hindawiorg

شارك على مواقع التواصل

والآن أوليتُ اهتمامي كله لأسطولي الصغير الذي قسمتُه إلى قسمين، مُبقيًا أيوتا وكابا
تحت قيادتي، وموَلِّيًا الكابتن ميريام قيادة الغواصتين دلتا وإبسلون. كان عليه أن يَعملَ
على نحوٍ منفصل في القناة البريطانية، بينما كنت أنا مستقرٍّا في مضيق دوفر. شرحتُ
له الخُطة بأكملها بوضوحٍ تام. وحرَصتُ على إمداد كل غواصة بكل ما تستطيع حَمله؛
فكانت كلٌّ منها تحمل أربعين طنٍّا من الديزل الثقيل للاندفاع فوق سطح الماء، وشحن المولِّد
الكهربائي الذي يُمدُّ المحركات بالكهرباء تحت الماء. كما تحتوي كل واحدةٍ على ثمانية عشر
طوربيدًا كما هو موضح، وخمسمِائة حزام طلقات للمَدافع السريعة الطلقات القابلة للطي،
زِنة الاثني عشر رطلًا، التي نحملها على السطح، والتي بطبيعة الحال تختفي في حاوية
مُحكَمة الإغلاق حين نغوص. كنا نحمل مناظير أفق احتياطية، وعمود إشارات لا سلكية
يمكن رفعه فوق برج القيادة عند الضرورة. كان ثَمَّةَ إمدادات تكفي لمدة ستة عشر يومًا
للرجال العشرة الموجودين على متن كل غواصة. كانت تلك هي تجهيزات الغواصات الأربع
التي كان يُفترضأن تُطيح بكل قوات بريطانيا البحرية والعسكرية. وعند غروب شمس
ذلك اليوم — العاشرمن أبريل — انطلقنا في رحلتنا التاريخية.
كان ميريام قد انطلق منذ الظهيرة؛ حيث كانت أمامَه مسافة أكبر لقطعها حتى يبلغ
موقعَه. أما ستيفان، قائد الغواصة كابا، فشرع في رحلته معي؛ ولكننا، بطبيعة الحال،
اكتشفنا أن علينا العمل على نحوٍ مُستقل، وأننا منذ لحظة إغلاق فتحتَي برجَي القيادة
المنزلقَيْن في مياه مرفأ بلانكنبيرج الساكنة، كان من غير المحتمل أن يرى أحدُنا الآخر مرةً
أخرى، رغم وجودنا في المياه نفسها. لوَّحتُ لستيفان من جانب برج مراقبتي، فلوَّح لي. ثم

اتصلت بالمهندس عبْر جهاز الإرسال (إذ كانت خزانات المياه قد امتلأت بالماء بالفعل، وكل
الفتحات قد أغُلقت) لكي ينطلق بالغواصة بسرعتها الكاملة.
فور اقترابنا من نهاية الرصيف ومُشاهدة الأمواج المتلاطمة المُزبِدة أمامَنا، أنزلت الدفة
الأفقية بعُنفٍ إلى أسفل فانزلقت الغواصة تحت الماء. ورأيتُ من خلال نوافذي المستديرة
الزجاجية اللونَ الأخضر الفاتح يتحوَّل إلى الأزرق الداكن، بينما يشير مقياس الضغط
المثبَّت أمامي إلى عشرين قدمًا. تركتها تغوصإلى أربعين قدمًا؛ لأنني بهذه الطريقة أكون
تحت بوارج الإنجليز، رغم أنني جازفت بإفساد حبال إرساء ألغام الاتصال المباشرالطافية
الخاصة بنا. ثم ثَبَّتُّ الغواصة، وكانت أصوات محرِّكاتها الكهربية اللطيفة، وحتى أصوات
طقطقتها، تبدو كلحنٍ جميل في أذني. وكنت سعيدًا أيَّما سعادة عندما عرَفت أنني أسير
بسرعة اثني عشر ميلًا في الساعة في مهمتي العظيمة.
