ظل حسام يستمع إلى أقوال الأطباء المتضاربة حول حالة عمه الصحية ؛ كان بعضهم يرى أن خضوعه للجراحة أمر حتمي و ضروري و لا فكاك منه ؛ و بعضهم يرى أن الجراحة لن تغير شيئاً من الواقع المحتوم والذي يجب أن يقروا به لأن احتمالات وفاته أثناء الجراحة أو على أثرها كبيرة و تجعل الجراحة مخاطرة لا معنى لها .. زفر حسام في حرارة قبل أن يهتف في توتر :
- لا أفهم شيئاً من كل هذه الهرطقة العلمية .. أريد أن يفيدني أحدكم بما يجب أن نفعل الآن .
نظر الأطباء جميعاً إلى سارة التي كانت تجلس تستمع لهم و هي منكسة الرأس و قد غرقت في تفكير عميق ؛ قبل أن يهتف أحدهم :
- د / سارة تستطيع أن تشرح لك تفاصيل الحالة بإسهاب .. ليس فقط لأنها الطبيبة التي اكتشفت الحالة و شخصتها في بادئ الأمر فحسب و لكن لأنها أيضاً تكاد أن تكون الأحق بإتخاذ القرار المناسب .. المريض بمثابة والدها و هي أدرى بحالته بحكم أن رسالتها للدكتوراة كانت في هذا التخصص بالذات .
التفت حسام إلى سارة و لانت ملامحه ؛ بدا أن الكثير من توتره قد زال فجأة بمجرد أن نظر إليها حتى أن ابتسامة خافتة قد ظهرت على شفتيه و هو يهتف :
- لديكم حق .. سارة فعلاً هي من يجب أن يتخذ القرار الآن .. هي أحق الناس بهذا .
لمعت الدموع في عيون سارة ؛ و هي تهمس :
- ليت الأمر كان بهذه البساطة يا حسام .. هناك كثير من التفاصيل و الاعتبارات يجب أن نراعيها قبل أن نعرف ماذا سنفعل بالضبط .. ما رأيك ؟ .. أحتاج لبعض الهواء المنعش ؛ دعنا نذهب إلى أيّ مكان خارج المستشفى .
بدا و كأن حسام سعيدٌ باقتراحها و هو يصحبها إلى خارج المستشفى كما طلبت منه ؛ ركبت بجواره في سيارته التي انطلق بها نحو مقهى فخم على النيل ؛ و هو يهتف :
- هل المسألة معقدة لهذا الحد ؟ .. لأنني ألح في شرب كوبٍ من القهوة معك في أيّ مكان منذ عامٍ مضى بلا جدوى .. لماذا الآن يا سارة ؟
تنهدت سارة و همست :
- ربما لأن مصابنا واحد .. رياض وهدان هو الذي رباك بعد وفاة أخيه و رباني بعد زواجه من أمي .. كلانا يتألم لأجله و يهتم بأمره أكثر حتى من ابنه الذي من صلبه .. و للأسف هو ليس موجوداً ليتخذ القرار الصعب لذا ستقع على عاتقنا نحن تلك المسئولية ..
شعر حسام بالضيق عندما أتت على ذكر عمار ؛ يكاد أحياناً أن ينسَ أن ابن عمه الذي لم يره منذ أكثر من سبعة عشر عاماً كاملة لا زال على قيد الحياة .. لكن سارة تكاد ألا تنسَ هذا قط و هذا ما لا يستطيع أن يقبله .. هتف في ضيق :
- النذل الذي هجر والده كل هذه المدة و لم يتذكره و لو برسالة لن يحفل بحياته أو موته يا دكتورة .. القرار قرارنا نحن لأننا نحن من سيتألم لو فقدنا عمي - لا قدر الله - .
صمتت سارة لحظة ؛ قبل أن تهمس :
- لكننا فعلاً نفقده يا حسام و هذا ما حاول الأطباء شرحه لك .. فرصته في النجاة ضئيلة جداً و تكاد أن تكون معدومة .
امتقع وجه حسام بشدة و هو يوقف سيارته قبل أن يغادرها و يدخل إلى المقهى و سارة تسير بجواره صامتة .. جلسا إلى إحدى الطاولات و طلب حسام لهما القهوة قبل أن يهتف :
- هل حالته ميئوسٌ منها إلى هذا الحد ؟ .. عمي ليس مسناً يا سارة ؛ هو لم يتجاوز الستين من عمره بعد .
هتفت سارة في حسم :
- السن ليس له دخل بما أقوله لك .. بابا رياض مصاب بورم خبيث في المخ .. درجة انتشار الورم تجعل خضوعه للجراحة ضرباً من الانتحار لأسباب كثيرة أهمها أن نسبة نجاح الجراحة في حالته متدنية جداً و احتمالات وفاته أثناء الجراحة أو بعدها أكبر من أن نغفلها ..
قطب حسام جبينه ؛ و هتف في تردد :
- و إذا لم يخضع للجراحة سيموت بالتأكيد ؛ أليس كذلك ؟
زفرت سارة في حرارة ؛ قبل أن تهتف :
- سنه و حالته الصحية لن تحتمل العلاج الكيميائي كما أنه لن يكون مجدياً مع انتشار الورم لهذا الحد .. إذا لم يخضع للجراحة فوراً سيموت خلال بضعة أسابيع .
اعتدل حسام في مقعده و هو يهتف :
- إذاً أمامنا أمل ضئيل في نجاته لو نجحت الجراحة .. هذا يحسم الأمر يا سارة كما أعتقد .. الأمل مهما بلغت ضآلته أفضل من الاستسلام و انتظار المحتوم ؛ أليس كذلك ؟
نكست سارة رأسها و همست :
- لو سألتني رأيي كطبيبة لنصحتك بالجراحة فوراً و بلا تردد .. لكنني لا أستطيع أن أتخذ القرار المنطقي الآن .. بابا رياض هو الأب الوحيد الذي عرفته طوال حياتي و لا أستطيع أن أتخذ قراراً قد يودي بحياته بهذه السهولة .
نهض حسام و هو يهتف في حسم :
- لستِ مضطرة لإتخاذ القرار يا دكتورة .. عمي لا زال حياً و في كامل قواه العقلية و هو من سيقرر ما إذا كان عليكِ إخضاعه للجراحة أم لا .. سنعود إلى المستشفى لتوضحي له الصورة بكل أبعادها كما فعلتِ معي الآن و اتركي القرار له .
نهضت سارة و هي تعترف بينها و بين نفسها بأن اقتراح حسام رغم أنه مجرد من الانسانية لكنه المنطق العقلاني الوحيد في هذه الظروف ..
لكنها لا تعرف كيف تصارح الأب الذي رباها في حضنه و تحت جناحه بأنه ميت لا محالة دون أن تقتله صراحتها أو يقضي عليه ضياع الأمل .