hindawiorg

شارك على مواقع التواصل

«؟ هل أنتَ القبطان » : سألته
لن أحُاول تَكرار ما قاله. «… بحق ال »
«؟ هل تحمل موادَّ غذائية » : قلت
إنها سفينة أمريكية، أيها الخنفساء العمياء! ألا ترى العَلَم؟ إنها فرمونديا » : فصرخ
«. من بوسطن
آسف أيها القبطان. ليس لديَّ وقت للكلام حقٍّا. هذه القذائف التي أطلقتُها » : رددتُ
ستأتي بزوارق الطوربيد، وأستطيع أن أقول في هذه اللحظة بالذات إن جهاز اللاسلكي
«. الخاصبك يُسبِّب لي المتاعب. أقنِع رجالك بركوب القوارب
كان عليَّ أن أثُبتَ له أنني لا أخادع؛ لذا انسحبتُ مبتعدًا، وبدأت في إلقاء القذائف عليه
على خط الماء تمامًا. وحينما صنعتُ ستَّ حُفَر في السفينة كان منشغلًا بقواربه. أطلقتُ

عشرين قذيفة إجمالًا، ولم تكن هناك حاجة لطوربيد؛ لأنها كانت مصابة بشدة من جهة
الميسرة؛ ولذا مالت على جانبها على الفور. ظلَّت على هذا الوضع لدقيقتَين أو ثلاثٍ قبل أن
تغرق. كان ثمة ثمانية قوارب مكتظة بالأفراد بجوار السفينة عندما غرِقت. أعتقد أنهم قد
أنقذوا الجميع، ولكنني لم أستطع الانتظار للتثبُّت من الأمر. كانت السفن الحربية العقيمة
العتيقة البائسة تلهث قادمة من جميع الأنحاء. فملأتُ خزاناتي، وانطلقت من تحتها، ثم
صعدتُ بعد خمسة عشر ميلًا جهة الجنوب. بالطبع كنتُ أعلم أنه سيكون هناك جَلَبة
كبيرة لاحقًا — كما حدث بالفعل — لكن هذا لم يُفِد الحشود المتضوِّرة جوعًا التي أحاطت
بأصحاب المخابز بلندن، هؤلاء الشياطين البائسين، الذين نجَوْا بأنفسهم عندما أوضَحوا
للغوغاء أنهم لا يملكون شيئًا لتقديمه لهم.
بحلول هذا الوقت كنت مُتشوِّقًا، كما قد تتخيَّل، لمعرفة ما يحدث في العالم وما تراه
إنجلترا بشأن كل هذا. من هذا المنطلق، انطلقتُ بمحاذاة مركب صيد وأمرتُهم بتسليم
الجرائد التي بحوزتهم. لسوء الحظ لم يكن لديهم أي جرائد، فيما عدا قصاصة من جريدة
مسائية لم يكن بها سوى أخبار المراهنات. وفي محاولة ثانية صادفتُ مجموعة على متن
يخت من إيستبورن، كانوا على وشك الموت رعبًا من ظهورنا المفاجئ من الأعماق. وكنا
سعداء الحظ لحصولنا على جريدة لندن كوريير الصادرة هذا الصباح نفسه.
كان ما قرأته مُثيرًا؛ مثيرًا لدرجة أنني نقلتُه بالكامل لطاقمي. أنت تعرف، بالطبع،
الأسلوب البريطاني في كتابة عناوين الصحف والذي يعطيك الخبر كله في لمحة خاطفة.
بدا لي أن الجريدة كلها عناوين رئيسية، مفعمة بالإثارة. لم تكن هناك أية كلمة عني وعن
أسطولي الصغير. كنا في الصفحة الثانية. بدأ الخبر الأول بشيء كهذا:
احتلال بلانكنبيرج!
  
تدمير أسطول العدو!
  
حرق المدينة!
  
سفن الصيد تُدمر حقل الألغام!

فقد بارجتين حربيتين!
  
أهذه هي النهاية؟
بالطبع، حدث ما توقعتُه؛ فقد احتلَّ البريطانيون المدينة بالفعل. وظنُّوا أنها النهاية! سنرى
بهذا الشأن.
في الصفحة التالية مباشرة، خلف المقالات الافتتاحية الملأىَ بالعبارات الرنانة المتألِّقة،
كان ثمة عمود صغير مكتوب فيه:
غواصات عدائية
يَقبع عدد من غواصات العدو في البحر، وهذه الغواصات أوقعت بسفننا التِّجارية
بعضالخسائر الضخمة. ويبدو أن مواضع الخطر في يوم الإثنين، والجزء الأكبر
من يوم الثلاثاء، هي مصبُّ نهر التيمز والمدخل الغربي لمضيق سولنت. في يوم
الإثنين، ما بين نور ومارجيت، أغُرِقت خمس سفن بخارية كبرى؛ وهي أديلا
ومولدافيا وكوسكو وكورمورانت وميد أوف أثينز، وستجد المزيد من التفاصيل
أدناه. بالقرب من فنتنور، في اليوم نفسه، أغُرقت سفينة فيرولام، من بومباي. أما
في يوم الثلاثاء، فدُمِّرَت فيرجينيا وسيزار وكينج أوفذا إيست وباثفايندر ما بين
فورلاند وبولوني. جدير بالذِّكر أن السفن الثلاث الأخيرة في الحقيقة كانت راسية
في المياه الفرنسية، وقد شجبَت حكومة الجمهورية الفرنسية بشدة ما حدَث. وفي
اليوم نفسه، دُمِّرت ذا كوين أوف شيبا وأورونتس وديانا وأتلانتا بالقرب من
نيدلز. هذا وقد مَنعت الرسائل اللاسلكية كل سفن الشحن الداخلة من الاقتراب
من القناة، لكن للأسف ثمة أدلة على أن غواصتَين على الأقل من غواصات العدو
قابعتان جهة الغرب. علاوة على ذلك، أغُرقت مساء أمسأربع سفن لنقل الماشية
من دبلن إلى ليفربول، بينما فُجِّرت ثلاث بواخر بريستول-باوند، وهي ذا هيلدا
وميركوري وماريا توسربجوار جزيرة لاندي. وقد حُوِّلت التجارة، بقدر الإمكان،
إلى قنواتٍ آمِنة، ولكن في الوقت نفسه، رغم الإزعاج الذي سبَّبتْه هذه الحوادث،
ورغم الحزن الذي سبَّبته لكل من مالكي السفن ولبنك لويدز على حدٍّ سواء، لنا
أن نُعزيَ أنفسنا بفكرة أنه بما أن أي غواصة لا تستطيع البقاء في البحر أكثر

