كان ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم نقطة تحول في تاريخ البشرية تحولا غير وجه التاريخ ، وبدل الحياة على هذه الأرض. فميلاد محمد الإنسان ميلاد عبقري من نوابغ البشرية الذين تسعد الحياة بوجودهم بين الأحقاب والأجيال. فقد اختاره الله ليختم به وحيه إلى الأرض، ويكمل به رسالاته إلى الناس . فليس بعد صلى الله عليه وسلم نبي وليس قبل محمد من الأنبياء شبيه لمحمد ولا نظير لأن رسالة محمد عامة خالدة ورسالة من سواه من الأنبياء خاصة مؤقتة .
ونشا محمد صلى الله عليه وسلم طاهر النفس كريم الخلق ، نشأ أمينا على نفسه وأمينا في نفسه وأمينا بالنسبة للآخرين ، نشأ مجانبا للمذمومات، مجانبا للرجس وفي الصحيح انه حمل وهو غلام حجارة مع عمه العباس لبناء الكعبة ، فجعلها في إزاره فانكشف فسقط مغشيا عليه حتى استتر بإزاره ، ودعي إلى مجتمع وليمة فيها عرس ولعب فأصابه غشي النوم ، إلى أن طلعت الشمس ولم يحضر شيئا من شأنهم.
وسارت به الحياة نقية طاهرة وكأنها شرح وتفسير لما تذكرة بعض كتب السيرة من أنه في طفولته جاءه ملكان فشقا عن صدره ، واستخرجا منه خط الشيطان وملآه بالعلم والحكمة ، وخرجت به أمه لزيارة قبر أبيه في يثرب ، حيث لبث شهرا عند أخوال جده من بني النجار ، وأثناء عودتهم من مكة فوجئوا بعاصفة ملتهبة من عواصف الصحراء، ومرضت آمنة ولم تتحمل فتوفيت فدفنتها أم ايمن التي كانت ترافقها في الأبواء واستأنفت رحلتها مع محمد والحزن تكتظ به نفسه شاعرا في أعماقه باليتم الكامل لفقده أبويه جميعا، وكفله جده عبد المطلب لمدة سنتين في آخر حياته . وأوصى به عمه أبو طالب فكفله بعده وهو في الثامنة من عمره، وكان عمه أبو طالب تاجرا وصحبه في إحدى رحلاته ، ومحمد في الثانية عشرة من عمره ، ومضت القافلة بهما حتى بلغت بلدة تدعى بصرى بجوار دمشق وكان بها سوق يأتيه الناس من البلاد المحيطة بها للبيع والشراء. وكان بجوارها دير لراهب عربي من قبيلة عبد القيس يسمى بحيرا ، الذي قدم لرجال القافلة طعاما، ويجعل مؤرخو السيرة النبوية من لقاء محمد و بحيرى قصة يذكرون فيها انه رأى فيه علامات الرسالة الإلهية ، وحذر أبا طالب من رؤية اليهود له حتى لا يرموه بسوء لما يعلمون في التوراة من أمر رسالته ، وهنا يبالغ بعض المستشرقين في تصور هذا اللقاء بين محمد وبين الراهب ، إذ يزعمون انه عرفه العقيدة المسيحية ، وليس ذلك فحسب بل عرفه قصص جميع الأنبياء المذكورين في الكتاب المقدس ، مما ذكر في القران الكريم ،وهو افتراء شديد البهتان .
