بداية رحلة
وجد فارس نفسه في مكان فسيح لا يرى أوله من آخره، تعصف به الرياح من كل اتجاه، يغمره القمر بضوء خفيف فيضيف ذلك للمكان رهبةً أكبر.
انتفض في مكانه، فهدأت جدته من روعه وطمأنته أنها بجانبه وأنه لن يصاب بسوء هنا.
أخذت الجدة حفيدها الوحيد وبدأت تتقدم بخطوات واثقة، أما هو فكان يقدم رجلًا ويؤخر أخرى.
كان أول من قابلاه في تلك الجولة، اثنان كل منهما ملثم واقف بسيفه ومتأهب، وكأنه يحمي حدوده من الأعداء، بل وكأنه لا يوجد له عدوٌ في الدنيا إلا ذلك الذي يواجهه.
فارس: من هذان يا جدتي ولماذا يقفان هكذا؟ ولماذا أرى في عينيهما الخوف؟
الجدة: أكمل طريقك يا صغيري وسوف تعرف كل شيء في وقته المناسب.
مضيا في طريقهما معتمدان على ذلك الضوء الخافت، والخوف يعصف بقلب فارس، فهو يشعر أنه ماضٍ في طريق الهلاك، ولكنه يثق بجدته كثيرًا، فحاول أن يطمئن نفسه، واستمر في المسير.
لين
توقفت الجدة ورأى فارس أمامه فتاة مستلقية على الأرض ويبدو عليها الإرهاق الشديد، فرق لحالها وبدأ يتحدث مع جدته.
فارس: من هذه يا جدتي؟
الجدة: هذه لين يا صغيري.
فارس: ولماذا هى متعبة هكذا؟
الجدة: لأن الدنيا أرهقتها، جعلتها تختبئ أحيانًا وتظهر أحيانًا، جعلتها يائسةً بائسةً. نالها من الأذى الكثير فضعفت وانهارت قوتها.
فارس: ومن الذي فعل بها هذا يا جدتي؟
الجدة: أنت يا صغيري لم تحسن معاملتها، فأتعبتها.
فارس: وهل تشقى لين يا جدتي؟
الجدة: نعم يا صغيري لقد أشقيت لين معك.
فارس: ولكن أليس نبينا يقول "ألا أخبركم بمن يحرم على النَّار، وبمن تحرم النَّار عليه؟ ثم قال: على كل هين ليِّن قريب سهل"
الجدة: بلى، ولكن ألم تسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا يُلدَغُ المؤمنُ من جُحْرٍ واحدٍ مرتين"
وقول سيدنا علي أيضًا "لا تكن صلبًا فتكسر ولا ليّنًا فتعصر"
نكس فارسٌ رأسه، وهو يرى لين قد بلغت من التعب ما قد يقضي عليها، وقال في أسف: لم أكن أعلم قول نبينا هذا، ولو كنت أعلمه لما وصلنا إلى هذه الحالة، لقد نالوا من لين بسببي.
الجدة: اسمعني يا صغيري وحاول أن تفهم كلامي.
الشقاء، هو صفة من صفات أهل النار، وحُرم على النار كل هين لين
فلا شقاء مع اللين، ولكن اللين هو لين القلب وليس لين العقل.
فارس: وهل هناك فرق يا جدتي؟
الجدة: نعم يا عزيزي فلين القلب يعني أن تحب الخير للناس، وتتعاطف معهم، وتطيب خواطرهم. ولين العقل يعني أن توهم عقلك بأنه يعيش حياة شخص آخر، تبكي معه طوال الليل وتنام معه طوال النهار، تُضيع حياتك ومستقبلك بل ونفسك من أجل الآخرين، تسمح لهم بإيذائك والاستخفاف بعقلك والنيل منك، وكأنك قد وجدت لتكون لهم وحدهم، فتجد قلبك لا يقدر على كل هذا وتجد أن حياتك صارت كالعنب المعصور يحرم شربه عليك فقد أبدلتها بأخرى ليست لك، تعيشها لأجل الناس، وتنسى أنك شخص خلقه الله لهدف ورسالة، وتفني عمرك فيما ليس لك. بهذا أشقيت لين يا عزيزي، والآن نريد لها الشفاء.
فارس: ولكني لا أقدر يا جدتي كيف لا أجلس مع صديقي وأترك عملي ما دام مهمومًا، وكيف آكل وأشرب وصديقي حزين، وكيف لا أبكي وأنا أرى صديقي عالق في دراسته أو يعاني مع أسرته!