من عشرة أيام دون إعادة ضبط، وبما أن القاعدة قد احتُلَّت، فلا جَرَم أن هذه
الأعمال التدميريةسُرعان ما ستصل إلى نهايتها.
يكفينا هذا القدْر من رواية الكوريير لما فعلناه. ولكن فيما يلي فقرة صغيرة أكثر بلاغة:
حُدِّدَ سعر القمح — الذي وقف عند خمسة وثلاثين شلنًا منذ أسبوع قبل
إعلان الحرب — بالأمس في مِنطقة بحر البلطيق، باثنين وخمسين شلنًا. وارتفع
سعر الذُّرة من واحد وعشرين إلى سبعة وثلاثين، بينما ارتفع سعر الشَّعير من
تسعة عشرإلى خمسة وثلاثين، والسكر المحبَّب من أحد عشرشلنًا وثلاثة بنسات
إلى تسعة عشر شلنًا وستة بنسات.
حسنًا يا رجال! أؤكد لكم أن هذه السطور القليلة تعني » : قلت لطاقمي عندما قرأتُها لهم
أكثر بكثير من الصفحة الكاملة عن سقوط بلانكنبيرج. والآن دعونا نتجه إلى القناة، ونرفع
«. هذه الأسعار أكثر قليلًا
توقفتْ حركة الإبحار كلها إلى لندن — ليس هذا خبرًا سيئًا جدٍّا بالنسبة للغواصة
أيوتا الصغيرة — ولم نرَ أي باخرة تستحقُّ إطلاق طوربيد عليها ما بين دانجنيسوجزيرة
وايت. عندئذ اتصلت بستيفان لا سلكيٍّا، وبحلول السابعة كنا مُتجاورين في البحر الهادئ
الموج، لدى هنجستبيري هيد في اتجاه الشمال الغربي، وعلى بُعد حوالَيْ خمسة أميال. اجتمع
الطاقمان على ظهر الغواصتين، وتصايَحوا بسعادة لرؤية وجوهٍ صديقة مرة أخرى. أبلى
ستيفان بلاءً حسنًا. كنت بالطبع قد قرأت في الجريدة اللندنية عن سفنِه الأربع يومَ الثلاثاء،
ولكنه أغرق سبع سفن على الأقل منذ ذلك الحين؛ لأن كثيرًا من السفن التي كان يُفترضأن
تدخل نهر التيمز حاولت الوصول إلى ساوثهامبتون. ومن بين السفن السبع، كانت هناك
سفينة بحمولة عشرين ألف طن محملة بالحبوب من أمريكا، وأخرى سفينة حبوب من
البحر الأسود، وأخريان كانتا سفينتَيْ شحن ضخمتين من جنوب أفريقيا. هنأتُ ستيفان
من كل قلبي على إنجازه الباهر. بعد ذلك؛ نظرًا لرصد مدمِّرة لنا واقترابها منا بسرعة
كبيرة، غاص كلانا، وصعدنا مرة أخرى قُبالة نيدلز؛ حيث قضَينا الليل معًا. لم نستطع
التزاور؛ نظرًا لأننا لم نملك قاربًا، ولكننا قبعنا متجاورَيْن تمامًا بحيث تمكنَّا أنا وستيفان
من الحديث من برجَيْنا والاتفاق على خُططنا.
كان قد أطلق أكثر من نصف طوربيداته، وأنا أيضًا، ومع ذلك كنا نُحجم عن العودة
إلى قاعدتنا ما دام زيت الديزل لم ينفَدْ بعد. أخبرتُه عن تجرِبتي مع باخرة بوسطن، واتفقنا

على إغراق السفن بالمدافع في المستقبل كلما أمكنَنا ذلك. أذكر أن هورلي العجوز كان يقول:
كنا على وشك أن نُريَه فائدته. قرأتُ الجريدة الإنجليزية «؟ ما فائدة مِدفع على متن غواصة »
لستيفان على ضوء مِصباحي الكهربي، واتفق كلانا على أن سفنًا قليلة ستمرُّ الآنَ بالقناة.
تلك الجملة عن تحويل التجارة إلى طرقٍ آمَنة، لا يُمكن أن تَعنيَ إلا أن السفن الآنَ سوف
تلفُّ حولَ شمال أيرلندا، وتُفرغ شحنتها في جلاسكو. أوه، غواصتان أخريان لقفل ذلك
المدخل! يا للسماء، ماذا كانت لتفعل إنجلترا في مواجهة عدوٍّ يَمتلك ثلاثين أو أربعين
غواصة، ونحن الذين نحتاج إلى ستِّ غواصات بدلًا من أربع لتدميرها بالكامل! بعد حديث
طويل قررنا أن أفضل خُطة هي أن نُرسل برقية بالشفرة في الصباح التالي من ميناء فرنسي
لإخبارهم بإرسال الغواصات الأربع من الفئة الثانية للتجول قُبالة شمال أيرلندا وغرب
اسكتلندا. وعندما أفعل ذلك أتحرَّك ناحية القناة مع ستيفان ونعمل عند مصبِّ النهر، في
حين تعمل الغواصتان الأخريان في البحر الأيرلندي. بعد أن وضعنا هذه الخُطط، انطلقتُ
عبر القناة في الصباح الباكر، إلى أن وصلتُ لقرية إتريتا الصغيرة في بريتاني، وهناك أرسلتُ
برقيَّتي ثم اتخذتُ طريقي إلى فالموث، مارٍّا تحت سفينتين بريطانيتين تُسرعان نحو إتريتا،
بعد أن سَمِعتا باللاسلكي أننا هناك.
في مُنتصف الطريق في القناة واجهنا عُطلًا في محركاتنا الكهربية، واضطُررنا للإبحار
فوق سطح الماء لعدة ساعات، بينما نغير أحد أعمدة الحدبات، ونجدِّد بعض الوصلات.
كان وقتًا حَرِجًا، فلو فاجأنا زورق طوربيد لما تمكَّنا من الغوص. ستَمتلك غواصةُ المستقبل
الكاملة بالتأكيد بعض المحرِّكات البديلة لمثل هذه الحالات الطارئة. على أيِّ حال بفضل
مهارة المهندس مورو، استأنفنا العمل مرة أخرى. طوال الوقت الذي قضَيناه هناك كنتُ
أرى طائرة مائية تطفو بيننا وبين الساحل البريطاني. أستطيع أن أفهم شعور فأر عندما
يكون في كومة من الحشائش، ويرىصقرًا يُحلِّق فوقه في السماء. إلا أن كلشيء مرَّ بسلام؛
وأصبح الفأر جُرَذًا مائيٍّا، وهز ذيله ساخرًا من الصقر العجوز الأعمى المسكين، وغاصفي
عالم أخضرَآمِن لطيف هادئ، حيث لا يوجد ما يؤذيه.
عبرتْ أيوتا إلى إتريتا في مساء الأربعاء. ووصلْنا إلى وِجهتنا الجديدة في ظَهيرة يوم
الجمعة. لم أرَ خلال طريقنا إلا سفينةً بخارية واحدة كبيرة؛ إذ تَسبَّب الفزع الذي سبَّبناه
في إخلاء القناة. وكان على متن هذه السفينة الضخمة قبطانٌ ماهر. كانت خُططه ممتازة
وأوصلتْه آمنًا إلى نهر التيمز. جاء في مسار متعرِّج عبر القناة بسرعة خمسوعشرين عُقدة،
منحرفًا عن مساره في كل الزوايا غير المتوقَّعة. لم نستطع بسرعتنا البطيئة أن نلحَق به،

