hindawiorg

شارك على مواقع التواصل

مِن المدهش أن الإنجليز، الذين يُشاع عنهم أنهم شعبٌ عملي، لم يَلحظوا قطُّ الخطرَ المُحدِق
بهم؛ فلِسنواتٍ عديدة كانوا يُنفقون مِئات الملايين سنويٍّا على جيشهم وأسُطولهم. كانوا
يُطلِقون أسرابًا من المدرَّعات التي كلَّف كلٌّ منها مليونَين، وأنفقوا مبالغَ طائلةً على السفن
الحربية. وكانت أساطيل زوارق الطوربيد والغواصات الخاصة بهم غايةً في القوة، كما أن
قواتهم الجوية لم تكن بحالٍ من الأحوال أقلَّ بأسًا، لا سيما فيما يتعلَّق بالطائرات المائية.
علاوةً على كل ذلك، كان جيشُهم شديدَ الكفاءة، رغم أعداده المحدودة، وكان الأعلى إنفاقًا
في أوروبا. ومع ذلك حينما آنَ أوانُ التجرِبة، لم تكن لكل تلك القوة الغاشمة أيُّ جدوى،
وكأنها غير موجودة. لم يكن دمارهم الكُلِّي ليتحقَّق على نحوٍ أكملَ وأسرعَ إن لم يَملكوا أيَّ
مُصفَّحة أو كتيبة من الجنود. وكل هذا تحقَّق بفضلي أنا، الكابتن جون سيرياس، قبطان
بالقوات البحرية لواحدةٍ من أصغر القوات في أوروبا، وبالاستعانة بأسطولٍ صغير من
ثماني غواصات، لا تتعدَّى تكلفته الإجمالية مليونًا وثمانمِائة ألف جُنيه. ما من أحدٍ أحقُّ
برواية القصة مني أنا.
لن أزُعجَكم بحكاية النِّزاع حولَ حُدود المستعمرة التي غَصَّت بمرارة قتل اثنين من
المبشِّرين لاحقًا؛ فالضابط البحري لا شأنَ له بالسياسة. لم أدخل المشهد إلا بعد استلام
الإنذار النِّهائي بالفعل. استُدعي الأميرال هورلي للمُثول أمامَ الذات الملَكية، والْتَمس لي
الإذن بمرافقته؛ إذ تصادف أنه يَعرف أن لديَّ بعض الأفكار المبتكَرة حولَ نقاط ضعف
إنجلترا، وكذلك بعضالخُطط بشأن كيفية الاستفادة منها. لم يحضرهذا الاجتماعَ سوى
أربعتِنا؛ الملك ووزير الخارجية والأميرال هورلي وأنا. وقد بقيَ على المهلة التي يُتيحها الإنذارُ
ثمانٍ وأربعون ساعة.

لستُ أَشيبسِرٍّحين أقول إن الملك والوزير كانا يَميلان إلى الاستسلام؛ فهما لم يَريا أيَّ
إمكانية لمجابهة القوة الغاشمة لبريطانيا العُظمى. وقد أعدَّ الوزير مسوَّدةً لخطاب قَبول
الشروط البريطانية، وجلس الملك وهي أمَامه على المائدة. ورأيتُ دموع الغضب والإهانة
تنساب على خدَّيْه وهو ينظر إليها.
أخشىأننا لا نملك بديلًا ممكنًا يا مولاي؛ فقد أرسل لنا مبعوثنا في لندن » : قال الوزير
للتوِّ هذا التقرير الذي يوضح أن الرأيَ العامَّ والصحافة مُتَّفقَان على هذا كما لم يَعهدْهما
من قبل. فالشعور قوي، لا سيما منذ التصرُّف المتهوِّر الذي قام به مالورت حين دنَّس
«. العَلَم. نحن مُضطرُّون إلى الاستسلام
نظر الملك بحزنٍ إلى الأميرال هورلي.
«؟ ما حجمُ أسطولك الفعلي يا أميرال » : وسأل
«. بارجتان وأربع سفن حربية وعشرون زورقَ طوربيد وثماني غواصات » : رد الأميرال
هزَّ الملك رأسه.
«. ستكون المقاومةضَربًا من الجنون » : ثم قال
ولكن يا مولاي قبلَ أن تُصدِر قرارك أرجو أن تستمعَ إلى الكابتن » : فقال الأميرال
«. سيرياس؛ فلديه خُطةٌ مُحدَّدة للغاية لشنِّ حملة على الإنجليز
هُراء! ما الجدوى؟ هل تتخيَّل أنك تستطيع هزيمة أسطولهم » : رد الملك بنفادِ صبر
«؟ الضخم
مولاي، أرُاهن بحياتي أنك إذا اتَّبعت مشورتي فسوف تأتيك إنجلترا الأبيَّةُ » : قلت
«. راكعةً في غضون شهرٍ أو ستة أسابيع على الأكثر
كان صوتي مُفعمًا بالثقة؛ مما استرعى انتباهَ الملك.
«. تبدو واثقًا من نفسك يا كابتن سيرياس »
«. ليس لديَّ أدنى شك يا مولاي »
«؟ بمَ تنصح إذن »
أرى يا مولاي أن يُجمَع الأسطول بالكامل تحت حصون بلانكنبيرج، ويُحمى من »
الهجوم بالسلاسل الحديدية والرءوس الحربية. ويبقى هناك حتى نهايةِ الحرب. أما
«. الغواصات الثماني، فتتركها تحت مسئوليتي لأستخدمَها كيفما أشاء
«؟ آه، ستُهاجم البوارج الحربية الإنجليزية بالغواصات »
«. مولاي، أنا لن أقترب من أيِّ بارجةٍ حربية إنجليزية على الإطلاق »

