشعر رأسك الذي بدأ في قطع تذكرة ذهاب بلا عودة.
- آه، ضربتني في مقتل يا دكتورة حياة، ولكن إن كان على كرشي، أسبوعان فقط في الجيم يزيلان أباه، والشعر إن رحل سأبدو أكثر جاذبية، أو ربما أزرعه مثلما يفعل نجوم الفن والكرة، لا فائدة المصرية مصرية وإن أصبحت رائدة فضاء، تستطيع أن تخرج الواحد منا من الجنة في لحظة واحدة.
- مؤمن أنا أمزح، هل غضبت حقًا؟!
- ههههههه، رغم علمك الغزير وذكائك الشديد يا حياة إلا أنك تكونين ببراءة الأطفال أحيانًا، أعرف أنك تمزحين، ولا يمكن أن أغضب منك بأي حال من الأحوال يا ح... يا صديقتي العزيزة، دعينا نسترجع حكاية مسرور قبل أن يغلبني النوم، وأتركك تسهرين مع شخيري على الهاتف كالمرة الماضية...
في ذلك اليوم حاولت الهرب من أبي كي لا يسحبني معه إلى المسجد، كنت «مخاصم ربنا» على حد فهمي وقتها، لأني صليت يومين كاملين ودعوته أن يجعل أبي يشتري لي طائرة فلم يستجب، ثم قلت في نفسي إن الطائرة ضخمة جدًّا ولن يتسع لها شارعنا لذلك لم يرسلها الله لي، سأطلب سيارة، صليت يومين ولم تأتني السيارة، قلت لعل الله لم يأتني بها لأنني صغير ولا يمكنني قيادتها، سأطلب عَجَلَة؛ كثير من الأولاد في مثل سني لديهم عجلة، صليت يومين آخرين ولم يجلب أبي سوى القميص والبنطلون كعادته، بكيت لأبي وقلت له أريد عجلة فرد ضاحكًا: «يا ابني العجلة من الشيطان».
إذن سأطلب العجلة من الشيطان، ولكن كيف أصلي للشيطان وأين هو؟ إن الله في كل مكان مثلما قالت لي أمي، فأين يكون الشيطان يا أمي:
- يجري منك مجرى الدماء يا ولدي.
- كيف ذلك؟
- إنه داخلك يوسوس لك.
- أأنا الشيطان؟
- لا يا حبيبي، أنت ملاك.
كيف أكون ملاكًا أو حتى إنسانًا والشيطان يجري في دمي؟!
ربما بدأت تساؤلاتي الوجودية باكرًا جدًّا يا حياة ولم يستطع أحد أن يساعدني، لا أبي ولا أمي بل كانا يزيدان حيرتي دون قصد منهما، لكن كل شيء تغير بظهور «مسرور»، فالتجربة والخوض في لُجج الحياة أفضل معلم، ولا أقصد هنا تجاربي الخاصة فقط، بل وتجربة مسرور أيضًا، فقد عشت كل تفصيلة رأيتها منه أو حكاها لي هو بعيني قلبي...
المهم ذهبت إلى المسجد مع أبي على مضض، دخلنا في الصلاة، كنت مرة أنظر يمينًا ومرة يسارًا، وأخرى أفرك أنفي حتى بدأ الإمام يقرأ بصوتٍ رخيم جعلني أردد من خلفه، وكلما علا صوتي لمس أبي كتفي لأصمت، لمحت بطرف عيني شخصًا ما يخترق الصفوف بقوة فطوح المصلين بذراعين طويلتين كانتا من القوة بأن سقط بعض الرجال يمنى ويسرى، ثم وقف دونما اكتراث للفوضى التي أحدثها وقال بصوت مرتعش رغم غلظته: «أريد أن أصلي، علموني كيف أصلي!».