الجدة: من قال أنك بهذا تنفعهم، أنت فقط تؤذي لين ويمكن أن توصلها إلى الموت.
فارس: هل تموت لين يا جدتي؟
الجدة: نعم يا صغيري فكلما أثقلت عليها وتحملت هي، انهارت قوتها وتركت العنان لجوادك الذي يتحول مع الوقت إلى وحش كاسر، ماتت لين منه، ولم يبقى فيه إلا القسوة.
فارس: لا أريد أن يحدث هذا.
الجدة: إذًا عليك أن تقوم بعملك الذي خُلقت له، وتؤدي واجبك، وتواسي من يحتاجك، وتقف بجانب أصدقائك، ولكن دون أن تؤذي نفسك. فلين تحتاج إلى الطعام أيضًا، وهذا ما يطعمها ويجعلها قوية، وتذكر دائمًا أن تكون ليّن القلب لا ليّن العقل.
فارس: سأجتهد في ذلك، أعدُك يا لين أنني سأدافع عنكِ دائما.
بين القلب والعقل
العقل لا يعني القسوة المفرطة، والقلب لا يعني المسامحة الدائمة، التوازن بين القلب والعقل يصنع الهدوء والاتزان، لا تدع قلبك يقودك في كل الأوقات.
بعض منا يعتمد على قلبه، والبعض الآخر يعتمد على عقله، والاثنان مخطئان.
الأول: مخطئ في حق قلبه فالقلب لا يستطيع القيادة وحده، وإذا فعلت ذلك فقد حملته ما لا يطيق، وحكمت عليه بالألم إلى الأبد.
والثاني: مخطئ في حق قلبه أيضًا فالقلب له رأيه الخاص في الحياة، ولا يمكن أن نتعدى عليه، ويجب معرفة رأيه في الأمور، فمن اعتمد على قلبه فقد آذى نفسه، ومن اعتمد على عقله فقد آذى نفسه و كل من حوله .
لابد من الموازنة، العقل والقلب معًا يديران الأمر كمجلس قيادة عالي المستوى. عندما تُقرب بين القلب والعقل ستريح قلبك من الألم المستمر، وتريح عقلك من العمل وحده، فكل منا يحتاج إلى شريك، والعقل محتاج للقلب، والاثنان خلقهما الله فيك كي تقريب بينهما. فعقلك لن يجعلك تؤذي نفسك لأجل أحد، وقلبك سيجعلك تؤذي نفسك لأجل كل أحد، ونفسك أمانة لديك، ولأجل حفظها لا بد من حمايتها وحماية الناس من أذاها لتكسب دنياك وآخرتك، وتفوز بحياة خالية من صراع هذين الاثنين اللذين لا يهدآن، وستكون أنت الضحية إن عجزت عن إقامة الصداقة بينهما.
كثيرون هم من يغلفون قلوبهم بالقسوة الظاهرة ولكن يمكن اختراقها والوصول، ومنهم من يرد على قلبه جبال من الخيبات فلا يُرى منه إلا القسوة، ولا يُتصور أن يُرى منه لينًا. ولكن عند التقرب منه ستعثر على اللين مخبأً في بئر سحيق و ستعاني من أجل إخراجه. كل منا بداخله اللين والقسوة، واختلاف تجاربنا وحياتنا هو الذي يقرر ما يظهر منهما وما يختفي. فرفقًا ولا تحملوا القلوب ما لا تطيق.
غضبان
ودع فارس والجدة لين وأكملا طريقهما، فظهر لهما فجأة وحش عملاق، فاستعاذت الجدة من الشيطان، فابتعد قليلًا ولكنه توعد أن يمنعهم من المرور حتى يتغلبا عليه.
الجدة بثقة: سنتغلب عليك معًا يا غضبان.
غضبان: أنت ستُحبسين هنا حتى يغلبني فارس وحده .
الجدة لفارس: لا بأس ستخوض معركتك معه، وسأظل هنا حتى تتغلب عليه، سأنتظرك لتحررني فأنا أثق بك.
فارس: ولكنني أخاف منه، إنه عملاق يا جدتي، كيف سأتغلب عليه وأنا ضعيف؟
الجدة: أنت من ربيته يا عزيزي وأوصلته إلى هذا الحجم فأنت الوحيد القادر على القضاء عليه، فاستعذ بالله أولًا فالغضب يزداد بالشيطان، وإن وجدت ماء فلتتوضأ، ثم أجلس هادئًا أمامه وإياك أن تُشعره بخوفك لأنه سيأكلك، فلا شيء يقف في طريق ذلك الوحش كما لا شيء يصمد أمام النار.