كما لم نستطع أن نحسب الخط الذي يسير عليه حتى نقطعَه. بطبيعة الحال، لم يكن قد
رآنا قطُّ مِن قبل، ولكنه قدَّر، وكان تقديره صائبًا، أنه حيثما نوجد فذلك هو التكتيك الذي
يَزيد من فرصهروبه. لقد استحقَّ النجاح الذي حقَّقه عن جدارة.
لكن بالطبع لا يُمكن تنفيذ هذه الخُطة إلا إذا كانت القناة واسعة. ولو كنتُ قد
قابلتُه في مصبِّ نهر التيمز لاختلفَتِ القصة تمامًا. لدى اقترابي من فالموث دَمَّرتُ سفينة
بحمولة ثلاثة ألاف طن من كورك، محملة بالزُّبد والجُبن. كان هذا هو إنجازي الوحيد لمدة
ثلاثة أيام.
في تلك الليلة (يوم الجمعة الموافق السادسعشرمن أبريل) اتَّصلتُ بستيفان، ولكنني
لم أتلقَّ ردٍّا. ونظرًا لأنني كنتُ على بُعد أميال قليلة من مكان لقائنا، وبما أنه لن يُبحِر
ليلًا، كنت متحيرًا في تفسيرصمته. كان التفسير الوحيد الذي استطعت تخيُّله هو أن جهاز
اللاسلكي الخاصبه معطَّل. ولكن، يا حسرتاه!
سُرعان ما اكتشفتُ حقيقة السبب من نسخة جريدة ويسترن مورنينج نيوز التي
حصلتُ عليها من مركب صيد من مدينة بريكسام. كانت الغواصة كابا وقائدها وطاقمها
الشجاع في قاع القناة الإنجليزية.
يبدو من هذه الرواية أنني بعد أن فارقتُه قابَل وأغرَق خمس سفن على الأقل. حسِبتُ
أن هذا من عمله لأنها كلها هوجمت بالمدافع، وكلها كانت على الساحل الجنوبي لدورست
إغراق غواصة » وديفون. كُتبت الطريقة التي لقيَ بها مَصرعه في برقية قصيرة بعنوان
وحدث ما يلي: ،« فالموث » كانت الغواصة في طريقها إلى .« معادية
أتت سفينةُ البريد التابعة لشركة بي آند أوه، والتي يُطلَق عليها ماسيدونيا، إلى
هذا الميناء مساءً أمس بخمسة ثقوب ناجمة عن قذائف في الجزء الظاهر من
بدن السفينة. ذكرت السفينة أنها هوجمت من قِبَل غواصة معادية على بُعد
عشرة أميال من ليزارد في اتجاه الجنوب الشرقي. بدلًا من أن تستخدِم الغواصة
طوربيداتها، لسبب ما اقتربت الغواصة من سطح الماء، وأطلقت خمس قذائف
من مِدفع نصف أوتوماتيكي بقذائف زنة اثني عشررطلًا. يبدو أنها كانت تظن
أن السفينة ماسيدونيا غير مسلحة. في حقيقة الأمر، نظرًا للتحذير من وجود
غواصات في القناة الإنجليزية، حملَت ماسيدونيا على متنها تسليحها كسفينة
حربية مساعِدة. فتحت السفينةُ النيران بمِدفعين رشاشين سريعَيِ الطلقات،
وأطاحت ببرج قيادة الغواصة. ومن المحتمل أن تكون القذائف قد اخترقتْها