«؟ ولمَ لا »
«. لأنها قد تصيبني يا مولاي »
«؟ يا إلهي! بحَّارٌ وتخاف »
حياتي فداءٌ لبلدي يا مولاي؛ إنها بلا قيمة. ولكن هذه الغواصات الثماني، يَعتمد »
«. عليها كلشيء، ولا أستطيع أن أجُازف بها. لن يدفعَنيشيء إلى القتال
«؟ ماذا ستفعل إذن »
وأخبرتُه بكلشيء. تحدَّثتُ لمدة نصفساعة. كنتُ واضحًا وقويٍّا «. سأخبرك يا مولاي »
وحاسمًا؛ فقد بذلت ساعاتٍ طويلةً في نوبات المراقبة التي كنتُ أقضيها وحيدًا في التفكير في
كل التفاصيل؛ فسلبتُ ألبابهم، ولم يَرفع الملك عينَيه عن وجهي قطُّ طوالَ المحادثة. وتجمَّد
الوزير في مقعده وكأنه تمثال حجري.
«؟ أأنت على يقينٍ من كل هذا »
«. على يقينٍ تامٍّ يا مولاي »
نهضالملك عن المائدة.
لا تُرسل ردٍّا على الإنذار. وأعلنوا في المجلسَين التشريعيَّين أننا سنقف راسخِين » : وقال
في مواجهة التهديد. أميرال هورلي، سوف تكون مسئولًا عن تلبية كل ما يَطلبه الكابتن
سيرياس لتنفيذ خُطته. أما أنت يا كابتن سيرياس، فالميدان خالٍ أمامَك. تقدَّم ونفِّذ ما
«. قلتَه. وثَمَّةَ ملكٌ مُقدِّر للجميل سيَعرف كيف يكافئك
لستُ في حاجة لأن أثُقِلَ عليكم بتفاصيل الإجراءات التي اتُّخِذت في بلانكنبيرج؛ نظرًا
لأن الحصن — كما تعرفون — والأسطول بأكمله قد دُمِّرا بالكامل على يد البريطانيين
في غضون أسُبوعٍ واحد من إعلان الحرب، وسوف أكتفي بسرد خُططي التي أَثمرت عن
نتيجةٍ غاية في العظمة والحسم.
ذاع صِيتُ غواصاتي الثماني، ألفا وبيتا وجاما وثيتا ودلتا وإبسلون وأيوتا وكابا، في
جميع أنحاء العالم، حتى إن الناس بدءوا يظنُّون أن هناك ما يُميِّز تصميمها وإمكانياتها.
لكن هذا غير صحيح؛ فصحيح أن أربعًا منها — دلتا وإبسلون وأيوتا وكابا — كانت
من أحدث طراز، ولكن كان هناك ما يُضاهيها (وليس ما يَفوقها) في القوات البحرية
الخاصة بكل القوى العُظمى. أما ألفا وبيتا وجاما وثيتا، فإنها لم تكن بأيِّ حالٍ من
الأحوال حديثة، وترجع نماذجها الأوَّلية إلى الغواصات البريطانية القديمة من الفئة
السادسة؛ إذ تبلغ إزاحتُها غاطسةً ثمانمِائة طن، مع وجود محرِّكات ديزل ثقيلة قُدرتها