في هذه اللحظة، وأنا أقف متحكمًا في رافعاتي في برج القيادة الخاص بي، كنت
سأرى الظلال الضخمة للسفن الإنجليزية المحاصِرة تحوم فوقي لو أن قُبَّتي كانت من
الزجاج.سرت في اتجاه الغرب لمدة تسعين دقيقة، ثم بإغلاق المحرك الكهربائي دون تفريغ
خزانات المياه، صَعِدتُ بالغواصة إلى السطح. كان البحر مائجًا والرياح مُنعشة؛ لذلك لم
أظن أنه من الأمان إبقاء فتحة الغواصة مفتوحة لفترةٍ طويلة؛ لأن هامش الطَّفوية شديد
الضآلة، ويجب عدم المجازفة. ولكن مِن فوق قمة الأمواج العالية ألقيتُ نظرةً للخلف على
بلانكنبيرج، ورأيت المداخن السُّود والأجزاء الظاهرة من سفن العدو، ومن خلفها المنارة
والحصن، ينعكس عليها الضوء الوردي للشمس الغاربة. وتناهى إلى مسامعي، وأنا أنظر،
صوتُ دَوِيِّ مدفع هائل، وتلاه آخر. نظرت إلى ساعتي فوجدتها السادسة. لقد انتهت مهلة
الإنذار، وبدأت الحرب.
لم تكن ثَمَّةَ مراكب بالقُرب منا، وسرعتنا فوق سطح الماء تبلغ تقريبًا ضِعفسرعتنا
تحته؛ لذلك رفعت ضغط الهواء في الخزانات لطرد المياه؛ فارتفع ظهر الغواصة المقوَّس
فوق سطح الماء. ظَلِلنا طوال الليل نتَّجه للجنوب الغربي، ورأيتُ بينما أقف وحيدًا فوق
مِنصتي الصغيرة، حين نظرت جهة الغرب، الأضواءَ المتناثرة لساحل نورفك. فقلت وأنا
آهٍ يا إنجلترا! ستُلقَّنين درسًا وسأكون أنا مُعلِّمَكِ. لقد اختِرتُ أنا لتعليمك » : أنظر إليها
أن المرء لا يستطيع الحياة تحت ظروفٍ اصطناعية ومع ذلك يتصرَّف كما لو كانت
«. طبيعية. المزيد من البصيرة يا إنجلترا، والقليل من السياسات الحزبية، هذا هو درسيلكِ
ثم انتابتني موجة من الشفقة أيضًا عندما فكرت في تلك الحشود العريضة من البؤساء،

عُمال المناجم بيوركشير، وعُمال النسيج بلانكشير، وصُناع الأدوات المعدنية، وعُمال الموانئ،
وعُمال لندن، الذين سأجعل شبح الجوع يُخيِّم على بُيوتهم الصغيرة. وبدا لي أني أرى كل
هذه الأيدي الهزيلة المتلهِّفة ممدودةً تستجدي الطعام، وأنا، جون سيرياس، أخُيِّب أملها.
آه، حسنًا! الحرب هي الحرب، والأحمق لا بد أن يدفع ثمن حماقته.
قبل بُزوغ الفجر بقليل رأيتُ أضواء مدينة كبيرة، لا بد أنها مدينة يارموث، تقع
على بُعد حوالَيْ عشَرة أميال غرب الجنوب الغربي على يَميننا. اجتزتُها من بعيد؛ لأن
ساحلها كان رمليٍّا خطيرًا، به الكثير من المناطق الضحلة. في الخامسة والنصف كنا قُبالة
منارة لوستوفت العائمة. وكان ثَمَّةَ واحد من خفر السواحل يُرسل إشاراتٍ ضوئيةً تلاشت
تدريجيٍّا مع زحف نور الفجر على الماء. كان يوجد عددٌ كبير من القوارب أمامَنا، معظمها
قوارب صيد وقوارب نُزهة صغيرة، بالإضافة إلى سفينة بُخارية كبيرة إلى الغرب، ومُدمِّرة
طوربيدية بيننا وبين الأرض. إنها لا تستطيع إيذاءنا، ولكنَّني فكرت أيضًا في أننا لا ينبغي
أن نعلن عن وجودنا؛ لذا ملأتُ خزاناتي مرةً أخرى، وغُصنا مسافة عشر أقدام. وسعدت
عندما وجدتُ أننا نزلنا في مِائةٍ وخمسين ثانية؛ فقد تعتمد حياة غواصتك على هذا عندما
تُداهمك سفينةٌسريعة بشكلٍ مفاجئ.
