tafrabooks

Share to Social Media

(بَيْنَ نَاْرَيْنِ)

أنا سيدةٌ أبلغُ من العمرِ الخامسةَ والثلاثين ومتزوجةٌ ولديَّ ولدان وأعيشُ في أحدِ الأحياءِ الراقيةِ بالقاهرةِ، زوجي يعملُ في إحدى الشركاتِ الخاصةِ، ونحن ميسورو الحال نوعًا ما، وأنا لا أعملُ بسببِ زوجي الذي أرادَ مني أن أهتمَ به و بالأولادِ، وبعدَ فترةٍ يمكنني أن أعملَ فهو بعلاقاته سيوفرُ فرصةَ عملٍ تليقُ بي ..كان والدي موظفًا في شركةٍ حكوميةٍ وكان طبعُهُ هادئٌ ولا يتحدثُ كثيرًا، ووالدتي كانتْ تهتمُ بي وبإخوتي ولا تعمل، عشتُ طفولةً – نوعًا ما – عاديةً، إلَّا أن أُمي كانتْ دائمًا تخافُ علينا وخاصةً أنا.. كانتْ تريدُ أن تجعلَنَا كاملين في أعينِ النَّاسِ، لا تخبرنا ولا تبررُ ما تفعلُه من أُمورٍ صعبةٍ، وعلينا أن ننفذَ ما تخبرُنا بهِ بدونِ اعتراض، المهم أن نكون في نظرِ الجميعِ ناجحين ويُشيدون بأخلاقنا وتربيتها لنا، كان كلُّ شيءٍ بميعادٍ في منزلِ أبي وأمي؛ الأكلُ، النَّومُ، المذاكرةُ، حتى مشاهدةُ التلفازِ التي كانتْ في الأعيادِ فقطْ، وأثناءَ وقتِ الامتحانات ِكانتْ تخبرنا أنَّه من الضروريِّ أن نظلَّ مستيقظين نذاكرُ ثُمَّ الذهابُ مباشرةً إلى الامتحانِ؛ لأن النومَ يجعلُنا لا نتذكرُ شيئًا مما ذاكرناه، فلكَ أن تتخيل َ،كنتُ أذهبُ نائمةً لا أستطيعُ التركيزَ، وأشعرُ وكأنني أحلمُ أثناءَ الامتحانِ،أريدُ فقطْ أن أنتهيَ منه سواءً قمتُ بالحلِّ أمْ لا، ولا مانعَ – عند أمي – من استخدامِ يديها في أيِّ موقفٍ، وكانتْ أيضًا ترَى أنها لا تخطئُ أبدًا، وكانتْ تتقنُ العقابَ بكلِّ أساليبهِ وأنواعِهِ .

وعندَ تخرجي من الجامعةِ أصبحَ جرسُ إنذارِ الزواجِ يرنُّ في منزلِنا بشدة،كانتْ تبحثُ هُنا وهناك عن عريسٍ يتقدَّمُ لي، ومن يخبرُها أن تنتظرَ وسيأتي صاحبُ النصيبِ تصرخُ في وجههِ وتقول: لقد تخرجتْ ابنتي وأصبحتْ متقدمةٌ في العمر، كان يجبُ أن تتزوجَ منذ زمن .

وبالفعلِ جاءَ ليتقدَّمَ لخِطبتي شابٌ كان من أسرةٍ متوسطةٍ وعلى خلقٍ، ولكن رفضتْهُ أُمي لأنه لا يملكُ سكنًا خاصًا به.. كانت تمنعني أن أرى مَنْ يتقدم لي حتى ترضي هي عنه، فممنوعٌ أن أختارَ مَنْ سأتزوجُهُ وأنا وافقتـُها نوعًا ما، فقد كنتُ خائفةً أن أرى شابًا يتقدمُ لي وأُعجَبُ وأتعلَّقُ به ثُمَّ ترفضُهُ أُمي، ليس لي علاقةٌ من قبل بأيِّ شابٍ، وكانت أمي دائمًا تختارُ لي أصدقائي، بل كل شيءٍ في حياتي..

