يتسربُ الحبر عبر مسامات الجلد الضيقة ليضيء أرواح عاشت في العتمة ويحاول طرد أشباح النهار، يتلوى القلم في يد الكاتب كراقصة ترقص رقصتها الأخيرة تُدير خصرها للجمهور فيغرقوا في شهواتهم، وتغرق هي داخل بركة موسيقية دافئة، تنظر إلى نفسها داخل برميل من النفط الأسود تبحث فيه عن بياض الصباح، يحيطها الليل من كل الجوانب فتتحول قطرات النفط إلى أمواج عاتية، تتلوى كأفعى تبحث عن مخرج وهي تُصدر حفيف وصرخات لا تسمعها إلا وهي عالقة في ذنوبها،تظلُ غارقة في شرودها وتُصدر صرخات مكتومة ثم تهوى كورقة خريف أخافها صرير الرياح.
على المنصة يظل الجمهور مشدوها
يعزف لحن الموت ... الجميع ينظر للجميع، ولا أحد ينظر لأحد
الكل يغرق في تفاصيل لوحة " الرقصة الأخيرة"
هذه اللوحة التي لم يُعرف بعد من رسمها، فقد وجدها أحد الباحثين في خيمة قديمة ومهجورة بالقرب من مدينة حاسي خليفة بواد سوف لتحط أخيراً رحالها في كلية الفنون الجميلة بمُستغانم، لقد توافدت الصحف والمجلات للكتابة عنها واجتمع في هذا المكان كل عشاق الفن من رسامين وكتاب وحرفيين ومصممين وصحفيين ليعاينوا هذه اللوحة الغريبة عن قرب ...
لا أحد يعلم لحد الآن سر هذه اللوحة وكيف للوحة كهذه أن تُرمى في صحراء خالية، وقد نشرت أحد الصحف المحلية المعروفة أن اللوحة يمكنُ أن تكون قد سرقت من مكان ما ووُضعت في ذلك المكان الشبه خالي، لتهرب بعدها إلى تونس ومن ثمة تعبر طريقها بين الأمواج إلى مدن الفن .... برلين أو نيويورك أو غرناطة أو روما وتُباع في السوق السوداء، فهناك الكثيرون من المهتمين بهذا الفن في تلك المدن الصاخبة التي تعج بمعاني الحياة والرفاهية ...
كما تحدثت صحف أخرى أن الجهات الأمنية قد توصلت إلى أن من رسم هذه اللوحة هو شاب من مدينة واد السوف وضعها هُنا ولم يخطر بباله أن لوحته هذه قد تكون يوماً ما موضوع الساعة ولم يكن يدرك مدى الحس الجمالي الذي تبثه هذه اللوحة في عين الناظرين لها ومدى ذلك الإحساس المرهف التي تبعثه لوحة كهذه في قلوب مُتذوقي الفن .
كان فقط يرسم من أجل أن يرسم ويتمتع لا من أجل أن يُمتع، يرسم فقط ليطرد الوحش من دواخله، كأنه يمسك سكينا حاداً بين يديه لا فرشاة رسم، يمزُق أحلامه ويُعيد نسجها على مقاس الواقع لا على مقاسه، يقطع جسده إلى أشلاء ليُعيد تركيبها لاحقاً في ألوان داكنة تشبه ملامحه التي لا يعرفها أحد. تتدلى خلف الراقصة التي رسمها عراجين التمر من أعلى النخلة الشاهقة كأنها تلامس السماء وما بعد اللوحة، رسم الشمس تعانق بأشعتها الصفراء المنبعثة من السماء وقت المساء جذوع النخلة الممتدة لتظليل اللوحة، وبجانب الراقصة شاب يُمسك بيده اليمنى سيجارة دخانها يُعانق سحابة سوداء، جالس على كرسي أسود قديم وهو يُلوح بيده الأخرى على طائر في أعلى اللوحة وبنصف عين يبقى ينظر إلى الراقصة ،كلُ من حضر لمشاهدة اللوحة اختلفوا في تفسير نظرات تلك الفتى للراقصة ...منهم من قال أنها نظرة إزدراء ،ومنهم من قال أنها نظرة شفقة ،ومنهم من صرَح أنها نظرة توحي بالعشق وبالخوف من الوقوع فيه ،ومنهم من قال أنها نظرة لامبالاة وعدم اهتمام، لأنه ينظر لأعلى اللوحة، يتأمل الطائر..
فعلاً إنها لوحة غريبة..
أما عن هذه الصحيفة الوطنية فقد فسرت أن الرسام صاحب اللوحة من هذه المدينة، نظراً للطابع الصحراوي الذي تميزت به اللوحة وأن النخلة المتدلية فإن دلت فإنها تدل على أن الرسام هو ابن المنطقة
، قرأتُ هذا المقال أمام صديق لي ...
فقال : ربما أقام أحد الرسامين في هذه المنطقة قديماً وأُعجب بمناخها ومناظرها الخلابة، كما أن النخلة هنا ليست دليلاً يُسترشدُ به ...
قلت بهدوء: هذا الأمر ليس مُهماً بقدر أهمية هذه اللوحة، فالشيء المهم هو أنها مذهلة...
أما من أين أتت ؟ وكيف؟ ومن رسمها ؟ فهذا حقاً غير مهم ...
المهم أن اللوحة بألوانها قد أخفت جزءا ًكبيراً من قبح هذا العالم ...
الفن جزء من الحقائق التي سيظل الإنسان باحثاً عنها في هذا العالم السفلي المخيف ....