أصبحنا الآن على بُعد ساعاتٍ قليلة من مُستقَرِّنا؛ لذلك قرَّرتُ أن أنتهز الفرصة
وأستريح قليلًا، مخوِّلًا القيادة لفورنال. وعندما أيقظني في العاشرة كنا نُبحر على السطح،
ووصلنا إلى ساحل إسيكس قُبالة مابلين ساندز. أخبرَنا أصدقاؤنا في إنجلترا في صحفهم،
بتلك الصراحة الرائعة التي تُعَدُّ واحدةً منسِماتهم، أنهم وضعوا نطاقًا من زوارق الطوربيد
عبْر مضيق دوفر لمنع مرور الغواصات، وهو ما يُشبه وضع لَوْح خشبي عبر مجرًى مائي
لمنع ثعابين الماء من المرور. كنت أعرف أن ستيفان، الذي توجد محطته في الطرَف الغربي
من سولنت، لن يجدصُعوبة في الوصول إليها. أما محطتي أنا فكانت في مصبِّ نهر التيمز،
وها أنا ذا في البقعة عينها بغواصتي الصغيرة أيوتا، وطرابيدي الثمانية عشر، ومِدفعي
السريع الطلقات، وفوقَ كل هذا، عقلي الذي يعرف ما يجب القيام به وكيف يقوم به.
عندما استعدتُ مكاني في برج القيادة رأيتُ في مِنظار الأفق (لأننا كنا قد غُصنا) أن
ثَمَّةَ منارةً عائمة على بُعد بضع مِئاتٍ من الياردات على يَسارنا. كان يوجد رجلان يجلسان
على جدارها، ولكنَّهما لم يلمحا القضيب الصغير الذي يقطع الماء بالقُرب منهما. كان يومًا
مثاليٍّا لعمل الغواصة؛ إذ كان يوجد ما يكفي من الأمواج على السطح لتجعل اكتشافنا
صعبًا، ومع ذلك كان البحر هادئًا بما يكفي لجعل رؤيتي واضحة. كان كل مِنظار أفق

من مناظيري الثلاثة مائلًا بزاوية ستين درجةً بحيث أستطيع مراقبة نصف دائرة الأفق
بالكامل. كان ثَمَّةَ سفينتان حربيتان بريطانيتان تُبحران شمالًا من التيمز على مسافة
نصف ميل مني. كنت أستطيع بسهولةٍ أن أعزلَهما وأهاجمَهما لو كنتُ سمحتُ لنفسي
بالانحراف عن خُطتي الكبرى. وفي أقصىالجنوب كانت ثَمَّةَ مُدمِّرة تمرُّ في اتجاه الغرب
إلى شيرنس، ونحو عشرة قوارب بخارية تتحرَّك هنا وهناك. لم يكن أيٌّ من هذا يستحق
أن ألتفت إليه؛ فالبلدان العظيمة لا تُمَوِّنها القوارب البخارية الصغيرة. شغَّلتُ المحركات
على أقلسرعة تحافظ على موقعنا تحت الماء متحركًا ببطء عبْر مصبِّ النهر، وانتظرت ما
كان قادمًا لا محالة.