ذهب فارس خائفًا ووقف أمامه.
غضبان: لن تمر أبدًا حتى تهزمني.
فارس وهو يستجمع قوته: إذًا لا بدَّ من الحرب. شعر بالخوف يغمر روحه، فهو هادئ بطبعه لا يحب المنازعات، يتجنب كل شيء يمكن أن يجعله في مواجهةٍ مع أحد، أوقف فارس عقله ومنعه من الاسترسال، فالاسترسال يعني الاستسلام. رفع رأسه ونفذ وصية جدته، فابتعد عنه غضبان قليلًا، ولمح فارس بحيرة صغيرة بها مياه بالكاد تكفي للوضوء، فتوضأ وتقلص حجم غضبان وهدأ تمامًا، ففرح فارس بالنصر عليه.
فارس: أخبرني يا غضبان ما سبب تحولك لذلك الوحش ومنعك لي من المرور؟
غضبان: في كل مرة كنت تغضب بها ولا تتحكم في غضبك كنت أكبر أنا هنا، وبسبب المرات القليلة التي كنت تطفئني فيها بالماء كانت تتكون بحيرة صغيرة، ولكنَّ مرات غضبك كانت أكثر فهزمتُ البحيرة، وتحولت لوحش لا يمر أمامه أحد إلا نال منه، ولكنك الآن تغلبت عليّ وتستطيع المرور، ولكن تذكر إذا لم تستطع التحكم في غضبك سأعود وحشًا عملاقًا مرةً أخرى.
ذهب فارس إلى جدته سعيدًا فقد انتصر على غضبان وسيتمكنان من المرور سويًا.
ابتسمت جدته وقالت له تذكر يا فارس وصية نبيك حين قال له أحد أصحابه أوصني، فكانت وصية النبي صلى الله عليه وسلم له (لا تغضب، لا تغضب، لا تغضب)، فاحرص ألا تكون مشاعرك في يد غيرك يثيرها طوال الوقت ويستمتع بتهورك.
فارس: فهمت ذلك لم أكن أعلم أن الغضب يكبر بداخلي، كنت أحسب أنّ الغضب شيء عادي وكنت أغضب على أتفه الأسباب، والآن سأتحكم بغضبي ولن أغضب ثانيةً .
الجدة: لا تقل أنك لن تغضب ثانيةً حتى لو أخذت ذلك القرار الآن، ولكن عندما تعود وتواجه بعضًا من المواقف فإنك قد تغضب في بعض الأوقات رغمًا عنك، فعندما تغضب فأطفئه بسرعة بالماء، وغيّر من وضعك لتستطيع تهدئة نفسك. يطفئ الماء الغضب، كما يطفئ الماء النار يا صغيري.
من الواقع
لا تكن تافهًا مندفعًا ينال الجميع منك، أعلم أنك تواجه من الأمور ما يجعلك تفقد السيطرة على نفسك، ولكن حاول أن تتمالك أعصابك، فبغضبك المفرط ربما تضيع حقوقك ولن تحصل على شيء سوى اللوم. كان نبيك لا يغضب إلا إذا انتُهكت محارم الله.
ابدأ من الآن في محاربة ذلك الوحش واعلم أن المواجهة لن تكون سهلة، ستتغلب عليه في البداية مرة من بين عدة مرات، ولكن مع الإصرار والاستمرار ستنقلب النتيجة لصالحك، ويتغلب عليك مرة من بين عدة مرات، فتكون فزت بنفسك وعلاقاتك، فكثير من العلاقات يكون سبب توترها أو انتهائها أن أحد أطرافها غاضب باستمرار، فلا تجعل ذلك السلوك يفسد عليك ما تريد أن تتمتع به. تسلح بالصمت في أوقات الغضب فتفوز بالراحة وتنجو من الاتهامات المتبادلة.
الصمت قد يكون صعبًا ولكنه أسلم الحلول وقت الغضب. اعلم أن الغضب يعمي البصر، ويعمي القلب، ويعمي العقل، ويكأنه سحابة قد أخفت عنك ملامح الحقيقة، ربما تحكم على أحدهم خطأ أو تؤذي شخصًا لم يرتكب جريمة في حقك.
ربما تؤذي نفسك أيضًا، وتضعها في موقف الندم على ما كان، فلتحرص على الهدوء وتُدرب نفسك عليه دائمًا، فتفوز.