تمامًا؛ إذ إنها غرِقت على الفور مفتوحة المنافذ. لقد حافظتْ ماسيدونيا على
حياتها بفضل أسلحتها.
كانت هذه هي نهاية الغواصة كابا، ونهاية صديقي الباسل القائد ستيفان. كان أفضل
وكُتب فيه: .« مارك لين » نَعْي له مكتوبًا في ركن من نفس الصحيفة، بعنوان
. قمح (متوسط) ٦٦ ، ذرة ٤٨ ، شعير ٥٠
حسنًا، إذا كان ستيفان قد رحل عن عالمنا فهذا سبب أدعَى لِأن أرفعَ درجة نشاطي.
وضعتُ خُططي بسرعة، ولكنها كانت خُططًا شاملة. طوال ذلك اليوم (السبت) كنت
أمرُّ أمام ساحل كورنوول وحول لاندس إند، وصادفتُ سفينتَين بخاريتين في طريقي. لقد
تعلمت من مصير ستيفان أن من الأفضل تفجير السفن الكبيرة بالطوربيدات، ولكنَّني كنت
أعلم أن السفن الحربية المساعِدة للحكومة البريطانية كانت جميعها فوق عشرة آلاف طن؛
لذا كان من الآمن استخدام المدافع مع كل السفن تحت هذا الحجم. كلتا السفينتَين، يللاند
وبلايبوي—والأخيرة سفينة أمريكية—كانتا غير مسلحتَين؛ لذا ظهرتُ على بعد مِائة ياردة
منهما، وأغرقتهما بسرعة، بعد أن سمحتُ لأفرادهما بالخروج في قوارب. كانت توجد بعض
السفن البخارية الأخرى أبعد قليلًا، ولكنني كنتُ مُتحمِّسًا جدٍّا لتنفيذ ترتيباتي الجديدة،
حتى إنني لم أَخرُج عن مساري لمهاجمتها. إلا أنه قبل غروب الشمس مباشرة أتت فريسةٌ
رائعة في مرمى نيراننا حتى إنني لم أكن لأستطيع رفضها. ما من بحار يَعجِز عن اكتشاف
ملكة البحار هذه، بمداخنها الصفراء الفاتحة المكلَّلة بالسواد، وجوانبها السوداء الضخمة،
وجوفها الأحمر وحبالها البيضاء العالية، وهي تمخَر عُباب القناة بسرعة ثلاث وعشرين
عُقدة، وتحمل حمولتها البالغة خمسة وأربعين ألف طن، كما لو كانت زورقًا بخاريٍّا
يحمل خمسة أطنان. كانت سفينة أولمبيك الملَكية، من شركة وايت ستار، التي كانت يومًا
أكبر باخِرة، وما زالت حتى الآن أجمل باخرة تراها عينُك. يا لِجمال صورتها، ومياه البحر
الزرقاء تُزبِد حول مقدمتها العملاقة، وسماء الغرب الوردية التي يُضيئها نجم واحد تُشكِّل
خلفية رائعة لمسارها النبيل.
كانت على بُعد نحو خمسة أميال حين هبَطْنا لقطع طريقها. كانت حساباتي دقيقة.
وبينما كنا نقترب منها أطلقنا طوربيدًا انفجر فيها على نحو مُروِّع. أدى اهتزاز الماء
العنيف إلى جعلنا نلفُّ حولَ أنفسنا. ورأيتُها عبر مِنظار الأفق تَنقلِب على جانبها، وعرَفت
أنها قد تلقَّتْ ضَربتها القاضية. استقرَّت السفينة ببطء، وكان هناك متسع من الوقت

لإنقاذ الركاب الموجودين على متنها. وها هي قواربها تتناثر في البحر كنقاطصغيرة. عندما
ابتعدتُ مسافة ثلاثة أميال صعدتُ إلى السطح، وتجمع طاقم الغواصة بالكامل لمشاهدة
المشهد الرائع. لقد غمر الماء مقدمة السفينة، وحدث انفجار رهيب، أدى إلى طيران إحدى
مداخنها في الهواء. أعتقد أننا كان يُفترضأن نَبتهِج ونهلل، ولكن لسببٍ ما لم يَشعُر أيُّنا
بالابتهاج. كنا جميعًا بحارين مخلصين، وأثقلَ قلوبَنا جميعًا أن نرى مثل هذه السفينة
تَغرق كقشرة بيضة مكسورة. أَعطيتُ أوامري بغِلظة، وسُرعان ما كان الجميع في مواقعهم
مرة أخرى بينما نتجه للشمال الغربي. بمجرد أن دُرنا حول لاندسإند اتصلتُ بالغواصتين
الرفيقتَين، وتقابلنا في اليوم التالي في هارتلاند بوينت، النهاية الجنوبية لخليج بيديفورد.
كانت القناة في ذلك الوقت آمنة تمامًا، ولكن ما كان للإنجليز أن يعرفوا ذلك، وحسبتُ أن
فقد السفينة أولمبيك سيوقف السفن كافةً لمدة يوم أو يومَين على الأقل.
اجتمعتُ بالغواصتين دلتا وإبسلون، كلٌّ في ناحية، وحصلت على تقرير من ميريام
وفار، قائدَي الغواصتين على الترتيب. استهلك كل منهما اثني عشر طوربيدًا، وأغرقا معًا
اثنين وعشرين سفينة بخارية. قُتل رجل على متن الغواصة دلتا بفعل الآلات، وتعرَّض
اثنانِ لحروق بسبب اشتعال بعض النفط على متن إبسلون. أخذتُ الرجلَين المصابين على
متن غواصتي، وأعطيتُ كل غواصة واحدًا من رجالي. كما قسمتُ النفط الاحتياطي والمؤن
والطوربيدات الخاصة بي بينهما، رغم الصعوبة الشديدة التي واجهَتْنا لنقلها من غواصةٍ
للثانية. على أيِّ حال، بحلول الساعة الثانية كنا قد انتهينا، وكانت الغواصتان في حالةٍ
تسمح لهما بالبقاء في البحر لعشرة أيام أخرى. أما بالنسبة لي، فبالطوربيدان الوحيدان
اللذَين بحوزتي، توجهت شمالًا عبر البحر الأيرلندي. استهلكتُ واحدًا من الطوربيدين في
ذلك المساء، على سفينة نقل مَواشٍ كانت تتجه لميلفورد هافن. وفي وقت متأخر من الليل،
عندما اقتربتُ من هوليهيد، اتصلْتُ بالغواصات الأربع الشمالية، لكن دون أن أتلقى ردٍّا.
كان نطاق جهاز اللاسلكي الخاصبها محدودًا للغاية. وفي حوالَي الثالثة عصراليوم التالي
تلقيتُ ردٍّا ضعيفًا. تنفستُ الصُّعَداء حين وجدت أن تعليماتي الموجزة قد وصلت لهم،
وأنهم باقون في مواقعهم. وقبل حُلول المساء كنا قد تجمَّعنا في جزيرة ساندا، في مول
أوف كينتاير. شعرت أنني أميرال حقيقي عندما شاهدتُ غواصاتي الخمسمصفوفة. كان
تقريرُ بانسا ممتازًا. كانوا قد أتَوْا عبر بنتلاند فيرث، ووصلوا إلى وجهاتهم في اليوم الرابع.
وقد دمروا بالفعل عشرين سفينة دون أي حوادث مؤسفة. أمرتُ الغواصة بيتا بتقسيم
نفطها وطوربيداتها بين الثلاث الأخريات، بحيث تتحسَّن حالتهم ليتمكنوا من الاستمرار