ألف وستمِائة حصان؛ مما يجعل سرعتها على السطح ثمانيَ عشرة عُقدة، وفي الماء
اثنتي عشرة عقدة. كان طولها مِائةً وستٍّا وثمانين قدمًا، وعرضها أربعًا وعشرين قدمًا.
يَبلغ نصف قطر مداها أربعة آلاف ميل، وتتميز بقُدرة تحمُّل غوص تبلغ تسع ساعات.
كانت هذه الغواصات تُعتبر الأحدث في ١٩١٥ ، ولكن الغواصات الأربع الجديدة فاقتْها في
كل شيء. دون إزعاجك بالأرقام الدقيقة، أستطيع أن أقول إنها تَفوق الغواصات القديمة
بنسبةٍ قدرها خمسٌ وعشرون في المائة تقريبًا، وقد جُهزت بعدة محركاتٍ مساعِدة لم تكن
موجودة في الأخيرة. وبِناءً على اقتراحي، بدلًا من حمل ثمانيةٍ من طرابيد باكدورفالشديدة
الضخامة، التي يبلغ طولها تسع عشرة قدمًا، ووزنها نصفَ طن، وتُلقَّم بمِائتَي رطل من
قطن البارود المفرقع المبلَّل، استخدمنا أنابيبَ لثمانية عشر طوربيدًا يبلغ حجمها أقل من
نصف هذا الحجم. كانت خُطتي أن أجعلَ نفسي مستقلٍّا عن القاعدة تمامًا.
ومع ذلك، كان من الواضح أن عليَّ اتخاذَ قاعدةٍ ما؛ لذا بدأت على الفور في إجراء
الترتيبات اللازمة لبُلوغ هذا الهدف. كانت بلانكنبيرج آخرَ مكان يُمكن أن أختارَه. لماذا
يجب أن أختار مرفأً من أيِّ نوع؟ المرافئ تُراقَب أو تُحتَل. أي مكان سيصلح لي. وأخيرًا
اخترت فيلا صغيرة معزولة على بُعد حوالَيْ خمسة أميال من أقربِ قرية، وثلاثين ميلًا
من أقربِ مرفأ، وأَمَرتُ بأن يُوصلوا إليها سرٍّا في الليل زيتَ ديزل وقطعَ غيار، والمزيدَ
من الطوربيدات وبطاريات التخزين ومناظير الأفق الاحتياطية، وكل ما يُمكن أن أحتاجَه
لإعادة تجهيز الغواصات. فيلا صغيرة بيضاء كانت ملكًا لحلواني مُتقاعد، كانت تلك هي
القاعدة التي أدرتُ منها الحرب ضد إنجلترا.
كانت الغواصات قابعةً في بلانكنبيرج؛ ومن ثَمَّ توجهتُ إلى هناك. كان العمل على قَدمٍ
وساقٍ في الحصون، ولم يكن عليهم إلا أن ينظروا في اتجاه البحر ليَستنهضوا همتهم لبذل
المزيد من الجهد المفعَم بالنشاط؛ إذ كان الأسطول البريطاني على وشك التجمُّع. لم تنتهِ
مهلة الإنذار بعد، ولكن كان من الواضح أن الطلقات ستُدوِّي فورَ انتهائها. كانت تحوم
فوق حصوننا أربعٌ من طائرات العدو على ارتفاعٍ هائل لرصد تحرُّكاتنا. من أعلى المنارة
عدَدْتُ ثلاثين بارجة وسفينة حربية في عُرضالبحر، مع عددٍ من سفن الصيد التي يُمهِّد
بها الجيش البريطاني الطريقَ عبْر حقول الألغام. كانت المسارات مزروعةً بالفعل بمائتَي
لغم، نصفها ألغام اتصال مباشر(تنفجر فور لمس أي سفينة لها)، ونصفُها ألغام مراقبة،
ولكن النتيجة بيَّنَت أنها لم تكن كافية لصدِّ العدو؛ نظرًا لأن كلٍّا من المدينة والأسطول
سُرعان ما دُمِّرا بعد ثلاثة أيام.

إلا أنني لستُ هنا لرواية أحداث الحرب، وإنما لتوضيح الدور الذي أديتُه فيها، والذي
كان له تأثير حاسم على النتيجة. كان قراري الأول هو إرسال غواصاتي الأربع من الدرجة
الثانية فورًا إلى النقطة التي اخترتها لقاعدتي. وهناك تنتظر مغمورةً تحت الماء، راقدةً
بفعل الطَّفوية السلبية فوق الرِّمال على بُعد عشرين قدمًا، ولا ترتفع إلا ليلًا. وأصدرتُ
أوامري الصارمة بألا تُحاوِلَ مواجهة العدو بأيِّ شكل، مهما كانت الفرصة مُغرية. كان
كل ما عليهم أن يفعلوه هو أن يَبقَوْا سالِمين وغير مرئيين، إلى أن تصدر لهم أوامرُ أخرى.
وبعد أن أوضحت هذا الأمر للقائد بانسا، الذي كان مسئولًا عن هذا الأسطول الاحتياطي
الصغير، صافحتُه وودَّعته، معطيًا إياه ورقة صغيرة شرحت فيها التكتيكات التي ينبغي
استخدامها، ووضحت له بعض المبادئ العامة التي يستطيع تطبيقها حَسْبما تقتضي
الظروف.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.