جلست سارة بجوار فراش رياض في غرفة العناية المركزة و هي تمسك بيده ؛ و تحاول أن تبدُ متماسكة و هي تشرح له حالته في إيجاز ؛ و هي تحاول أن تجعل كلامها متفائلاً بقدر المستطاع دون جدوى .. و عندما صمتت همس رياض :
- حسام محق يا سارة .. الخضوع للجراحة قد يجعلني أموت بسرعة و أرتاح من عذاب الأسابيع التي سأتعذب و أعذبكم بها بلا معنى .. الموت هو النهاية الحتمية لكل مخلوق يا ابنتي و كانت ستأتي ستأتي لا محالة .. مع أنني كنت أتمنى لو تأخر أجلي قليلاً حتى أطمئن عليكِ .. ليتكِ قبلتِ الزواج من حسام لكنت الآن أموت و أنا مرتاح الضمير .
لمعت الدموع في عيونها ؛ و هي تهمس :
- كنت أتمنى لو أستطيع أن أفعل هذا لأرضيك يا بابا لكنك تعلم أن هذا مستحيل .. أنا لا أناسب حسام و الزواج كلمة تم محوها من قاموس حياتي للأبد .
أصر رياض على أن تشارك سارة في إجراء الجراحة له بنفسها رغم أنها رفضت هذا بشدة ؛ لكنه ابتسم هاتفاً :
- لن تكون ربيبتي طبيبة و أذهب إلى الأغراب بحثاً عن العلاج .. أنتِ أولى بي من أيّ شخصٍ آخر و لو كان قدري هو أن أموت في الجراحة فيكفيني أنكِ ستكوني قريبة مني حتى آخر لحظة في حياتي .
كانت سارة تتمنى لو تشعر ببعض الأمل لكنها كانت ترى أن الحالة سيئة و الأمل بها معدوم ؛ لكن عندما نجحت الجراحة و تم نقل رياض إلى غرفة العناية المركزة انتعش الأمل في قلبها كأنه العنقاء تهب من بين رمادها ؛ حتى أنها ظلت بجواره ترعاه بنفسها بدلاً من فريق التمريض و هي تنتظر في كل لحظة أن يفتح عينيه و يبتسم لها ؛ و عندما أشارت كل الأجهزة فجأة إلى حدوث الوفاة بكت في حرقة و هي تشعر بأن حياتها لن تعود أبداً لما كانت عليه .. لأن الرجل الوحيد الذي كان يحبها و يرعاها و تثق به قد غادر الحياة و تركها وحيدة لا تعرف كيف ستعيش حياتها بدونه ..
مرت مراسم الدفن و العزاء ببطء قبل أن تجلس سارة في ردهة الفيلا و هي شاحبة الوجه و تشعر بأنها تكاد أن تفقد وعيها من فرط الإعياء .. عندما اقترب حسام منها و هتف :
- تحتاجين للراحة حتماً ؛ لكنني مضطر للحديث معكِ في أمر ضروري .
رفعت رأسها تنظر إليه ؛ فهتف في تردد :
- عمار يجب أن يعلم بوفاة والده عن طريقنا قبل أن يقرأ النعيّ في الصحف .. عمي ترك ثروة عريضة و لابد من أن يأتِ عمار لنتمم إجراءات إعلام الوراثة و تقسيم التركة .
ازداد وجهها شحوباً و هي تهمس :
- يأتي ؟! .. مستحيل .
نظر حسام إلى شحوبها في قلق ؛ قبل أن يهتف :
- يأتي أو لا يأتي هذا شأنه .. المهم هو أنني لا أريد أن أترك الأمور معلقة .. عمار و عمرو هما كل ورثة المرحوم عمي و سيتقاسمان حصته في المجموعة الاستثمارية التي تملكها الأسرة بعد تقسيم التركة و فتح الوصية .. و بما أن عمرو لا زال قاصراً و لديه ظروف خاصة تعرفينها جيداً فلا ريب من أن عمار هو الذي سيستولي على تركة عمي بالكامل ؛ و سيصبح من حقه منازعتي في إدارة المجموعة .. لذا عليّ أن أستعد من الآن للكثير من المشاكل .
هزت سارة رأسها بقوة و كأنها تنفض عن عقلها فكرة مريعة لم تكن تنتبه لها من قبل ؛ لم ترَ عمار منذ كانت في الخامسة عشر من عمرها و كان هو بالكاد قد بلغ الحادية و العشرين من عمره ؛ لا ريب من أنه الآن قد أصبح رجلاً ناضجاً في الثامنة و الثلاثين من عمره و لم يعد ذلك الشاب الأناني الذي هجرهم دون أن ينظر خلفه أو يتوقف للحظة واحدة ليفكر فيما يسحقه في طريقه ..
لكنه بالتأكيد لم يتغير .. لا يمكن أن تأمل في أن يكون قد تغير .. فلو تخلى عن أنانيته و غروره و استهتاره لكان على الأقل قد حاول الاتصال بوالده و لو لمرة واحدة طوال سبعة عشر عاماً كاملة قاطعه فيها .. همست في توتر :
- لا أظنه سيعود .. هاجر منذ سنين ؛ فلما يعود الآن ؟
هتف حسام في استهجان :
- هل تمزحين ؟ .. تركة عمي ثروة مهولة لا أظن أن فاشلاً مثله سيتنازل عن حقه بها و يتجاهلها كما تجاهل والده من قبل .. أنا واثق من أنه سيكون هنا فور أن يعرف بنبأ وفاة عمي .
ترقرقت الدموع في عيونها ؛ و هي تهمس :
- كيف ستخبره ؟ .. انقطعت صلتنا به منذ أصر على احتراف لعبة كرة القدم ضد رغبة والده و سافر إلى أسبانيا .. هل لديك عنوانه هناك ؟
تأمل حسام وجهها في ضيق ؛ كان يغضبه أن يرَ الدموع التي تتلألأ في عينيها لأنه يعرف أنها ليست نفس الدموع التي كانت تذرفها منذ قليل على وفاة عمه .. هذه الدموع بسبب عمار و لأجله .. لا يصدق أن السنين لم تغير شعورها نحوه إلى الآن ؛ و أن الطبيبة الحاصلة على درجة الدكتوراة في جراحة المخ و الأعصاب من الممكن أن يكون لا يزال بين ضلوعها قلب مراهقة صغيرة تحلم بفارس أحلامها الذي خذلها و طار على بساط الريح وحده إلى أوروربا و لم يتوقف لينظر خلفه و لا حتى من أجلها ..
هتف حسام في برود :
- الحصول على عنوان لاعب كرة محترف و مشهور حتى بعد اعتزاله ليست مسألة صعبة يا سارة .. لكنني لم أبحث إلا على عنوانه الإلكتروني .. النجم له صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي بمختلف أنواعها و قد أرسلت له الخبر عليها جميعاً لذا أنتظر أن نجده أمامنا هنا خلال بضع ساعات على الأكثر .. و أظن أن علينا أن نستعد لهذا من الآن ؟
نهضت سارة و صعدت إلى غرفتها و هي تفكر في أن عودة عمار معناها الحتميّ أنها لا يمكنها البقاء في الفيلا أكثر من هذا و أن عليها أن تحزم أغراضها و تغادر فوراً لكنها لم تستطع أن تفعل هذا .. لأنها لا تعرف كيف تستطيع أن تقضِ ليلة واحدة بعيداً عن الفيلا و بها عمرو و قلبها معه .