لم أنتظر طويلًا؛ فبعد الواحدة بقليلٍ رأيتُ في منظار الأفُق سحابةً من الدخَان جهةَ
الجنوب. وبعدها بنصف ساعة رَفعت سفينة بخارية كبيرة بدنها، متجهة إلى مصبِّ نهر
التيمز. أمرت فورنال بتجهيز أنبوب الطوربيد الأيمن، مع حشو الأنبوب الآخر تحسُّبًا
لحدوث خطأ في التصويب. ثم تقدمت ببطء؛ فعلى الرغم من أن السفينة البخارية كانت
تسير بسرعة بالغة، كنا نستطيع أن نقطع عليها الطريق بسهولة. وسُرعان ما ثبتُّ أيوتا
في موضعٍ لا بد أن تمر السفينة بالقرب منه، وكنت أحب البقاء فيه، لكنني لا أستطيع،
خوفًا من الارتفاع إلى السطح؛ لذا وجهت الغواصة في الاتجاه الذي كانت قادمة منه. كانت
سفينة كبيرة جدٍّا، خمسة عشر ألف طن على الأقل، مطلية باللون الأسود من أعلى وباللون
الأحمر من الأسفل، وبها مِدخنتان باللون الأصفر الفاتح. كانت مُنخفضة جدٍّا في المياه
بحيث كان واضحًا أنها مكتملة الشحنة. وكان يقف على مقدمتها مجموعة من الرجال،
بعضهم ينظر، فيما أظن، للمرة الأولى إلى بلده الأم. ما كان لهم أن يتخيَّلوا يومًا الترحاب
الذي ينتظرهم!
ها هي قادمة تمخُر عُباب الماء، وتَقسِم الأمواج البيضاء المُزْبِدة بمقدمتها، والأدخنةُ
الكثيفة تتصاعد من مِدخنتَيْها. كانت على بُعد ربع ميل. ها قد حانت اللحظة الحاسمة.
أعطيت إشارة ببلوغ السرعة القصوى، ووجهت الغواصة لمسار السفينة مباشرة. كان
توقيتي دقيقًا. أعطيتُ الإشارة عند الِمائة ياردة، وسمعتُ قعقعة وهسهسة إطلاق الطوربيد.
وفي اللحظة نفسها، أنزلتُ الدفة بعنف لأسفل، وانطلقتُ مبتعدًا بزاوية. حدثت هزة
عنيفة جرَّاءَ الانفجار البعيد. وللحظةٍ كادت الغواصة تميل على جانبها، ثم بعد الاهتزاز
والارتجاف، استعادت أيوتا توازنها في الماء؛ فأوقفتُ المحرِّكات وصعدتُ بها لسطح الماء،
وفتحتُ برج القيادة، بينما جاء كل أفراد طاقمي متحمِّسين لحجرة القيادة ليعرفوا ما
حدث.

خمَدت السفينة على بعد مِائتي ياردة منا، وكان من السهل أن نرى أنها قد تلقَّت
الضربة القاضية. كانت مؤخرتها مستقرة بالفعل على سطح الماء. وأصوات الصراخ تتعالى
منها، والناسيَجرُون بجنون على ظهرها. كان اسمها ظاهرًا، أديلا، من لندن، وكانت قادمة
— كما علمنا فيما بعد — من نيوزيلندا، محملةً بلحم الضأن المجمد. كانت فكرة الغواصة
لم تخطر حتى هذه اللحظة ببال ركاب السفينة قط، رغم أن هذا قد يبدو لك غريبًا، وكان
الجميع مُقتنعِين أنهم قد اصطدموا بلغمٍ بحري. كان الطوربيد قد فجَّر الجانب الأيمن،
والسفينة تغرق بسرعة. وكان انضباطهم وتدريبهم مثيرًا للإعجاب. رأينا قاربًا تلو الآخر،
يَنْسلُّ من السفينة، ويمتلئ بالركاب بسرعة وهدوء شديدَين، كما لو كان ما حدث جزء
من تدريبهم اليومي. وفجأة، بينما كان أحد القوارب يقف منتظرًا بقية القوارب، لمحوا
لأول مرة برج قيادة غواصتي شديد القرب منهم. ورأيتهم يَصيحون ويُشيرون إلينا، بينما
نهض الرجال في القوارب الأخرى ليَرَوْنا على نحو أفضل. من جهتي، لم أبالِ؛ لأنني كنت
مُسَلِّمًا بأنهم سيَعرفون لا محالة أن ثمة غواصةً هي المسئولة عن تدميرهم. وتسلَّق أحدهم
السفينة الغارقة مرة أخرى. كنت على يقين من أنه على وشك إرسال رسالة لا سلكية تُعلن
عن وجودنا. لم يكن الأمر يهمني في شيء؛ لأنهم سيعرفون في جميع الأحوال؛ ولولا ذلك
لأرديتُه قتيلًا في الحال برصاص بندقيتي بمنتهى السهولة. لوَّحت بيدي لهم، ولوَّحوا لي.