كنتُ في مدرسةِ بناتٍ فقط، وكانتْ أُمي تعطيني دروســـًـا في المنزل، إمَّا بمفردي و إمَّا مع صديقةٍ لي، وبالطبعِ كان لابدَّ أن يكونَ المعلمُ امرأةً، فممنوعٌ أن يدخلَ بيتَنا أيُّ رجلٍ، حتى في الجامعةِ كانتْ أُمي تقومُ بتوصيلي وتنتظرُني بالخارج لنعودَ إلى المنزلِ معًا.

حتى الكُلِّية فقد أرادتْ أمي أن تكون إحدى الكليات الصغيرة.. فقط أماكن لجلوس الطلاب ومبنى واحدٌ حتى لا يكون العددُ كبيراً وأتعرَّفُ على شبابٍ وأصدقاءَ، وحتى تستطيعُ بسهولةٍ أن تسألَ الأمنَ وغيرَهُ عني، وكان هذا يجعلني أشعرُ بالخجلِ وأنني لا أطيقُ الذهابَ إلى الجامعة. كانتْ حياتي لا تعرفُ الجنسَ الآخر وكنتُ متشوقةً للزواجِ حتى أخرجَ من المنزل ومن سيطرة أمي، وحتى يكون لي رجلٌ يعوضني عن كل ما رأيته وأواجه به من كان ينظرُ إلى نظرةَ إشفاقٍ

أو استهزاءٍ مما عانيتُ منهُ بسببِ أُمِّي .

وبالفعل جاء شابٌ وتقدم لي، ووافقتْ أُمي وأبي، وكنتُ أشعرُ بالسعادة ..

أنا لستُ مِثلَ الفتياتِ، ليس لي تجاربُ أو اختياراتٌ أو مواصفاتٌ خاصةٌ، فقط إنني سأتزوجُ – مثل أي فتاة – ممن تراه أمي مناسبًا، وأعيش قصةَ حبٍّ كما كنتُ أرى في الأفلام

أو أسمعُ من صديقاتي، وشعرتُ أنه من الممكن أن أتمردَ ولو قليلًا؛ لأنه بعد فترة قصيرة سأصبحُ في منزلٍ آخر. وستعاملني أمي بطريقةٍ مختلفةٍ لأنني قريبًا سأتركُ هذا المنزل .. لكنني كنتُ مخطئة ...

كنا في فترة الخطوبة، وأراد خطيبي أن نخرج سويًّا ويشتري لي بعض الأشياء، وأخبرتُ أُمي وأنا أشعرُ بالسعادة؛ لأنني سأذهب لأرتدي ملابسي واستعد للخروج، نظرتْ إليَّ في غضبٍ أخبرتني أنه لا يمكن أن يطلب مني الخروجَ معه، نظرتُ إليها و دموعي في عيني، لماذا؟ قالت وهي تصرخ : ماذا سيقول الناسُ عنكِ؟ وماذا سيعتقد خطيبُكِ؟ الخطوبةُ لا تعتبر عقدًا نهائيًّا، سيشعر أنكِ كنتِ معتادةً على الخروجِ مع أيِّ شاب، ويعتقد أنكِ سهلةُ المنال.