في جولاتهم. ثم توجهنا أنا وبيتا للوطن، ووصلنا إلى قاعدتنا بحلول يوم الأحد الموافق
٢٥ أبريل. وقُبالة رأس راث حصلت على جريدة من مركبشراعي صغير.
ماذا تعني المعارك والقصف بالمقارنة بذلك! «. قمح، ٨٤ ؛ ذرة، ٦٠ ؛ شعير، ٦٢ »
كان ساحل نورلاند بالكامل محاصَرًا حصارًا شديدًا بنطاقٍ داخلَ نطاقٍ من السفن
الحربية، وكل الموانئ، حتى أصغرها، محتلة من قبل البريطانيِّين. ولكن ما الذي سيدعوهم
إلى الشك في فيلتي المُتواضعة المملوكة لحَلْواني أكثر من أي منزل آخر من العشرة الآلاف
منزل المواجهة للبحر؟ كنتُ سعيدًا حينما شاهدتُ واجهتها البيضاء البسيطة في مِنظار
الأفق الخاص بي. في تلك الليلة رسَوْت ووجدتُ مؤني على حالتها لم تُمسَّ. قبل طلوع
الصبح أفادت بيتا بحضورها؛ لأننا أضأنا النوافذ كمرشد.
لا يحقُّ لي أن أسرد الرسائل التي وجدتُها تنتظرني في مقري المتواضع. ستظل دائمًا
دليلًا جليٍّا على نُبل عائلتي. ومن بين الرسائل كانت هناك تلك الرسالة التي لا تُنسى، التي
حيَّاني فيها الملك. طلب مني أن أمثُل أمامَه في هوبتفيل، ولكن لأول مرة آليتُ على نفسي
أن أعصيَأوامره. استغرق الأمر مني يومين — أو على الأحرى ليلتَين — لأننا غُصنا أثناءَ
ساعات النهار؛ لجلب كل مؤننا على متن الغواصتين، ولكن حضوري كانضروريٍّا في كل
دقيقة منها. في الصباح الثالث، في الرابعة، كانت الغواصة بيتا وغواصتي الصغيرة التي
تحمل القائد في البحر مرة أخرى، متجهين إلى محطتنا الأصلية قُبالة مصبِّ نهر التيمز.
لم يكن لديَّ وقت لقراءة صحفنا أثناءَ تجهيز الغواصات، ولكنني جمعت الأخبار
بعد أن أبحرنا. لقد احتل البريطانيون كل موانئنا، ولكن بخلاف ذلك لم يمسَّنا سوءٌ على
الإطلاق؛ نظرًا لأننا نَملِك سككًا حديدية ممتازة تُوصِّلنا بكل أوروبا. تغيرت الأسعار قليلًا،
واستمرت صناعاتنا كما كانت. كان ثمة حديثٌ عن غزوٍ بريطاني، ولكنَّني كنت أعلم أن
هذا هُراء؛ لأنه من المؤكد أن البريطانيين قد عَرفوا الآنَ حقَّ المعرفة أن إرسال سفن مَلأىَ
بالجنود للبحر في مواجهة غواصات هو مَحْض انتحار. عندما يكون لديهم نفق يُمكنهم
استخدام قوات الحملات المتقدمة الخاصة بهم على البر الرئيسي لأوروبا، ولكن إلى أن
يحدث هذا، فمن الأفضل لها ألا تكون موجودةً داخل أوروبا. لذا فإن بلدي كانت في وضع
جيد وليس لديها ما تخشاه. أما بريطانيا العظمى، فهي لا تزال تشعر بقبضتي تُمسِك
برقبتها. ففي الأوقات الطبيعية تستورد بريطانيا أربعة أخماس المواد الغذائية، والأسعار
ترتفع بقفزات سريعة. وقد بدأَت تظهر علامات النضوب على المؤن الموجودة في البلد، في
حين أن المؤن القادمة لتحلُّ محلَّ المُستهلَكة قليلة. وقد ارتفعت التأمينات في لويدز لرقمٍ