صمتٌ مطبقٌ حلَّ على الجميع، تلفت الرجل من حوله فلم يجبه أحد، انتبه إلى وجود الإمام الذي لم يبرح مكانه بعد فقد قيدته صدمة أن يقطع أحدهم الصلاة بهذا الشكل، مشى الرجل خطوتين باتجاه الإمام وأمسكه من ياقة قفطانه وقال بنبرة غضب واضحة هذه المرة:
- ألست القائد هنا؟! علمني كيف أصلي!
نطق الشيخ من بين اصطكاك أسنانه ورعشة جسده الواضحة، فقد كان الرجل ضخمًا جدًّا لم ولن أرى رجلًا بمثل هذه الضخامة في حياتي، حتى إن الشيخ بدا بجواره كقزم صغير:
- هل توضأت؟
- لا.
- هل أنت طاهر؟
- ماذا تعني؟
- الطهارة، ألا تعرف معنى الطهارة؟
- لا.
- هل أنت مسلم؟!
- لا أعرف.
ثم دخل الضخم في حالة هيسترية من البكاء والنحيب ارتج لها جسده الضخم حنى إنه خُيِّلَ إليّ أن المسجد كله يرتج بنا، كنت منزويًا جوار أبي أشاهد ما يحدث بعين واحدة وأخبئ عيني الثانية بجلباب أبي البلدي الواسع الذي لففت به نفسي إمعانا في الحماية من الغُول، فقد ظننته الغُول الذي تقص عليّ أمي حكايته، كدت أبول على نفسي من فرط خوفي، اطمأن الشيخ للرجل بعض الشيء فقال له وقد استعاد نتفة من رباطة جأشه:
- اجلس ريثما ننتهي من صلاة الجماعة وبعدها ننظر في أمرك.
أعاد الرجال الصلاة خلف الإمام الذي أسرع من وتيرته، لا أدري كيف صلوا فقد جلست دونما حراك بجوار أبي أغمض عينيّ وأغطي أذنيّ بكلتا يدي، فقد كان صوت نحيب الرجل يغطي على صوت الإمام وزاد من تأثير صوته اتساع المسجد وخلوه إلا من صفين ونصف من المصلين، فرغوا من صلاتهم، التف الجميع حول الرجل عدا أبي الذي لاحظ خوفي فأمسكني من يدي وحاول طمأنتي قائلًا:
- إنه مجرد رجل مثلي ومثلك لجأ إلى بيت الله وسنعرف حكايته الآن.
ولكن هيهات فكيف لطفل في مثل سني وقتها أن يدرك ما رآه وما سيراه بعد ذلك؟
لن أنسى ذلك الحوار ما حييت.
- ما اسمك يا أخي؟
- «مسرور».
- كيف لا تعرف ديانتك؟
- لا أعرف، لم يخبرني أحد! لم نتطرق إلى الحديث عن هذه الأشياء هناك.
- هناك أين؟!
- لا أستطيع القول، فقط أريد أن أصلي، وأن أعرف الله، ولماذا تركني كل هذا الوقت هناك؟
- سأفترض أنك كنت على دين آخر وجئت لتعتنق الإسلام.
صاح الرجل:
- لا أعرف الإسلام ولا أعرف أي دين آخر ولا أعرف أي شيء، لا أعرف الله، لم يخبرني أحد أنه موجود وكان من المفترض به هو أن يخبرني أنه موجود، لماذا لم يخبرني الله أنه موجود؟!
لم يخبرني الله أنه موجود.
لم يخبرني...