عندما يُكتب الكتاب لا مانع من أن تخرجي معه في مكانٍ عامٍ بصحبة أخيكِ.. فصرختُ في وجهها: لماذا تفعلين هذا بي؟؟ لماذا لا تريدني أن أكون سعيدةً مثل أيِّ فتاة !؟ أنتِ تعرفينني وتعرفين أخلاقي، لماذا لا تفكرين بما أشعرُ به؟؟ فقط الناسُ هم من تهتمين بهم، أنتِ أمي أنا ولستِ أُمًّا للناس، فنظرتْ إليَّ وعلى وجهها ابتسامةُ عدمِ اهتمام، وقالتْ : ستظلين في غرفتك ولن تخرجي منها، وأحذرُكِ أن تصرخي في وجهي مرةً أُخرى، من الممكن أن أَخبر خطيبك بأيِّ شيءٍ بشعٍ عنكِ، وسيصدقني ويتركُكِ ..لا تتحدثي معي ولا تخرجي من غرفتكِ إذا كنتِ تريدين إتمامَ هذه الزيجة، وأغلقتْ بابَ الغرفةِ وخرجتْ، بالطبع شعرتُ بالانهيار، لا أجدُ مّنْ يُواسيني أو يُشعرني بالأمان، جلستُ في زاويةِ الغرفةِ أبكي وأنا أرتعشُ بشدةٍ وأتحدثُ إلى نفسي بصوتٍ عالٍ في حالةِ انهيارٍ تامٍ، كنتُ أتحدثُ إلى نفسي بطريقةٍ هيستيريةٍ : نعم يا أمي لن أتكلم، أرجوك ماذا ستخبرينه؟؟ أنا لست سيئة لا أريد الخروج، أرجوكَ لا تصدقْها، لا تتركني، أنقذني، ولكنْ دونَ فائدة حتى شعرتُ بالتعبِ الشديد، وذهبتُ في النوم وأنا في مكاني، علي الأرض.. أيضًا بمناسبةِ النَّوم كانت معظمُ أحلامي كوابيسَ بسببِ ما يحدثُ لي أو بسبب ما أخافُ أن يحدثَ لي في الواقع، ولكن بشكلٍ دقيقٍ وقاسٍ، وبالفعلِ كنتُ أمكثُ في غرفتي وكأنني في فترة سجني أنتظرُ إطلاقَ سراحي.

تمَّ تحديدُ موعدِ زفافي، وكان بالنسبةِ لي موعدَ الإفراجِ عني وبدءَ حياةٍ جديدة .

نظرَ إليَّ عندما رآني وأنا أرتدي فستانَ الزفافِ وقال وعيناه يملؤهما الحبُّ : لا أصدقُ أن هذا الجمالَ كلَّه أصبح لي وحدي، أيقنت ساعتَها أنني سأعوِّضُ كلَّ ما حدثَ لي، وسأعيشُ قصةَ حبٍّ ولكنْ مع زوجي .. كنت في بدايةِ الأمرِ أشعرُ وكأنني مازلتُ في منزلِ أُمي، أخافُ أن أفعلَ شيئًا يُغضبُ زوجي، وأحيانًا أستيقظُ علي كابوسٍ وكأنني مازلتُ في منزلِ أُمي أو أسمعُها تنادي وتصرخُ في وجهي، ولم يمر وقتٌ طويلٌ وبدأتْ المشاكلُ، فقد عَرِفَ نقطةَ ضعفي وكان يستخدمُ أُمي كسلاحِ تهديدٍ لي، فكان طوالَ اليومِ بالخارجِ، وعندما يعودُ أُريدُ أن أتحدثَ معه؛ فقد كنتُ أشعرُ بالسعادةِ عندَ عودتهِ، ولكنَّهُ لا يهتمُّ ولا يشعرُ بوجودي، أريدُ أن أشاركَهُ أحداثَ يومي البسيطةَ من إعدادِ الطعامِ وتنظيفِ المنزلِ، أُريدُ منه أن يشعرَ بتعبي ويشكرَني، كنتُ أعتادُ أن أفعلَ هذه الأمورَ في منزلِ أبي وأمي، وكان إجباريا، وفي الغالب لا ترضى أمي أبدًا عمَّا أقومُ به وتخبرني أنني أقومُ بعملِ ما تأمرُني به بغيرِ رضًا .