جعل سعر الغذاء شديد الغلاء على الأغلبية العظمى من الشعب، عندما يصل إلى السوق؛
فالرَّغيف، الذي كان يُباع في الظروف العادية بخمسة بنسات، قد أصبح بِشِلن وبنسَيْن.
واللحم البقري بثلاثة شلنات وأربعة بنسات للرطل، ولحم الضأن بشلنين وتسعة بنسات.
وجميع السلع الأخرى ارتفعت أسعارها بنفس النِّسَب. اتخذت الحكومة إجراءات نشطة،
وخصَّصت مساحة كبيرة من الأرض لزراعتها بالذرة على الفور. ومع ذلك، لن يُمكِن
حصدها قبل خمسة أشهر، وقبل ذلك بوقت طويل، وفقًا لما قالته الصحف، سيكون نصف
الجزيرة قد مات جوعًا. وقد ناشدَتِ الحكومةُ وطنيةَ الشعب، وأكَّدت لهم أن مسألة التدخل
في التجارة مؤقتة، وأنهم بقليل من الصبر سيَجتازون هذه المحنة، وسترجع الأمور إلى سابق
عهدها. ولكن معدَّل الوفَيَات كان قد زاد زيادة ملحوظة بالفعل، ولا سيما بين الأطفال،
الذين عانَوْا من نقص الحليب؛ نتيجة لذبح الماشية للتغذية عليها. حدث شغبٌ خطير في
حقول الفحم في لاناركشير وفي البر الرئيسي، إلى جانب حدوث ثورة اشتراكية فيشرق لندن،
الأمر الذي وصل إلى درجة الحرب الأهلية. كان هناك بالفعل صحُفٌ مسئولة أعلنت أن
إنجلترا في وضع سيِّئ للغاية، وأنها في حاجة ماسَّة لسلام فوري؛ تجنُّبًا لحدوث مأساة من
أعظم المآسيفي التاريخ. وكانت مَهمَّتي الآن هي أن أثُبتَ لهم أنهم على حق.
كنا في الثاني من مايو حينما وجدتُ نفسي في مابلين ساندز في شمال مصبِّ نهر
التيمز مرة أخرى. أرسلتُ الغواصة بيتا إلى مضيق سولنت لإغلاقه، وأخْذ مكان الغواصة
كابا الراحلة. وكنت الآن مُمسكًا برقبة بريطانيا بالفعل؛ فقد كانت غواصاتي تُراقب الطرُق
المؤدية إلى لندن وساوثهامبتون وقناة بريستول وليفربول والقناة الشمالية وجلاسكو.
كانت السفن التِّجارية الكبرى، كما عرفنا لاحقًا، تُفرغ مخزوناتها في جالواي وغرب أيرلندا؛
حيث كانت المؤن أرخصَ من أي وقتٍ مضى. عشرات الآلاف كانوا يرحلون من بريطانيا
إلى أيرلندا لإنقاذ أنفسِهم من الموت جوعًا. ولكنك لا تستطيع ترحيل الشعب بأكمله. كانت
الأغلبية العُظمى من الشعب، بحلول مُنتصَف مايو تتضوَّر جُوعًا بالفعل. فبحلول ذلك
الوقت كان القمح بمِائة والذُّرة والشعير بثمانين. حتى أكثر الناس عِنْدًا كانوا قد بدءوا
يرَوْن أن من الضروري ألا يستمر الوضع على ما هو عليه.
في المدن العظمى كانت الحشود الجائعة تَصرُخ طلبًا للخبز أمام مكاتب البلدية،
وكان المسئولون الحكوميون في كل مكان يُهاجَمون، وكثيرًا ما يُقتَلون من قِبَل الحشود
الغاضبة، المكوَّنة في أغلبها من نساء يائسات رأيْنَ أطفالهن يَهلكون أمام أعينهن. أما في
الريف، فكانت جذور النباتات ولحاء الأشجار والأعشاب من كافة الأنواع تُستخدَم كغذاء.

وفي لندن كانت قصور الوزراء الخاصة تُحرسمن قبل جنود أشدَّاء، في حين كانت تُعسكِر
كتيبة من الحرس بشكل دائم حول قصر وستمنستر. كانت حياة رئيس الوزراء ووزير
الخارجية مهددةً طوال الوقت، ومستهدفة في بعضالأحيان. ومع ذلك فقد دخلت الحكومة
الحرب بإجماع آراء كل الأحزاب في الدولة. وكان المجرمون الحقيقيُّون هم هؤلاء، سواء
أكانوا سياسيِّين أم صحفيين، الذين لم يتمتَّعوا بالبصيرة لفهم أن بريطانيا لو لم تُنتِجْ
مؤنها، أو لم يكن لديها طريقة ما لتوصيل المؤن إلى الجزيرة باستخدام نفق، فإن كل
نفقاتها الضخمة على جيشِها وأسطولها ستكون مضيَعة للمال، ما دام أعداؤها يملكون
بضع غواصات ورجالًا يستطيعون استغلالها. لقد كانت إنجلترا دومًا حمقاء، لكنها لم
تنَل ما تَستحقُّه. أما هذه المرة، فقد آن لها أن تدفع ثمن حماقتها؛ إذ لا يُمكِنك أن تتوقع
أن يُنجِيَك الحظ على الدوام.
سيكون من قبيل التكرار لما وصفتُه بالفعل مِن قبلُ أن أحكيَ كل ما فعلناه في الأيام
العشرة الأولى من رجوعي إلى موقعي. خلال فترة غيابي تشجعتِ السفن وبدأتْ تسير مرة
أخرى. وفي اليوم الأول اقتنصتُ أربع سفن. بعد ذلك اضطُررت إلى المضيِّإلى ما هو أبعد،
ومرة أخرى اقتنصتُ عدة سفن في المياه الفرنسية. وذات مرة نجوْتُ بأعجوبة من حادث
دخول بعضالصخور في صمامات كينجستون الخاصة بي، ورفضها العمل أثناء وجودي
تحت سطح الماء. وبنهاية ذلك الأسبوع كانت القناة خاليةً مرة أخرى، وتوجهتْ غواصتي
والغواصة بيتا ناحيةَ الغربمرة أخرى. وهناك تلقينا رسائل تشجيع من الغواصة الصديقة
في بريستول، التي سمعتُ بدورها من دلتا القابعة في ليفربول. لقد أتممنا مَهمتنا على أكمل
وجه. إننا لا نستطيع منع عبور كل المواد الغذائية إلى الجزر البريطانية، ولكنَّنا على الأقل
رفعنا أسعارها إلى مستوًى يجعلها بعيدًا جدٍّا عن متناول الحشود الفقيرة والعاطلة عن
العمل. ودون جدوى صادَرَتِ الحكومة كل المواد الغذائية، ووزعتها على الناس كما يُوزِّع
الجنرال التعيين على قوات الحراسة في قلعة. كانت المهمة ضخمة للغاية، والمسئولية هائلة.
وحتى الإنجليز الذين يتَّسِمون بالغرور والعناد عجزوا عن مواجهتها أكثر من ذلك.
أتذكَّر جيدًا كيف وردت إليَّ الأخبار. كنتُ واقفًا في ذلك الوقت قُبالة سلسي بيل عندما
رأيت سفينة حربيةصغيرة تسير في اتجاه القناة. لم تكن سياستي أبدًا مهاجمة أيِّ سفينة
تسير في هذا الاتجاه. كانت طوربيداتي، وحتى قذائفي، أغلى بكثير من أن أهُدرها على هذا.
لكن لم يسعْني إلا أن ألتفت إلى حركات هذه السفينة التي تتهادى في خط متعرِّج قادمة
في اتجاهي.