ثم دخل الضخم نوبة بكاء أكثر حدة وأكثر عويلا والناس من حوله في تأثر شديد، لمحت الدمع في عين الشيخ وهو يردد «لا إله إلا الله» بصوت عال، قبلها كنت أرى أبي رجلًا قويًّا لكن منذ تلك اللحظة أدركت أن أبي أقوى وأشجع رجل قد رأيته، فبينما أنا أرتجف من خوفي نزعني من بين طيات جلبابه وقذف نفسه في حضن الضخم وبالرغم من الفرق الهائل في مساحة جسديهما انهار الضخم أكثر وتشبث بأبي حتى خشيت على أبي الذي احمر وجهه كأنه يفقد أنفاسه الأخيرة، فما كان من الشيخ إلا أن اقترب وحاول فك الاشتباك المرعب في ظاهره والحميمي في باطنه، والحقيقة أن هذه اللحظة كانت فارقة في حياتنا جميعًا «مسرور» وأبي وأنا...
سأقص عليكِ حكاية «مسرور» كما رأيتها لا كما قصّها هو لتعلمي قدر هذا الرجل الذي هبط علينا كأنه هبط من كوكب آخر أو بالأحرى كانت هذه فكرتي عنه لوقت في بداية ظهوره في حياتنا، إنه كائن فضائي أو جنِّي، فقد نفيت أن يكون غولًا فالغول لا يبكي، كما إنه لم يأكلني، ولكني أريدك أن تتذكري جملة «مسرور» التي ما زالت ترن في أذني: «لم يخبرني الله أنه موجود».
بعد أن تدخل الشيخ وخلّص أبي من بين يدي «مسرور» أخذاه إلى دورات المياه، كنت منزويًا أشاهد من بعيد، أدخلاه ليغتسل ويتطهر، خرج بعدها يرتجف بشدة رغم أننا كنا في شهر مايو، في مشهد مهيب وقف الشيخ أمام «مسرور» ينطق الشهادة ويكررها «مسرور» خلفه كلمة كلمة بتعتعة شديدة من بين دموعه وشهقاته لحظتها بكى الجميع، حتى أنا بكيت ولا أدري لماذا! كنت قد نسيت خوفي في تلك اللحظة، نطق الرجل الشهادة وسقط مغشيًّا عليه، حاولوا إفاقته ولم يستطيعوا، خرج رجل مسرعًا إلى أقرب صيدلية، أتى معه الصيدلي الذي لم يقدر على فعل شيء هو الآخر غير أنه قال: «يجب إحضار الطبيب»، كان أبي أسرع الواقفين، خرج وهو يقول لي: «لا تتحرك من هنا» بعد أن رآني هممت للركض خلفه، عاد بعد ربع ساعة ومعه دكتور «رفيق» جارنا بالبيت، بعد كشف سريع كتب روشتة وسلّمها أبي الذي سأله:
- هل نطلب الإسعاف؟
قال الطبيب بلا مبالاة:
- لا داعٍ، مجرد انخفاض في ضغط الدم، شفتاه متشققتان، يبدو أنه لم يأكل منذ عدة أيام، سيكون بخير بعد حصوله على هذه المحاليل، يحتاج إلى النوم والراحة.
ثم نظر إلى الكومة الضخمة من اللحم البشري وقال بشيء من السخرية:
- وبالطبع يحتاج إلى التغذية!
بعدها مد الشيخ يده في سيالة جلابية «مسرور» وهو يقول:
- مضطر إلى فعل ذلك لنعرف أي شيء عنه من بطاقته.
ولكن لا شيء! فتشه ولم يعثر إلا على ورقة مكرمشة ومطوية مكتوب فيها «اليقين نصف الإجابة».
التفت الرجال إلى بعضهم بعضًا ماذا هم فاعلون! فلا أحد يعرف له عنوانًا ولا أهلًا ثم سادت لحظات صمت طويلة جدًّا قطعها أبي معلنًا:
- هيا، احملوه معي سآخذه إلى بيتي حتى يفيق ويعود إلى بيته.