وذهبتُ وراء زوجي في غرفته وأخبرته : ماذا حدث في يومك؟ فقال بلهجةٍ صعبةٍ لا شيء، أريد أن أنام، أنا مُتعَبٌ، فأخبرتُه لماذا لا تتحدثُ معي؟ قال : لقد أخبرتُكِ أنني أريد أن أنامَ، ولا أريدُ التحدثَ، فقلتُ : أنت دائمًا تخبرني أنَّكَ مُتْعَبٌ.. فقدْ كانَ عند انتهاءِ وقتِ العملِ يذهبُ إلى والده ووالدته ويزور إخوتَهُ، وقد كان يري أنهم أهم مني في كل شيء، حتى في الأمور المادية؛ فأخبرتُه أنني أشعر بالملل و أُريد أن أعملَ، قال: لا هذا مرفوض، فقلتُ : ولكنك وعدتني؟؟ قال : لا، وإذا لم يعجبْكِ كلامي فسأخبرُ والدتَكِ وستتصرفُ معكِ أو اذهبي لتعيشي معها... كان يعرف أنني هاربةٌ من سجنِها، فكأنه يهددُ سجينًا بعدَ إطلاقِ سراحه بالعودةِ مرةً أُخرى ليسجن، قال هيَّا أريدُ أن أنامَ ولا أريدُ التحدثَ في هذا الأمرِ مجددًا، فخرجتُ لأجلسَ وأنا أشعرُ بخيبة الأمل والنَّدم، هل هذه هي الحياةُ التي كنتُ أنتظرُها بفارغِ الصبر... خرجتُ من سجنٍ جماعيٍّ إلى سجنٍ فرديٍّ، لا أستطيعُ أن أتحدثَ مع والدتي بالطبع؛ فلن تشعرَ بما أمرُّ به لقد أخبرتْه أمي في يوم زفافنا : إذا فعلتْ ابنتي أيَّ شيءٍ أخبرني وأنا سأتصرف معها..

كان المفروضُ أن تخبرَهُ عكسَ ذلك، وأبي لا حولَ له ولا قوة؛ فقد كان من شدَّةِ حبه لوالدتي ينفذ ما تقوله ويصدقها، ويري أن ما تفعلُهُ هو الصوابُ، فهي المسئولةُ عن تربيتنا ولا يرفضُ لها أيَّ طلب، كنت أتمنى أن أتزوَّجَ رجلًا مثلَه، وظلتْ حياتي علي هذا الشكلِ؛ أحيانًا أنسى أنني أُنثي لا أَملكُ شيئًا، وأعرف أن كثيرًا من الناسِ في مجتمعنا بنفسِ حالتي يتنازلونَ عن كل شيءٍ من أجلِ استمرارِ أن يكون لها زوجٌ وأولادٌ وبيتٌ لا أكثر.. ضاعتْ حياتي كلُّها وأنا في منزلي وأيضًا وأنا خارجُ منزلي، فالجميعُ يستسلمون، لقد جعلوني أتمنى شيئين : أن تُتوفى والدتي وأتخلصُ من الفزَّاعة الرهيبةِ أو أن أكونَ رجلًا أفعلُ ما يحلو لي ...هل أنا إنسانةٌ قادرةٌ علي تربيةِ جيلٍ وجعلِهُ يشعرُ بالمساواة؟!! فقط سأجدُ ما كنتُ أتمناه من حب واهتمام في المسلسلات والأفلام، وفي رواياتِ الحب. لن أجدَ للحبِّ طريقًا مرةً أُخرى وستكون جملته  لا أُصدق أن هذا الجمال أصبح لي وحدي ) ذكرى في قلبي طوال حياتي، وسأكمل حياتي من أجل أولادي وسأغادرها وأنا لم أعشْ مراهقتي لا شبابي، ولن أجدَ للحب طريقًا، ولن يشعر أحدٌ بما أعاني من حزنٍ وقهر، فأنا بين نارين؛ إِمَّا أن أختار نارَ والدتي والعيشَ معها أو نارَ زوجي .

تركتُ الورقَ من يدي وتعجبتُ لما قرأتُه،كيف تفعل أُمٌّ كل هذا بابنتها؟! هل المشاعر المكبوتة في المرأة تجعلُها قادرةً علي أن تواصل..

في مجتمعنا يحدث ذلك كثيرًا، والعجيب أنهن بالفعل يكملن حياتهن بكل رضًا .

أين تذهب مشاعرهن؟! هل لأبنائهم؟

كيف تعيش المرأة وهي تفتقد إلى جوانب كثيرة بداخلها؟! إنها فعلًا لغز .

قمت بإعداد كوبٍ من القهوة وأنا أشعرُ بالحيرة، وجلستُ أتابعُ القراءةَ، وبدأت في الملف الخاص بالحالة الثانية.
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.