أتبحثين عني؟ ماذا بحقِّ السماء تنوي هذه السفينة الحمقاء أن تفعل » : قلت في نفسي
«؟ إذا عثَرت عليَّ
كنتُ طافيًا أسفل سطح الماء مباشرة في ذلك الوقت، واستعددت أن أهبط بالغواصة
في حالة اقترابها مني. ولكن في هذه اللحظة — كانت على بُعد نحو نصف ميل — حوَّلت
اتجاهها نحوي، ولدهشتي الشديدة رأيتُ العلم الأحمر ذا الدائرة الزرقاء، علَمَنا الغالي،
يُرفرِف على قمتها. للحظة ظننتُ أن هذه حيلة ماكرة من العدو لإغرائي بالدخول في
نطاقها. انتزعت نظارتي واتصلت بفورنال. ثم تعرَّف كلانا على السفينة. كانت السفينة
يونو، البارجة الوحيدة السليمة الباقية من بوارجنا. ماذا عساها تفعل برفعها العلم في
مياه العدو؟ ثم فهمتُ الأمر، والتفتُّ إلى فورنال، وألقى كلٌّ منا نفسه بين ذراعَيِ الآخر.
هذا لا يُمكِن أن يعني إلا أننا في حالة هدنة؛ أو سلام!
وكان هو السلام. عرفنا النبأ السعيد عندما ارتفعنا بجوار السفينة يونو، وانتهت
أخيرًا الصيحات المدوية التي حُيِّينا بها. كانت أوامرنا هي أن نُسلِّم أنفسنا على الفور في
بلانكنبيرج. ثم مضَت السفينة عبر القناة لجمع بقية الغواصات. رجعنا إلى الميناء فوق
سطح الماء، ماخرين عُباب الماء عبر الأسطول البريطاني بأسرِه ونحن نعبر بحر الشمال.
تجمعت أطقم الملاحين على جوانب السفن لمراقبتنا. أستطيع الآن أن أرى وجوههم المتجهِّمة
الغاضبة. كثيرون منهم لوَّحوا بقَبضاتهم، ولعنونا ونحن نمرُّ بجوارهم. لم يكن السبب
أننا آذيناهم — إحقاقًا للحق لم يكن الإنجليز، كما أثبتَتْ لنا حرب البوير القديمة، يحملون
أي ضغينة تجاه الجيش إذا كان شجاعًا — ولكنهم كانوا يَعتبروننا جُبَناء؛ إذ هاجمنا
السفن التِّجارية وتجنَّبنا السفن الحربية. تمامًا كما يعتبر العرب الهجوم الجانبي وسيلة
تتَّسم بالوضاعة والجبن. الحرب ليست لُعبة كبيرة، يا أصدقائي الإنجليز. إنها استقتالٌ
لتكون لك اليدُ العليا، وعلى المرء أن يُعمِل دماغه ليجد نقطةضعف عدوِّه. وليسمن العدل
أن تلوموني لِأنني وجدت نقطة ضعفِكم؛ لقد كان هذا واجبي. ربما كان هؤلاء الضباط
والبحارة الذين عَبسوا في وجه أيوتا ذلك الصباح في شهر مايو، قد أعطَوْني الآن حقي
عندما ذهبتْ من أفواهِهم المرارة الأولى للهزيمة غير المستحَقة.
دعُوا الآخرين يَصِفون دخولي إلى بلانكنبيرج؛ تلك الحماسة المتَّقدة التي أبدتْها
الحشود، والاستقبال الجماهيري الرائع لكلِّ غواصة عند وصولها. لا غَرْوَ أن الرجال
استحقُّوا الهِبَة التي منحتْها لهم الدولة، والتي مكَّنَت كلٍّا منهم من أن يعيش مستقلٍّا مدى
الحياة؛ فقد حقَّقوا إنجازًا استثنائيٍّا في القدرة على التحمُّل؛ فتلك الإقامة الطويلة في مثل

هذه الحالة من التوتر الذهني بمكان ضيِّق مُحكَم الإغلاق في جوٍّ اصطناعي غير طبيعي،
ستظل طويلًا تمثل رقمًا قياسيٍّا. وللدولة أن تفخر ببحارتها أيَّما فخر.
لم تكنشروط السلام قاسية؛ لأننا لم نكن في وضعٍ يَسمح لنا بأن نجعلَ من بريطانيا
العظمى عدوَّنا الدائم. كنا نعلم جيدًا أننا انتصرنا في الحرب في ظلِّ ظروف لن يُسمَح لها
بأن تتكرَّر أبدًا، وأن إنجلترا في غضون سنوات قليلة ستَستعيد قوتها السابقة — بل وربما
ستُصبِح أقوى — بفضل الدرسالذي تعلمتْه. وسيكون من الجنون أن نستفز عدوٍّا كهذا.
اتُّخِذَت الترتيبات اللازمة لتحيةٍ متبادَلة لعلمَيِ الدولتين، وتمَّ تحديد الحدود الاستعمارية
بالتحكيم، ولم نطلب تعويضات أكثر من أن تَلتزم بريطانيا بدفع التعويضات التي تحكُم
بها المحكمة الدولية لفرنسا أو للولايات المتحدة مقابلَ الأضرار التي لحقت بهما أثناءَ
العمليات التي قامت بها غواصاتنا. وهكذا انتهت الحرب!
بطبيعة الحال، لن تُغمض إنجلترا عينَيها بهذه الطريقة مرة أخرى! فهذا العمَى
الأحمق يمكن تبريره جزئيٍّا بتوهُّمها أن عدوها لم يكن ليقصف السفن التِّجارية. وكان من
الضروري أن يُخبرها منطقُها السليم أن عدوَّها سيُمارس اللعبة التي تُناسبه على أكمل
وجه، وأنه لن يتردَّد فيما ينبغي له فعله، وإنما سيفعل أولًا ثم يتحدث عما فعل لاحقًا. إنَّ
رأيَ العالم بأسره الآن هو أنه إذا تمَّ إعلان الحصار فإن بِوُسع المرء أن يفعل ما يستطيع
مع مَن يحاول كسره، وأن منع الطعام من الوصول إلى إنجلترا في وقت الحرب كان أمرًا
منطقيٍّا بنفس درجة منطقية منع قوات الحصار من إمداد حصنٍ محاصَر.
ليسلي أن أنُهيَ هذه الرواية بطريقة أفضل من أن أقتبسَالفقرات القليلة الأولى لمقالة
افتتاحية في التايمز، والتي ظهرت بعد إعلان السلام بفترة قصيرة. ويُمكن اعتبارها بمنزلة
تلخيصللرأي العام المُتعقِّل في إنجلترا فيما يخصمعنى الواقعة والدروسالمستفادة منها.
في كل هذه الواقعة البائسة التي خسِرنا فيها جزءًا قيِّمًا من » : يقول الكاتب
أسطولنا التِّجاري وأكثر من خمسين ألف مدنيٍّ، لنا عزاءٌ واحد؛ ألا وهو حقيقة
أن القوة المُنتصِرة مؤقتًا علينا ليست قوية بما فيه الكفاية لتحصد ثمرة نصرها.
ولو كانت هذه الإهانة قد لحقت بنا من جانب أيٍّ من القوى الكبرى لَاستتبع ذلك
بالضرورة فقدان كل المستعمرات الملَكية والممتلكات الاستوائية، إلى جانب دفع
تعويضضخم. لقد كنا تحت رحمة القوة المُنتصِرة علينا بكل ما تحمله الكلمة
من معنًى، ولم يكن لدينا مَناصٌمن أن نخضع لشروطها، مهما كانت صعبة.