انطلقت الدعوات لأبي الكريم الذي لا يتوانى عن مساعدة أحد، وانطلقت في صدري انتفاضة خوف عارمة، كيف يا أبي تفعل بنا هذا؟! أيهون عليك أبناؤك إلى هذه الدرجة وتأخذ الشر بيديك إلى عقر دارك؟
بصعوبة بالغة حملوه ووضعوه بصندوق سيارتنا ربع النقل، وامتلأت السيارة عن آخرها بالرجال الذين تطوعوا للمساعدة في حمله ونحن ندخله بيتنا، ركبت جوار أبي وركب الشيخ جواري في الكابينة، دقيقتان فقط وكنا في بيتنا.
انطلقت قبل أبي كالصاروخ، صعدت درجات السلم كي أخبئ نفسي في حضن أمي، لكن أبي لم يعطني الفرصة وأمرني أن آتي بمفتاح شقة الدور الأرضي سريعًا، كنت أجبن من أن أعصي أوامر أبي لكن خوفي كان أكبر من كل شيء، خطفت المفتاح من مسمار معلق بجوار الباب ألقيته لأبي دون أن أنزل، وركضت إلى أمي التي خرجت من المطبخ على صوت الجلبة بالبيت، اندسست في صدرها وأنا أردد:
- أبي أحضر الغول إلى منزلنا!
- ماذا تقول يا مؤمن؟!
- الغول يا أمي! الغول.
- بطّل خبل وانطق، ماذا يجري وإلا اتركني أخرج وأرى بنفسي.
حكيت لها بصعوبة ولم تفهم من كلامي إلا أن أبي أحضر رجلًا غريبًا إلى البيت، فبدأت تعدد مساوئ أبي منذ أن تزوجته وتلعن اليوم الذي أحبته فيه وأنه لا يأتي إليها إلا بوجع الرأس والمتاعب، وأنها ما عادت تتحمل ولا تقدر على الطبخ كل يوم من أجل ضيوفه الذين لا نعرف لهم بيتًا ولا نشم لهم رائحة طبيخ.
نسيتني ونسيت خوفي وأني أرتجف بحضنها وركزت في مصائب أبي السوداء التي لا تنتهي، لو كانت تعلم أن كل مصائب أبي ستنتهي منذ ذلك اليوم وسيتحول إلى رجل آخر بعده لرقصتْ فرحًا بقدوم «مسرور» إلى بيتنا!
حشرت نفسها في عباءتها السوداء وأنا ملتصق بها لا أدري كيف؟ انتزعتني منها بصعوبة وقالت:
- اقعد هنا يا ولد! سأنزل لأرى تلك المصيبة التي حلّت على رأس أمك.
التصقت بها أكثر، فنزلت وهي تجرّني معها، إحدى عشر سلمة قفزتهم أمي التي كانت تتزرع بثقل وزنها طوال الوقت وتطلب مني الطلوع والنزول لكل شاردة وواردة، بقيت ستة سلّمات التي تفصلنا عن شقة البدروم، خشيت أن تنزلهم من ردة فعل أبي الغيور حين استوعبت عدد الرجال الذين لم تتسع لهم الشقة، فقذفت الكثير منهم خارجًا، يكفيها حملها «مسرور»، تسمّرت أمي مكانها تتنصت، بضع ثوان وخرج الصيدلي الذي من المؤكد أنه كان يعلق المحاليل، ومن خلفه خرج الرجال تباعًا، قفزت أمي باقي الدرجات وأنا من خلفها...
دخلت هي بينما أنا تمسكت بحلق الباب أراقب من بعيد، لم تكن أمي تحب تلك الشقة ولا تحب دخولها، تقول إن رائحتها تخنقها، وقتها كنا نظن سبب كره أمي للشقة هو شلة الأنس التي تأتي إلى أبي كل ليلة للسهر وتدخين الحشيش، وقد تمتد السهرة حتى مشارف الصباح، لكني عرفت السبب الحقيقي بعد موت أبي بسنوات في قعدة صفا مع أمي أخبرتني أنها قفشت أبي أكثر من مرة في شقة البدروم وعلى حد قولها: «كانت شقة نجسة حتى دخلها مسرور».