الحرب شيء هائل لدرجة لا تَسمح بوجود مساحة للضغائن الشخصية، ومع ذلك فيجب
أن تكون بلا رحمة.
كنتُ لا أزال أنظر إلى السفينة أديلا الغارقة عندماصرخ فورنال، الواقف بجواري،
فجأةصرخة تحذير ودهشة، وقبضعلى كتفي وأدار رأسي. هناك خلفنا، كان ثمة سفينة
سوداء ضخمة بمداخنَ سُود، ترفع علم شركة بي آند أوه الشهير. كانت على بُعد أقل من
ميل، وحسبت في لحظة أنها حتى إن رأتنا فلن تَمتلِك الوقت الكافي للاستدارة والابتعاد
قبل أن نصل إليها. لذا تقدمنا نحوها مباشرة، والماء يغمرنا كما كنا تمامًا. كانوا يرَوْن
السفينة الغارقة أمامَهم، وتلك النقطة الصغيرة السوداء تتحرك فوق سطح الماء، وفجأة
أدركوا الخطر المُحْدِق بهم. رأيتُ عددًا من الرجال يُسرعون لمقدمة السفينة، وتعالت أصوات
طلقات البنادق. تفلطَحت رَصاصتان إثر اصطدامهما بدرع غواصتنا البالغ سُمكُه أربع
بوصات. لو كان من الممكن صدُّ ثور هائج ببعضالكرات الورقية فلربما أَمكن بالمثل ردع
الغواصة أيوتا بطلقات البندقية. كنتُ قد تعلمت الدرسالذي لقَّنتْه لي السفينة أديلا، وهذه
المرة أطلقت الطوربيد وأنا على مسافة آمنة؛ مِائتان وخمسون ياردة. انفجر الطوربيد في

منتصف السفينة، وكان الانفجار مروِّعًا، ولكن كنا خارج نطاقه. وغرقت السفينة على
الفور تقريبًا. أشعر بالأسىحيالَ ركابها، الذين سمعتُ أن أكثر من مِائتين منهم — منهم
سبعون ملَّاحًا وأربعون راكبًا — غرقوا. نعم أشعر بالأسى حيالَهم، ولكني عندما أفكر في
الشَّوْنة العائمة التي غرقتْ لقاع البحر، أبتهج كما يفعل المرء حين ينفذ ما خَطَّط له.
كان يومًا سيئًا بالنسبة لشركة بي آند أوه. كانت السفينة الثانية التي دمَّرناها، وفقًا
لما عرفناه بعد ذلك، هي السفينة مولدافيا، التي تبلغ حمولتها خمسة عشرألف طنٍّا، واحدة
من أفضل سفنهم. ولكن في حوالي الثالثة والنصف فَجَّرنا السفينة كوسكو، ذات الثمانية
آلاف طن، من نفس الخط، أيضًا من الموانئ الشرقية، وكانت محمَّلة بالذُّرة. لا أستطيع
تخيُّل السبب الذي دفعها للتقدم رغم الرسائل اللاسلكية التي لا بد أنها قد حذرتها من
الخطر المُحْدِق. أما القاربان البخاريان الآخران اللذان فجرناهما في ذلك اليوم، ميد أوف
أثينز (خط روبسون) وكورمورانت، فكلاهما لم يكن مزوَّدًا بجهاز استقبال لاسلكي؛ لذا
اقتربا من حَتْفهما مثل العُميان. كان كلاهما صغيرَين تبلغ حمولتهما من خمسة آلاف إلى
سبعة آلاف طن. وفي حالة القارب الثاني، اضطُررتُ للصعود إلى السطح وإطلاق ستِّ
قذائف، زنة اثني عشر رطلًا تحت خط الماء الخاص به قبل أن يغرق. وفي كلتا الحالتين
هرب الملاحون بالقوارب، وعلى حدِّ علمي لم تحدث أيُّ وفَيَات.