دحض هذا الافتراء:
إذ كيف يعقل أن غلاما لقي راهبا عابرا في أثناء رحلته ، مع قافلة قريشيه وعرف منه كل ما جاء في الكتاب وكان ذلك في عام 610 م . وبداية نزول الوحى على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أربعين عاما من ولادة رسول الله ، أي أن الوحي نزل على الرسول بسور القران بعد ثمانية وعشرين عاما من مقابلة الراهب بحيرا النصراني. فكيف يلقنه الراهب بحيرا وهو بعيد عنه مئات الأميال، ولم يقابله إلا مرة واحدة في حياته. وبعد هذه الرحلة عاد الرسول إلى مكة، ومضى بها من 582م ثم بعد ذلك هاجر إلى المدينة ومكث بها حتى 632م وهو العام الذي توفى فيه الرسول، وأيضا ألم يلاحظ كفار قريش وهم يراقبون الرسول ليلا ونهارا وجود الراهب بحيرا الذي يلقن الرسول سور القران كما يدعي المستشرقون وكذلك بعد أن هاجر الرسول إلى المدينة ونزل بها 28 سورة مدنية ، وكان بالمدينة أشد أعداء الرسول وهم اليهود من بني نينقاع وبني قريظة وبني النضير والمنافقون بقيادة عبد الله بن أبي بن سلول .ألم يلاحظ كل هؤلاء الأعداء وجود بحيرا بالمدينة وهو يلقن الرسول سور القران. إن ادعاء المستشرقين بأن القران كان يلقنه الراهب بحيرا للرسول ادعاء لا يصدقه أي عاقل في الدنيا. وليس له سند من التاريخ ولا دليل عليه.
طور الشباب:
ومن الحق أن يقال أن الشيطان لم يكن له حظ قط في حياة الرسول فكانت الحكمة واضحة في أفعاله وتصرفاته قبل البعثة . ولما بلغ طور الشباب تمثل فيه النضج الكامل ، والرجولة الرشيدة ، فقد كان صادقا في حديثه ، عطوفا على من حوله ، معينا للضعفاء ، يكتسب ثقة كل من يخالطه ولكل ذلك أحبته السيدة خديجة ، حيث لاحظت فيه عدم الانغماس في متاع الحياة الدنيا وزينتها ورأت فيه إمارات السمو الروحي وهذا السمو الروحي و العزوف عن اللذائذ المادية الفانية والاتجاه إلى الخلد . فقالت له "ابن عم إني قد رضيت بك لقرابتك لي ومكانتك في قومك وحسن قولك وصدق حديثك" وليس من الغريب ، إذا كان شخص بهذه المثابة من الطهر والذكاء أن تظله إذا سار سحابة تحجب عنه لهيب الشمس المحرقة فقد رافقته عناية الله ولاحظته ووجهته فكان أمة واحدة وسط هذا الضلال الديني والأخلاقي الذي يملأ على رجال مكة جميع أقطارهم من أجل ذلك سماه أهل مكة "الأمين. "
كان قلبه متجه إلى الله مهاجر إليه في كل لحظة ، وفي كل نفس من أنفاسه ،وفي كل طرفة عين ، وفي كل نبضة قلب ، وفي كل همسة من همسات الضمير، كانت حياته كلها لله ومع ذلك كان قلبه لا ينقطع من الرجاء والأمل أن يزول الظلام الذي يخيم فوق أرجاء مكة وتزول أصنام الضلال والجاهلية.
وفي ليلة من الليالي بينما كان الرسول معتكفا في غار حراء كعادته كل عام في شهر رمضان المبارك تحطم نهائيا ذلك الحاجز الذي يفصل بين الكسب البشرى الموفق من جانب والاصطفاء الإلهي الرباني من جانب آخر ، فاصطفاه الله واجتباه، وجاءه الملك فقال له" إقرأ ". ورجع الرسول فدخل على خديجة بنت خويلد رضى الله عنها قائلا زملوني ، فزملوه حتى ذهب عنه الروع ، فقال لخديجة وأخبرها الخبر : لقد خشيت على نفسي فمطمئنته و قالت له أن الله لا يخزيه أبدا. صلوات الله وسلامه عليك يا سيدي يا رسول الله. ومن ذلك الحين بدأت الدعوة، وبدأ العهد النبوي الذي أخرج الناس جميعا من الظلمات إلى النور.