الشقة كانت غرفة واحدة وصالة وعفشة مياه، لأن أبي اقتطع باقي مساحة الدور الأرضي التي تطل على الشارع لتكون دكانين كبيرين، فرش أبي الصالة بقعدة عربي تشبه التي كان يراها في العراق أثناء سفراته إلى هناك، تتوسطها قطعة موكيت كانت أمي ابتاعتها من عمر أفندي منذ أقل من شهرين لكن كالعادة أصبحت تشبه الغربال من كثرة ما سقط عليها قطع الولعة والفحم، حين رأتها أمي وهي تدخل أقسمت ألا تفرش في تلك المخروبة بعدها إلا الكليم أو الحُصْر البلاستيك فلا يليق بضيوف أبي المساطيل غير ذلك، كانت الغرفة مواجهة الباب فرأيت السرير السِفري طفح بجسد «مسرور» وفاض من جانبه وحتى قدميه كانتا تزيدان عن طول السرير بمقدار شبر أو شبرين، تخيلت أنه يدّعي النوم وسيقوم في أية لحظة وينقض علينا جميعا ليأكلنا أو يقتلنا ويرحل، كان أبي واقفا يتطلع في «مسرور»، ولم يلحظ دخول أمي إلا حين نطقت فنظر إليها نظرة زاجرة جعلتها تذوب في جلدها، فهمت أنه كره دخولها على رجل غريب وهو نائم هكذا، فعادت بظهرها لتلتصق جواري بحلق الباب لكنها لم تستطع أن تمسك لسانها حتى يتكلم أبي:
- افرض إنه حرامي أو بلطجي أو قتّال قتلة!
لانت ملامح أبي التي لم تكن تلين إلا في السهرة مع ندمائه أو وهو خارج المنزل:
- ولو كان إبليس نفسه يا صفية لو رأيتِه وهو يرتعش بينما ينطق شهادة الإسلام لأول مرة لأقسمت بأنك لم تنطقيها من قبل أنت الأخرى!
ثم فرت من عين أبي دمعة أقسمت أمي أن تلك كانت أول دمعة تراها في عيني أبي، فحتى يوم موت أمه لم تره يبكي!
أبي ذلك الرجل الذي حوى كل متناقضات الدنيا داخله، القوي الذي يهابه الجميع والرقيق الذي يتوقف ليطعم كلاب الشوارع من الخبز الذي يشتريه لأولاده، التقي الذي يصلي الفرض بفرضه والحشّاش القراري الذي يحب الأنس والفرفشة، صارمٌ وحاسمٌ جدًّا معي أنا، بينما لا يستطيع رفض طلب لأخواتي البنات، تخشاه أمي خشيتها من أبيها وتخشى أن ترفع عينها فيه طوال النهار، ثم ما يلبث أن يتحول إلى قط سيامي يتمسح بها في الريحة والجيئة طوال الليل، تاجر لا يسبقه أحد من التجار في بيعة أو شروة ويفوت لأصحاب الفرش والمحلات الصغيرة ولا يتشدد معهم في حساب، فلا تستطيع أن تمتلك مشاعر واحدة تجاهه طوال الوقت، تظل تتأرجح بين العشق الشديد لتلك الشخصية أو الكره الشديد للشخصية الأخرى، أعلم أنكِ ستقولين الآن إنني أشبهه كثيرًا وأنا معترف بذلك لكنني حاولت تربية ذلك الآخر الذي بداخلي وتلجيمه قدر استطاعتي، أو ربما استنفدت كل طاقة الآخر وشطحاته في سن مبكر عكسك أنت يا عزيزتي...
نعود إلى «مسرور» مجددًا، لوهلة تناسيت خوفي منه وأخذتني قدماي إلى باب الغرفة، كان يتنفس أو بالأحرى يتشنج، كرشه يعلو ويهبط كجبل المقطم، تفرست ملامحه لأول مرة مُذ رأيته، كيف لهذا العملاق أن يحظى بتلك الملامح الصغيرة؟ فم صغير وشفتان رقيقتان، أنف مدقوق فتحتاه صغيرتان جدًّا لم أصدق أن هاتين الفتحتين تغذيان هذا الوحش بالهواء!