بعد ذلك لم تأتِ أيُّ بواخر، ولم أتوقع أن تأتي أيٌّ منها. فلا جَرَم أن التحذيرات
بحلول هذا الوقت كانت تتطاير في كل الاتجاهات. ولكن لم يكن ثمة ما يُثير استياءنا
من يومنا الأول، فما بين مابلين ساندز ونور أغرقنا خمس سفن بإجمالي حمولة تصل
إلى نحو خمسين ألف طن. وستبدأ أسواق لندن في الشعور بالمأزق. وبنك لويدز — لويدز
البائس العتيق — يا لها من حالة جنون تلك التي ستَنتابه! أستطيع تخيُّل صحف المساء
في لندن والعواء في شارع فليت. لقد رأينا ثمرة عملنا؛ لأنه كان من المضحك جدٍّا مشاهدة
زوارق الطوربيد تطنُّ كالدبابير الغاضبة خارجة من شيرنس في المساء. كانت تتحرَّك في
كل اتجاه عبر مصب النهر، والطائرات الجوية والمائية كأسراب الغربان السُّود، مثل نقاط
سُود على صفحة سماء الغرب الحمراء، مَسَحَت مصبَّ النهر بأكمله، إلى أن اكتشفتنا في
النهاية. شخصٌحادُّ البصربتليسكوب على متن إحدى المدمِّرات لمح مِنظار الأفق الخاص
بنا، واتجه صوبنا بأقصى سرعة. لا شك أنه كان سيدُكُّنا دكٍّا بكل سعادة، حتى إذا كان
ذلك يعني تدميره هو شخصيٍّا، ولكن هذا لم يكن قطُّ جزءًا من خطتنا. هبطتُ بالغواصة
تحت سطح الماء، وسِرنا في اتجاه شرق الجنوب الشرقي بأقصىسرعة يَسمح بها الموقف.

وأخيرًا وصلنا بها إلى مكان ليس ببعيد عن ساحل كِنت، وكانت الأنوار الكاشفة لمتعقِّبينا
بعيدة عند الأفق الغربي. وهناك مكثنا بهدوء طوال الليل؛ فالغواصة أثناء الليل لا تتعدى
كونها زورق طوربيد من الدرجة الثالثة. إلى جانب أننا كنا جميعًا منهَكِين وفي حاجة إلى
الراحة. لا تنسَوا يا قادة البشر، عندما تُشحِّموا وتُجهِّزوا مِضخاتكم ومكابسكم وأجهزتكم،
أن الآلة البشرية تحتاج أيضًا لبعضالعناية.
رفعتُ عمود الإشارات اللاسلكية فوق برج القيادة، ولم أجد صعوبة في الاتصال
بالكابتن ستيفان. قال إنه مُستقر بغواصته قُبالة ساحل فنتنور، ولم يتمكَّن من بلوغ
محطته؛ نظرًا لحدوث عُطل في المحركات، كان قد أصلحه في الوقت الحالي. في الصباح
التالي، عَرَض أن يسدَّ طريق ساوثهامبتون. لقد دمَّر سفينة هندية ضخمة في طريقه
عبر القناة. تبادلنا الأمنيات الطيبة. كان هو أيضًا، مثلي، في حاجة إلى الراحة. ومع ذلك
استيقظتُ في الرابعة صباحًا، واستدعَيتُ الجميع للكشف عن أي عطل أو مشكلة في
الغواصة وإصلاحها. كانت مرفوعة نوعًا ما من مقدمتها، نتيجة استخدام الطوربيدات
الأمامية؛ لذا وازنَّاها بفتح الخزانات الأمامية، سامحين بدخول قدر من الماء يُساوي وزن
الطوربيدات التي أطلقناها. كما أصلحنا مِكبس الهواء الأيمن وأحد مواتير مِنظار الأفق
كان قد ارتجَّ من جرَّاء الصدمة الناجمة عن الانفجار الأول. لم نكَد نرتب أمورنا حتى بزغ
الصبح
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.