وقد تمتَّعتْ نورلاند بالمنطق السليم؛ ففهمتْ أنها لا يجب أن تُسيءَ استخدام
ميزتها المؤقتة، وكانت كريمةً في تعاملاتها. ولو كنا في قبضة أي قوة أخرى
لفَقدْنا وجودنا كإمبراطورية.
حتى الآن ما زلنا على المحَك، ولم تنقضِ مرحلة الخطر؛ فمن الممكن أن
يستفزَّنا أحدُهم للقتال قبل أن نستعيد عافيَتنا، ويستخدم السلاح السهل الذي
اتَّضح بالفعل. ولمواجهة هذه الاحتمالية أسرعَتِ الحكومة في إدخال مخزونات
هائلة من الطعام على نفقة الدولة. وفي غضون شهور قليلة جدٍّا سيكون
المحصول الجديد قد ظهر. بشكل عام يُمكننا مواجهة المستقبل القريب دون
حُدوث أزمة غير ضرورية، رغم وجود بعض مسبِّبات القلق باقية. وسوف
تجتهد حكومتنا الجديدة المتمتِّعة بالكفاءة في التعامل معها بهِمَّة، تلك الحكومة
التي حلَّت محل هؤلاء السياسيين الذين فقدنا الثقة فيهم، والذين انحدروا بنا
إلى هُوَّة الحرب دون التنبؤ بمقدار عجزنا أمام شكل ظاهر من أشكال الهجوم.
إنَّ خطوط إعادة إعمار دولتنا واضحة للعِيان؛ وأولها وأهمها هو أن يدركَ
رجال الأحزاب أن هناك شيئًا أكثر أهمية من نزاعاتهم النظرية حول التجارة
الحرة أو الحماية، وأن كل النظريات يجب أن تُفسِح الطريق لحقيقة أن الدولة
تكون في وضعٍ اصطناعي وخَطِر إذا كانت لا تُنتج داخل حدودها ما يكفي
من الطعام لإعاشة شعبها على الأقل. وسواء أكنا سنَصِل إلى هذا بسَنِّضريبة
على المواد الغذائية الأجنبية، أم بإعطاء منحة للمنتجات المحلية، أم بمزيج من
الاثنين معًا، فهو أمرٌ محل نقاش في الوقت الحالي. ولكن جميع الأطراف متَّفقة
على المبدأ، وعلى الرغم من أنه سيستَتْبِع بلا شكٍّ زيادةً في الأسعار أو تدهورًا
في الجودة في طعام الطبقات العاملة، فإنهم على الأقل سيَضمنون عدم حدوث
كارثة فظيعة كتلك التي مُنينا بها، والتي لا تزال ماثلةً في ذاكرتنا. على أيِّ حال،
لقد تخطَّينا مرحلة الجدل. لا بد أننا فعلنا. والازدهار المتزايد في الشأن الزراعي،
وكذلك — كما نتمنَّى — الإحجام عن الهجرة الزراعية، سوفيكونان من الميزات
التي تُحسب في مقابل العيوب المعروفة.
أما الدرس المستفاد الثاني فهو الإنشاء الفوري لخطين مُزدوِجين بدلًا من
خط واحد من السكك الحديدة تحت القناة. إننا مُذنِبون في هذا الشأن؛ نظرًا
لأن المشروع كان يُعارَض دائمًا في هذه الأعمدة، ولكنَّنا على استعداد للاعتراف

بأنه لو كان الاتصال بالسكة الحديدية قد اجتمع مع الترتيبات الكافية لتوصيل
المؤن من مرسيليا، لكنا قد تجنَّبنا استسلامنا الأخير. ما زلنا نُصر على أننا لا
نستطيع أن نَعتمِد بشكلٍ كامل على نفق؛ نظرًا لأن عدوَّنا ربما يكون لديه حلفاء
في منطقة البحر المتوسط؛ ولكن في حالة وجود نزاع مُنفرِد مع أيِّ قوة من قُوى
شمال أوروبا، سيكون هذا الخط ذا فائدة لا تقدَّر بثمن. ربما تكون هناك أخطار
ملازِمة لوجود نفق، ولكن علينا الآنَ أن نعترف أنها تافهة بالمقارنة بالأخطار
الملازِمة لعدم وجوده. أما فيما يتعلق ببناء أساطيلَ ضخمة من الغواصات
التِّجارية لحمل الغذاء، فتلك بداية جديدة ستكون بمنزلة ضمان إضافي ضد
«. الخطر الذي سَطَّرَ لنا صفحة سوداء في تاريخ بلدنا
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.