ذقن صغير يتدلى تحته لُغد يفترش كامل رقبته، خدّان عظيمان غطيا باقي مساحة الوجه وشعر ناعم يلمع كأنه سقاه زجاجة زيت تمويني كاملة، لم أستطع إدراك شكل عينيه وهو نائم، لكن أكثر ما استرعى انتباهي هو حجم كف يده المعلق بها المحلول ومنظرها، كانت بحجم مطرحة العيش البتاو التي كانت أمي تحتفظ بها في غرفة المعاش بالسطوح رغم انقطاعها عن الخبز منذ فترة، تخيلته يحملني على كفه كالعملاق الذي في القصة التي حكتها أبلة فضيلة في الراديو، وتساءلت: ترى هل سيكون عملاقا طيبا مثل الذي في الحكاية؟
لم تدم خيالاتي كثيرًا فقد أعادتني كفه الأخرى إلى خوفي حين لاحظت اختفاء خنصره الأيسر، بدا مقطوعًا منه ثلاثة أرباعه، فجأة فتح عينيه، فكان صوت صراخي أسرع من إدراكه للمكان من حوله، قفز أبي إلى الغرفة وحملني خارجًا وألقاني في حضن أمي التي بدأت في تهدئتي كي لا يغضب أبي وعاد إلى الرجل الذي كان قد خلع المحقن من ذراعه التي بدأ وريدها ينزف، صاح به أبي:
- استرخ يا أخي، أنت بخير لا تقلق.
تساءل الرجل عن مكانه فأخبره أبي بما حدث:
- أي إنني أصبحت مسلمًا الآن؟!
- مبارك الإسلام.
- أأقول الحمد لله؟
هزّ له أبي رأسه بالموافقة في حالة من الذهول:
- على أي دين كنت يا رجل؟ فالنصارى يحمدون ربهم ويسبحون بحمده وكذلك اليهود؟
صمت الرجل هُنَيَّة وأطلق تنهيدة كادت تطير أبي من أمامه وردد وهو يوشك على البكاء:
- كنت أسبح بحمد ولي نعمتي.
رد أبي بتلعثم وعدم فهم:
- ونعم المولى ونعم النصير.
نظر إليه «مسرور» ببلاهة شديدة:
- أتعرفه أنت أيضًا؟
- من تقصد؟!
- القائد!
حوقل أبي وظن أن الرجل به مس جنون، ثم فطن للدماء التي سالت من ذراع «مسرور» فأغرقت جلبابه المغبر الذي يبدو أنه كان أبيض في الأصل، أخذ اللاصق الطبي من الكانيولا الملقاة على الأرض لصقها لتكتم الدم، ثم سأله:
- أعطني عنوانك أو رقم تليفون أُطمئن أهلك عنك وأخبرهم عنواننا ليأتوا لاصطحابك، أظن حالتك لا تسمح بالعودة وحدك.
- لا أهل لدي ولا أعرف أين سأذهب، ولا أعرف كيف وصلت إلى هنا، لا أريد أن أعود، لا أريد، سيقتلونني، لا أخشى الموت لكنني أريد أن أعرف الله قبل أن أموت مثلما أخبرني الشيخ الضرير، أريد أن أعرف الله فقط، الشيخ أخبرني أن الله سيرشدني، سيدلني على الطريق، لم يرشدني الله، قل لي لماذا لم يخبرني الله عنه، لماذا لم يخبرني الله؟!
دخل في نوبة هلع جعلت أمي تولول وتخبط على صدرها وهي تردد:
- يا مصيبتي، ماذا جلبت لنا يا محمود؟


0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.